عملت منظِّفا لتوفير مصاريف الدراسة و هكذا غيّرت التعليم العالي بأمريكا سأطلق مشروع «ريدي» لتلقين مهارات العمل للطلبة الجزائريين «ماذا تريدون أن تفعلوا في حياتكم؟ هذا السؤال الذي لا أودّ أن أطرحه على أي شخص مجددا!"، بهذه العبارة يبدأ الدكتور فاروق داي إحدى محاضراته على منصة "تيد" العالمية، وهو يشرح بحماس مقاربته حول التعليم المدمج وتصميم الحياة، التي يُعدّ أول من شرع في تطبيقها بالجامعات الأمريكية أين تبوأ مناصب مرموقة كان آخرها نائب رئيس جامعة "جون هوبكينز" العريقة، وفي هذا الحوار الذي خص به النصر، يشرح ابن مدينة بوفاريك هذا الأسلوب الجديد في التعليم، كما يقدم مفاتيح النجاح في الحياة العملية ويبرز علاقتها بالجامعة. حاورته: ياسمين بوالجدري في البداية هل لك أن تطلِع القرّاء من هو فاروق داي؟ من مواليد سنة 1975. نشأت بمدينة بوفاريك بولاية البليدة ودرست إلى أن نلت شهادة البكالوريا في شعبة علوم الطبيعة والحياة ووُجهت إلى المعهد الوطني للتخطيط والإحصاء ببن عكنون. لم أحلم يوما ببلوغ ما أنا عليه اليوم كم كان معدل نجاحك في شهادة البكالوريا؟ في الحقيقة لا أذكر. ربما كان بتقدير جيد، لكن إجابتي على سؤالك هذا تذكرتي بأحد الدروس التي تعلمتها في حياتي والتي أتمنى أن يتعلمها أيضا المقبلون على امتحان البكالوريا، فهذه الشهادة تكون مدعاة توتر، لكن أنظري إلي اليوم، بعد 25 سنة من اجتيازها صرت لا أتذكر المعدل أصلا. في الحياة هناك أمور نقلق لأجلها في مرحلة ما، رغم أنها لا تلعب دورا مهما في مستقبلنا، فهل غيّرت درجة تقدير البكالوريا حياتي أنا مثلا؟. هذا لا يعني أني أقول للتلاميذ لا تدرسوا جيدا ولا تطمحوا للأفضل، لكن يجب عليهم تنجب التوتر. لماذا اخترت تخصص الإحصاء؟ لأنه قيل لي وقتها إني جيد في الرياضيات ولأني رأيت أنه فرع فيه الكثير من الأرقام و الإحصاء، وهو سبب تافه واستراتيجية خاطئة، فعدة طلبة في العالم يجتازون للأسف هذه المرحلة، رغم ذلك التخصص لم يكن مملا حيث أعجبني وحصلت فيه على علامات جيدة. في ذلك الوقت لا أحد سألني ما الذي يلهمني قبل اختيار التخصص ولم تكن لدي فروع كثيرة بقائمة الاختيارات، و اليوم تعلمت في أمريكا أن توجيه الطلبة في الميدان المهني و التجريبي، هو علم قائم بذاته. تغيير نظام التعليم العالي يبدأ من الطالب أنتم اليوم نائب رئيس جامعة جون هوبكينز، بعدما شغلتم منصب عميد بجامعة ستنافورد الأمريكية، هل كنتم تتوقعون تحقيق هذا النجاح قبل 20 سنة؟ (يضحك) لو قال لي أحد في ذلك الوقت أني سأبلغ هذه المناصب لما صدقته. في الحقيقة لم أحلم أبدا بهذا الأمر ولم أخطط له، فعندما سافرت إلى أمريكا بعد حصولي على منحة جامعية، أول ما فعلته كان البحث عن عمل موازاة مع الدراسة، إلى درجة أني قمت في بعض المراحل بثلاثة أعمال في الوقت ذاته، فقد نظفت السلالم والمراحيض والغرف ومراقد الطلبة، و اشتغلت في المخازن وكعون أمن ومرات كنادل و موظف استقبال، و هي أعمال قمت بها داخل وخارج الجامعة، وقد ساعدتني على توفير مصاريف الدراسة والتخرج بدرجة الدكتوراه في إدارة التعليم العالي من جامعة فلوريدا سنة 2012، وهو موضوع اخترته لأني أحسست أنه بإمكاني المساهمة في هذا المجال. كيف وصلت إلى هذه المناصب بجامعة مرموقة كهذه؟ أول شيء يجب القيام به هو العمل وهي نصيحة أوجهها للطلبة، فالعمل يجعلنا نتعرف على أشخاص آخرين و نحقق منتوجا ونتعلم مهنة ونكتسب مهارات، كما يكسبنا وعيا بأنفسنا و بالعالم المحيط، وهذا ما حصل معي، فبالإضافة إلى الوظائف الأخرى التي قمت بها، عملت كمستشار مهني لتحضير الطلبة للحياة العملية، حيث رأى المسؤولون أني قمت بمهامي بشكل جيد، فأعطيت لي مسؤوليات أكثر، و أصبحت في 2010 مديرا لمركز يختص في التوجيه المهني بجامعة كارنيجي مالون بولاية بنسلفانيا أين كنت أحضر مشاريع البحث بإيجاد الأساس المهني الذي يجعل الطالب ينجح، وهو عمل أثار اهتمام جامعات أخرى فمنحت لي جامعة ستانفورد منصب عميد سنة 2013، وهذه كانت ترقية سريعة جدا. هذا سر نجاح الجامعات الأمريكية ما هي المهام التي أوكلت لك بجامعة ستنافورد؟ طُلِب مني تغيير كامل نظام التوجيه خلال 5 سنوات، ما جعله الأحسن في الجامعات الأمريكية ودفع بجامعة جون هوبكينز بولاية ماريلاند، إلى طلب خدماتي سنة 2018، لأصبح نائب رئيس الجامعة المكلف بالتعليم المدمج وتصميم الحياة "لايف ديزاين". على ما يتركز بالضبط نظام التعليم المدمج و تصميم الحياة؟ هو مشروع جديد يجعل الطلبة قادرين على تصميم حياتهم، فنحن نؤمن أن تدريس الطالب لا يكون في القسم فقط، بل هناك فرصة في ما هو موجود خارجه، للتعلم وإنضاج العقل وتطوير المهارات وأساليب التعامل مع المجتمع، بالمقابل هناك طلبة يحضرون الدروس في الأقسام فقط، لكن الحياة مستمرة خارجها، لذلك أدخلنا في المناهج، العمل والتربصات وعمليات التطوع وحتى النقاشات التي تحدث مع الطلبة و غيرهم بالمقهى والمسكن والمطعم والنوادي، فكلها فرص لتعلم القيادة والتواصل والتعامل مع الآخرين وحتى لإطلاق المشاريع. كيف يتم تطبيق هذا الأسلوب الجديد؟ عندما يُقبَل الطالب في كلية ما، نقدم له برنامج الدروس وبرنامجا خارج الدروس يجب أن يندمج فيه أيضا، كالانخراط في جمعية طلابية والتطوع والبحث عن عمل داخل أو خارج الجامعة حتى لو لم يكن في حاجة لأموال، كما نلزمه بالقيام بتربص واحد على الأقل قبل نهاية سنوات الدراسة لتطبيق ما تعلمه، مع البحث العلمي والاحتكاك بجامعات أجنبية ضمن بعثات للخارج. كمثال، يمكن أن يدعو طالب طب، أطباء درسوا في الجامعة ذاتها، إلى الحي الجامعي لينقل خبراته للطلبة، وهو استغلال لوقت الفراغ يجعله يدرس دائما، لأن مدة الدروس صغيرة وتتراوح بأمريكا بين 12 و 15 ساعة في الأسبوع. كل هذه الأمور تعود بالنفع على المجتمع واقتصاد البلاد وأيضا على الجامعة، لأن الطلاب سيكونون مندمجين بها أكثر، ويصبحون أوفياء لها بعد التخرج، فلا يترددون في إلقاء محاضرات مجانية في مجال تخصصهم بها، وقد يوفرون فرص عمل للمتخرجين ويقومون بأشياء أخرى. بدأت في الترويج لهذا الأسلوب التعليمي الجديد بعدة بلدان، ومنها روسيا التي عدت منها مؤخرا. كيف كانت الانطباعات هناك؟ في الواقع هذا المفهوم كان موجودا لكنه غير مطبق والأبحاث حوله قليلة جدا، لكنني طبقته وكنت أول من يقوم بذلك في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أما بالنسبة لزيارتي لروسيا، فقد وجدت أن هذا النظام قابل للتطبيق بها وكذا بالفلبين أين استحدثت مراكز توجيه مهني خلال 4 سنوات، إضافة لزيارتي كوريا والنمسا وألمانيا وفرنسا وانجلترا والصين وسنغافورة، لكن أول شرط لتحقيق هذا الأسلوب هو أن يؤمن الطالب بأن التجربة الثقافية الجامعية تتعدى تلقي الدروس بالأقسام، عليه أن يتقبل أنه طالب ل 24 على 24 ساعة، وليس ل 3 ساعات في اليوم، فتغيير النظام الجامعي يبدأ من الطالب وليس من الجامعة أو الوزارة اللتين ستضطران فيما بعد إلى التكيف لأجله. المرشد والتجربة الغامرة يسمحان لنا بالتحليق! هل هذا قابل للتطبيق في الجامعة الجزائرية؟ نعم، قابل للتطبيق إذا تم إدراج الخبرات خارج الأقسام من تربصات وعمليات تطوع و غيرها، ببرامج التعليم، عدا ذلك فإن الإمكانيات متوفرة، لكن كما قلت لك أهم عامل هو الطالب نفسه. تعتمد الكثير من الجامعات الأمريكية على التبرعات. إلى أي مدى ساهم ذلك في استمراريتها و في نوعية التعليم المقدم للطلبة؟ هذه التبرعات تعطي موارد أكبر وتساعد الطلبة في ميادين البحث وفي التفاعل أكثر مع المجتمع وكذلك على قبول أكبر عدد منهم. معظم الجامعات الأمريكية تعتمد على هذه التبرعات وليس على ما يدفعه الطلبة، كما أن أغلب المانحين هم طلبة قدامى، لذلك فإن خلق تجربة التعليم المدمج للطالب تجعله مرتبطا بالجامعة لأنه يعتبرها جماعة، وهذا هو سر نجاح الجامعات الأمريكية. كثيرا ما نسأل أبناءنا «ماذا تريدون أن تصبحوا عندما تكبرون؟" وهي عبارة تعترض عليها، لماذا؟ الأصح هو أن نسأل الطفل «ما هو مصدر الإلهام لديك؟»، فلا يجب أن يبحث الفرد عن هدف له في الحياة، لأنه سيجد نفسه أمام تنبؤات حول المستقبل بأن يصبح مثلا طبيبا أو مهندسا لأنه رآهما فأراد أن يكون مثلهما، حيث وجدنا من خلال الأبحاث التي قمنا بها، أن هذا التنبؤ هو في الواقع تمرين غير مفيد. بالمقابل، الإلهام يأتي من تجارب حقيقة، عند قراءة كتاب أو خوض تجربة عمل أو الدراسة، ثم بعد الإلهام يجب أن نتحرك للقيام بخطوة جريئة، وإلا فلن نفعل أي شيء، وهنا أوجه نصيحة للآباء: لا تسألوا أبناءكم ما الذي تريدون القيام به، بل اسألوهم ما مصدر إلهامكم. توجد أيضا مشكلة ضغط الآباء على الأبناء في اختيار التخصصات وهذه مشكلة لا تقتصر على الجزائر بل نجدها في العالم كله، وبالأخص في دول آسيا. إفريقيا مستقبل العالم وعلى الجزائر أن تتأهب لذلك تعتمد في أسلوب التعليم العالي على فكرة «المرشد»، لكن العديد من الطلبة لا يجدون هؤلاء المرشدين و قد تتبخر أحلامهم بسبب سوء أو غياب التوجيه. ما النصيحة التي تقدمها للطلبة في هذا الخصوص؟ هناك أمران يمكنهما أن يغيرا حياة المرء، وهما المرشد والتجربة الغامرة، فهذه الأخيرة تجعلنا نكتسب علاقات أكثر ونعيش تجارب مختلفة عند السفر أو الدراسة أول العمل أو القيام بعملية تطوع مثلا، ومنها تأتينا الفرص، أما المرشد الذي يعرف ميدان إلهامك، فهو شخص يوجهك و على الجامعة أن تلعب دورا للوصول إليه ليكون متاحا للجميع مهما كانت مستوياتهم الاجتماعية.. أتخيل الإلهام و التجربة الغامرة كجناحين يجعلان الإنسان يُحلّق. تُشجع على استعمال العلاقات للوصول إلى فرص، لكن هذا الأمر قد يترجم في بعض المجتمعات على أنه محسوبية، ما رأيك؟ المحسوبية أو «المعريفة» كما نسميها في المجتمع الجزائري، يطلق عليها اسم آخر في أمريكا، وهو شبكة العلاقات «نيتووركينغ»، لكن لكل بلد ثقافة واقتصاد و وضعية معينة. في إحدى محاضراتك على منصة «تيد» الشهيرة، ذكرت أن معظم الأشخاص الناجحين قالوا إنهم استطاعوا تحقيق النجاح عن طريق الصدفة. ألا يلغي هذا الأمر أهمية الاجتهاد؟ بالفعل، لقد تحدثت إلى الكثير من الأشخاص الناجحين في العالم، و قالوا لي إنهم نجحوا بالصدفة، لكن هذا ما كان يبدو لهم، فعندما تقصيّت وجدت أن هؤلاء قاموا بتجربة غامرة وكان لهم مرشد. يعاني عدة شباب من خريجي الجامعات الجزائرية، من البطالة، وأهم حاجز يصادفهم هو غياب الخبرة. كيف يمكنهم تجاوز هذا الأمر؟ هنا نعود لفكرة التجربة الغامرة التي تأتي بالخبرة، وهذه الأخيرة يمكننا أن نحصل عليها بأن يكون الطالب طالبا ل 24 على 24 ساعة مثلما أسلفت سابقا، فيكتسب الخبرات ويحصل على فرص توظيف من خلال التربصات وعلاقات كثيرة تفتح له الأبواب، ما قد يجعله قادرا حتى على تأسيس شركة ناشئة عند التخرج. أثار توجه الحكومة الجزائرية إلى اعتماد اللغة الانجليزية في التعليم العالي و قطاعات أخرى، الكثير من النقاشات. هل ترى أن هذا القرار صائب؟ هذا سؤال معقد يتطلب جوابا لا يقتصر على قول نعم أو لا، لكن ما يمكنني قوله هو أن العالم يصغر يوما بعد يوم بفضل الانترنت ووسائل التواصل، واستعمال الانجليزية أو الصينية أو أية لغة أخرى ليس فكرة سيئة، كما أن تعدد اللغات مهم خاصة في مجال التعليم العالي. يجب البحث عن مصدر إلهام وليس عن هدف كل التقارير تبين أن أفريقيا ستكون الاتجاه الجديد للصناعة في العالم، هي المستقبل و يجب أن تكون الجزائر جاهزة لهذا الأمر، وهو ما جعلني أطلق مع الدكتور مراد بوعاش (مسؤول جزائري بشركة ياهو يقيم حاليا بأمريكا) مشروع «ريدي» لتحضير الطلبة والشباب بالجزائر لمهارات العمل. على ما يرتكز هذا البرنامج؟ على تعليم مهارات التواصل والبرمجة والاتصال واللغات و كذا التعامل مع ثقافات مختلفة والقيادة، حيث سيبدأ في ديسمبر من جامعات قسنطينة، سكيكدة وبسكرة. أنا جد متحمس له. ما هي النصيحة التي توجهها للطلبة والشباب عموما؟ كن طالبا ل 24 على 24 ساعة، قم بشيء ينفع المجتمع وبتجربة غامرة، ابحث عن مرشد، سواء كان جارا أو أستاذا أو غيره ليوجّهك، وأخيرا لا تبحث عن هدف بل عن مصدر الإلهام وخذ خطوة جريئة.