موسم التسوق إلى"السويقة" بدأ قبل الموعد يستقبل حي السويقة بالمدينة القديمة بقسنطينة المدمنين على زيارته في شهر رمضان بحلة جديدة بعد الترميمات التي حظيت بها بعض السكنات بمدخل باب الجابية (أحد الأبواب الرئيسية السبعة بسور قسنطينة الحصين وأعلاها على ارتفاع 510 متر، و الذي ينفتح على الطريق الممتد إلى سيدي راشد)، و السيّدة و كذا بعض السكنات بملاح سليمان التي انطلقت بها الأشغال مؤخرا. فالسويقة التي يتضاعف عدد زوارها في شهر الصيام، لتعوّد الصائمين من داخل و خارج المدينة على التردد عليها بحثا عن عبق التراث و عراقة التاريخ التي تعطي الشهر الكريم نفحات خاصة ، زيّنت واجهتها لاستقبال ضيوفها الذين لا يمر يوما على الكثيرين منهم دون قيامهم بجولة و لو سريعة بين أزقتها و ممراتها الضيقة التي رغم ما أصابها من خراب نتيجة التهديم العمدي تارة و المؤثرات المناخية تارة أخرى بقيت صامدة تأبى الزوال و طمس تراثها و إرثها العريق ببيوتها المتراصة التي تخترقها الأزقة الضيقة و ممراتها الطويلة أحيانا و القصيرة و الملتوية أحيانا أخرى و التي يخيّم عليها السكون و الهدوء رغم الضجة الكبيرة التي تحدثها الحركة الكثيفة للزبائن و السواح الداخليين و العائدين إليها تحت وقع الشوق و الحنين المتزايد لأجوائها الساحرة بفضل مبانيها الطينية الجميلة الباعثة للهدوء و الفضول لاقتحام أسوارها و اكتشاف ما تخفيه من أسرار تاريخية لحقبات ثرية بالأحداث التاريخية.فالسويقة التي بقيت صامدة طيلة عهود بدأت تجني ثمار صبرها الطويل على المر، بفضل مشروع ترميمها الذي بانت بوادره الباعثة على الأمل على حد تعبير عدد من المواطنين الذين تحدثنا إليهم بمختلف الأزقة، حيث أعرب البعض عن ارتياحهم باستعادة الحي لبعض ملامحه و خصائصه العمرانية لاسيّما بالمدخل السفلي من جهة قنطرة سيدي راشد. و قال صاحب محل أمين خوجة للتحف النحاسية و مجموعة من رفاقه الذين مروا لإلقاء التحية عليه، بأن مبادرة الترميم جاءت في وقتها، لكنهم أجمعوا على أملهم في تعميم المبادرة و متابعة باقي البنايات و قالوا أن السويقة لن تستعيد "سولها"(سحرها) القديم إلا إذا تخلصت من العادات السلبية التي حوّلتها إلى سوق فوضوية فيما عرفت في الماضي بمحلاتها المتخصصة في مختلف الصناعات التقليدية، قبل أن تدخل عليها تجارات أخرى جعلتها لا تختلف في شيء عن حي الجزارين المتخصص في بيع كل أنواع اللحوم على حد وصف السيد حداد.و ذكرت غنية التي كانت تنتقي بعض المكسرات و الفواكه المجففة التي تدخل في تحضير الأطباق التقليدية الخاصة برمضان أنها تفاجأت عند وصولها إلى حي السويقة بالتغييرات الطارئة على واجهته:" لم أزر المكان منذ قرابة سنتين، و قد فوجئت عند رؤية البنايات المرممة في المدخل السفلي و سررت برؤية الطراز المعماري التقليدي ينتعش ".و علق أحد المارة في الثلاثينات من العمر:"سنصوّر قريبا أحداث باب الحارة القسنطيني". و تقاربت إجابات كل من سألناهم عن رأيهم في الوجه الجديد للسويقة، و تراوحت بين معجب و متفائل و بين منتقد و متشائم، حيث قال البعض أنهم لم يلمسوا النمط المعماري القسنطيني في البنايات المعاد بنائها. فيما أثنى الكثيرون على التغييرات التي طرأت على المكان ووصفوها بالإيجابية و الباعثة على الأمل خاصة في المجال السياحي و بشكل خاص بعد تصوير المخرج العربي الشهير نجدت أنزور بعض مشاهد مسلسل "ذاكرة الجسد" بهذا الحي العريق و توّقع زيادة عدد السواح بفضله بعد عرضه في رمضان، و هو ما يستدعي إسراع وتيرة الترميم و تعميمها لتشمل كل البنايات القديمة بالحي في رأي عمي موسى أحد عشاق المكان و أكثر زائريه في رمضان حسبه.و قال بعض الزوار من خارج المدينة أنهم ظنوا أنفسهم بحي آخر بعد ما شاهدوه من تغيير على بعض البنايات التي لفتت انتباههم بأبوابها الخشبية المرصعة بالنحاس و نوافذها التقليدية و جدارية السيراميك المزيّنة لمدخل أول بيت في مدخل السويقة و ممراتها الجميلة بحجارتها المصقولة. و استطرد أحدهم قائلا أنه عاد لزيارة المدينة التي درس بجامعتها و عشق أزقتها القديمة و مازال يحن لممراتها الضيقة و ما تبعثه من هدوء و طمأنينة لا سيّما في المساء. و أسر الزائر رضوان القادم من ولاية باتنة أنه تعوّد على زيارة السويقة في رمضان و يتردد عليها على الأقل أربع مرات في الشهر المبارك.هذا و لم يخف بعض المتسوقين قلقهم بشأن مستقبل السويقة التجاري، و قال البعض أنهم يخشون حرمانهم من مصدر رزقهم بعد البدء في ترميم الشطر الثاني من الحي، و هم الذين وجدوا فيه فضاء جيّدا للتجارة السوداء و الكسب المضمون لكثافة الحركة التجارية و تردد الزبائن على الحي الذي يحتضن أحد أقدم المطاحن التي لا زالت تسجل إقبالا كبيرا على خدماتها في كل المواسم و في شهر رمضان على وجه الخصوص للجوء ربات البيوت إلى رحي الفريك المادة الأساسية لإعداد شوربة "الجاري"الطبق الرئيس على موائد القسنطينيين طيلة الشهر الكريم.و السويقة التي منحت قسنطينة القديمة طابعا متميزا فريدا للتعايش بين البشر في مساحة صغيرة وبتقاليد تحتم عليهم جميعا احترامها و عدم الخروج عنها ، تحولت إلى مزار و قبلة أولى تستعيد بريقها مع قدوم رمضان كل سنة لتعلقها بالأجواء القديمة المستوحاة عبقها من ماضيها العريق التي تحاول بعض العائلات الحفاظ عليه لارتباطها بالذكريات الجميلة.و عن عمليات الترميم أكد المهندس ن/توام المسؤول عن خلية المدينة القديمة بأن أربعة بيوت من ضمن خمسة المرممة بباب الجابية باتت جاهزة و سيتم تسليمها لأصحابها مع نهاية شهر رمضان أو بعده مباشرة فيما انطلقت عمليات أخرى بحي ملاح سليمان، موضحا أن هناك عدد كبير من البيوت يستحيل ترميمها و تتطلب الهدم و إعادة البناء، مثلما حدث مع البيت المتواجد في مدخل السويقة الذي أعيد بناءه بعد تأكيد المهندسين بأنه جدرانه المبنية من طين لن تتحمل أي ترميم.و من جهته ذكر صاحب مقاولة "ايسفا" من ولاية غرداية المشرفة على العملية بأن 17 من بين 22 شابا المستفيدين من التكوين في مجال ترميم البنايات القديمة أصبحوا قادرين و مستعدين لفتح لمؤسسات مصغرة خاصة، مشيرا إلى انطلاق أشغال ترميم ثلاث بيوت أخرى بذات الحي، معربا عن تفاؤله و ثقته في قدرات اليد العاملة الجزائرية و قدرتها على إعادة بعث المدينة القديمة بنمطها المعماري المميّز.