مقابر عشوائية و أخرى تضيق بموتاها تعرف مقابر بلدية قسنطينة، تشبعا كليا لدرجة أن إيجاد موقع للدفن بات أمرا شبه مستحيل، و هو ما فرض اللجوء إلى فتح القبور القديمة و إعادة الدفن بها مجددا كإجراء مؤقت، غير أن هذا الحل استنفد مؤخرا بعد تقلص عدد القبور التي يرخص فتحها قانونيا. واقع جعل وضعية المقابر معضلة حقيقية تؤرق المواطنين و المسؤولين على حد سواء، في ظل شح العقار المناسب و تأخر استحداث مواقع جديدة للدفن بسبب تحفظات تقنية، حالت دون المصادقة على استغلال الأرضيات التي اقترحتها مؤسسة تسيير المقابر لبلدية قسنطينة على مصالح الولاية، و التي كان من المفروض أن تنشأ عليها مقابر أكثر ملاءمة و تنظيما، في إطار مشروع المقابر الذكية، الذي سيساهم أيضا في حل مشكلة المقابر العشوائية أو العائلية التي يصل عددها في بلدية قسنطينة وحدها إلى 24 مقبرة. التشبّع يضاعف الفوضى تحصي بلدية قسنطينة 13 مقبرة تمتد على مساحة تعادل 70 هكتارا حاولنا الوقوف على واقعها، فقادنا استطلاعنا، إلى أكبر أربع مقابر في الولاية، وهي على التوالي المقبرة المركزية ذات 15 هكتارا، مقبرة زواغي سليمان 12 هكتارا، و مقبرتي القماص4 هكتارات، و بن الشرقي هكتار واحد. النصر انطلقت من المقبرة المركزية التي وصلنا إليها في حدود الساعة العاشرة و النصف صباحا، توغلنا نزولا في الجهة السفلية، ثم عدنا أدراجنا صعودا نحو الجهة العلوية، فكان المشهد واحد، فوضى في الدفن و تداخل بين القبور أغلق كل المسالك و جعل مهمة التنقل جد صعبة، بل مستحيلة، دون المرور فوق القبور التي غطتها النباتات و الأعشاب الضارة ، و اخترقت جذوع الأشجار بعضها. كنا كمن يسير وسط غابة استوائية يتطلب التقدم فيها الاستعانة بغصن أو قضيب حديدي لإزالة الأعشاب و الشجيرات بين المسالك غير المعبدة، وهو ما قمنا به تحديدا، رغم الخوف من إمكانية التعرض للسعة ثعبان أو حشرة سامة، بسبب قذارة المكان و رطوبته، فبعض القبور في الجهة العلوية كانت غارقة في برك من المياه. مواطنون قابلناهم في المكان تحدثوا للنصر، عن تعرض قبور أحبائهم للتخريب بسبب عمليات الحفر العشوائية التي يقوم بها مواطنون آخرون، إذ أن انعدام المساحات فرض تلاصق القبور و دفع بالبعض إلى الاعتداء على مساحات قبور أخرى، و هو أمر لاحظناه خلال جولتنا داخل المقبرة، كما لاحظنا نقص النظافة، ناهيك عن وجود حارس واحد فقط عند المدخل، يستحيل عليه مراقبة المدفن كاملا و التأكد من أية حركة مريبة لزواره، وهو تحديدا ما أكده لنا عند تقربنا منه، حيث أخبرنا أن مشكلة المقبرة لا تكمن فقط في التشبع و الفوضى، و نقص الأعوان، بل تشمل سلوكيات المواطنين و افتقار الكثيرين للوعي. و أشار المتحدث إلى بعض الممارسات المشينة التي تتعلق بالسحر و الشعوذة و التي تكتشف آثارها في كل مرة يتم خلالها تنظيف المقبرة، كما تحدث عن سيدات يحاولن دفن أجنة ميتة، دون ترخيص و عند كشفهن يلذن بالفرار، و أخريات لا يحترمن مواقيت الزيارة الخاصة بالنساء، و أشخاص يتسللون للسكر فوق القبور. نفوذ و محسوبية حتى في اختيار القبور أكثر التصرفات غرابة، كما قال الحارس الشاب، هي العنجهية التي يتصف بها البعض خلال عمليات الدفن، حيث أنهم يستخدمون نفوذهم و مناصبهم لاختيار مواقع دون غيرها، و يرفضون احترام ضوابط الدفن حتى وإن تعلق الأمر بمواقع غير مناسبة أو يحظر الحفر فيها، لأنها تسد المسالك نحو باقي القبور أو تمس حرمة قبور أخرى. المتحدث قال، أنه كثيرا ما يصطدم بعائلات تحتكر مربعات معينة داخل المقبرة، بحجة أنها عائلية خاصة بأمواتها ولا يحق لأحد آخر الدفن فيها أو بالقرب منها، كما أن مواطنين يتعمدون تجاوز المساحة المحددة و يبنون و يسيجون قبور موتاهم بطريقة مبالغ فيها، تضيق على باقي القبور. قبور يشترك فيها أكثر من ميتين و أخرى مخالفة للشريعة نفس الوضع الذي عايناه في المقبرة المركزية ، وقفنا عليه في باقي مقابر البلدية ، على غرار بن شرقي و القماص و زواغي سليمان، حتى أننا عجزنا عن إيجاد بعض القبور التي بحثنا عنها في مقبرة بن الشرقي، بسبب وضعيتها الكارثية، فقد أخفت الأشواك الشواهد بشكل كلي. بالمقابل كان الوصول إلي قبور أخرى مستحيلا في مقبرة القماص، أين أكد لنا مواطنون أنها كثيرا ما تتحول إلى مرعى للمواشي و مرتع للسكارى. ما شد انتباهنا في المقابر التي زرناها، هو وجود قبور مبنية بطريقة مخالفة للشريعة الإسلامية و عكس اتجاه القبلة، كما هو الحال في « فج الله و أكبر» المعروفة بزواغي، و لاحظنا خلال جولتنا، رطوبة الأتربة التي تغطي بعض القبور القديمة، والتي بدا جليا أنها أتربة جديدة، سألنا الحراس عنها، فقالوا لنا أن أماكن الدفن غير متوفرة ، لذلك فإن أغلب العائلات باتت تلجأ إلى فتح القبور و إعادة استخدامها للدفن، و يتعلق الأمر بالقبور التي يزيد عمرها عن خمس سنوات، و منها ما فتح أكثر من مرة، أي أنها تضم ميتين إلى ثلاثة موتى. مواطنون كثر قابلناهم، طرحوا نفس المشكل، و أكدوا لنا عجزهم عن إيجاد أماكن لدفن موتاهم، بالمقابل تطرق من تحدثنا إليهم في المقبرة المركزية إلى تكاليف الدفن، بما في ذلك الحفر و تحديدا محيط القبر التي تتجاوز، حسبهم، 4 آلاف دج، تدفع لخزينة المقبرة، حيث تكلف عملية إعادة فتح القبر و استغلاله مجددا وحدها، مبلغ ألفين و 200دج ، بالمقابل فإن عمليات الدفن في مقابر البلديات الأخرى، مجانية، حسبهم، لأن تسييرها يعود إلى المواطنين، و ليس إلى مصالح البلدية. رئيس مؤسسة تسيير المقابر عبد المجيد عامر مقابر البلدية متشبّعة و مشكل العقار أعاق استحداث مواقع جديدة أوضح السيد عبد المجيد عامر، مدير مؤسسة تسيير المقابر، أن وضعية 13 مقبرة ، تابعة لبلدية قسنطينة، تعد نتاجا لتراكمات و إهمال طالها لسنوات عديدة، وهو ما فرض حالة التشبع التام و فوضى الدفن التي تطبعها، مشيرا إلى أن الحل الوحيد يكمن في إنشاء مقابر جديدة تسير، وفق مخطط المقابر الذكية الذي جاءت به المؤسسة عند إنشائها سنة 2016، و الذي تم بموجبه اقتراح تخصيص أوعية عقارية جديدة لفك الضغط عن المقابر، و أعدت في هذا الصدد بطاقة تقنية تخص بعض القطع الأرضية، على غرار تلك المتواجدة في منطقة « سوطراكو» بحي بوذراع صالح و منطقة « البودريار» أو حي البارود الجديد، عرضت على الولاية. و أسندت مهمة إعداد دراسة تقنية خاصة بها، للجنة ولائية متخصصة، أبدت إلى غاية الآن تحفظات عديدة على أغلب المواقع المقترحة، بالنظر إلى طبيعة أراضي الولاية و اتساع رقعة الانزلاقات بها، وهو ما أجل مشروع استحداث مقابر جديدة إلى غاية الآن، و عقد وضعية ما هو موجود، خصوصا المقبرة المركزية و مقبرة زواغي سليمان التي تعد قبلة لسكان المدينة الجديدة، و تحصي ما يعادل 12 إلى 15 عملية دفن يوميا في بعض الأحيان، و ذلك على اعتبار أن التوسع العمراني علي منجلي لا يزال يفتقر لمقبرة خاصة. و أضاف المتحدث، أن إنشاء مقابر جديدة سيحل مشكل الدفن في الولاية، كما سيسمح بإعادة تنظيم هذه العملية كليا، لأن مخطط العمل القادم سيعتمد على تحديد مربعات الدفن، ناهيك عن ضبط سجل إلكتروني لكل عملية يتضمن اسم الميت و موقع القبر و رقمه و تاريخ الدفن و تفاصيل أخرى. نقص اليد العاملة وراء ضعف الصيانة بخصوص وضعية مقبرة القماص، أوضح المسؤول، أنها شائكة، لأن الأمر يتعلق برفض ملاك الأرض محل الجدل" الورثة" ، التفاوض مع البلدية بخصوص استغلال مساحة إضافية لتوسيع المقبرة، بالمقابل وافق ملاك أرضية مقبرة جبل الوحش على التنازل عن 10 هكتارات إضافية، كوقف لتوسيع محيط الدفن، فيما يبقى مشكل التشبع مطروحا بالنسبة لباقي المقابر، خصوصا بن شرقي و المركزية و زواغي، لدرجة أن إجراء إعادة فتح القبور لم يعد ممكنا، في ظل استيفاء قائمة القبور التي يسمح القانون و الشرع باستغلالها مجددا، وهي تلك التي تجاوزت خمس سنوات. وعن قضية نقص النظافة و التهيئة، قال المتحدث أن المشكل راجع لمحدودية اليد العاملة المجندة لتنظيف و صيانة 70 هكتارا من المقابر وهو مشكل، استدعى الترخيص بالدفن ليلا،كما قال، من أجل تسهيل عمل الأعوان و تخفيف الضغط صباحا، في انتظار تفعيل الحلول التي تمت مناقشتها مؤخرا مع رئيس بلدية قسنطينة. من جهة ثانية، لا يمكن، حسبه، إغفال مشكل نقص الوعي لدى المواطن ما يكرس بعض الممارسات غير المقبولة، ناهيك عن رفض مسيري بعض المقابر، المساهمة في حملات النظافة التي تنظمها مؤسسات النظافة و التسيير التابعة للبلدية، كما لا يمكن أيضا، كما أضاف، التغاضي عن مشكلة 24 مقبرة عائلية، التي أحصيت بالبلدية، وهي مقابر يصعب نقلها بسبب انعدام العقار البديل. أما في ما يتعلق بتكاليف الدفن التي تحدث عنها المواطنون، أوضح المتحدث، أن مداخيل المقابر رمزية، و لا تكفي حتى لتغطية مصاريف الصيانة، إذ لا يتعدى مبلغ الدفن 800 دج، مقابل 2800دج لغلق القبر و إحاطته، وعليه فإن المداخيل الإجمالية للمقابر 13، لا يتجاوز مبلغ 7 ملايين دج، علما أن هناك مقابر لا تدفع حتى تكاليف الحراسة. رئيسة لجنة التهيئة و التعمير لامية جرادي الوضعية ناتجة عن فوضى العمران و المقابر الذكية هي الحل أكدت رئيسة لجنة التهيئة و التعمير بالمجلس الشعبي الولائي، المهندسة لامية جرادي، أن ملف المقابر ببلدية قسنطينة و في الولاية ككل، سيعرف انفراجا بمجرد تفعيل مشروع المقابر الذكية التي شرع في إنجازها على مستوى بعض البلديات، على غرار بلديتي زيغود يوسف و ديدوش مراد. و يتعلق الأمر، كما أوضحت المتحدثة، باستحداث مقابر أكثر تنظيما، مع تفعيل صارم لكل القوانين التي ضبطها المشرع الجزائري، في ما يخص تسيير هذه التحصيصات غير النفعية، بما في ذلك قانون رقم 11 10 المؤرخ في 22 يونيو 2011 و المتعلق بالبلدية، ناهيك عن الأمر رقم 75 79 المؤرخ في 15 ديسمبر 1975 ، و المتعلق بدفن الموتى. و يتضمن المشروع، بالإضافة إلى ذلك إصدار تعليمة لإحصاء المقابر العشوائية و تنظيمها ، خاصة و أن أغلبها تجاوزت طابعها العائلي و بدأت في التوسع، بعيدا عن الرقابة، كما يستوجب المشروع اختيار أرضيات مسبقا، ضمن المخطط التوجيهي للتهيئة و التعمير و مخططات شغل الأراضي، لتفادي تكرار فوضى المقابر القديمة، مع إنشاء مقابر جديدة و توسعات في كل البلديات، إضافة إلى إنشاء وحدة في المدينة الجديدة. ناهيك عن إنشاء مقابر على مستوى الأقطاب الحضرية عين نحاس و الرتبة، و إصدار عقود ملكية للمقابر الجديدة كوقف، مع إصدار مقرر التسيير لصالح البلدية، مع دعم المؤسسات الخاصة بتسيير المقابر بإعانات مالية و السماح لمؤسسة بلدية قسنطينة بزيادة عدد العمال، و رقمنة المعلومات المتعلقة بالقبور، حسب المسؤولة .