المدارس الفرنسية شكلت خلفية للغزو الفكري خلال القرن 19 قال مولود قرين، أستاذ التاريخ المعاصر، بجامعة الدكتور يحيى فارس بالمدية، إن مسألة التعليم الفرنسي في الجزائر خلال القرن 19م، كانت بمثابة سلاح استخدمه الغزاة الفرنسيون لتغريب المجتمع الجزائري والقضاء على مقوماته الحضارية خاصة اللغة العربية والدين الإسلامي، لكن هذه المدارس لم تحقق حسبه، نتائجها المرجوة خلال القرن التاسع عشر، لأنها كانت تعني الانسلاخ عن المقومات في نظر أفراد المجتمع. محاولة لتجنيد نخبة منشقة عن المجتمع وأكد الباحث، أن مسألة فتح المدارس وتعليم الأهالي منذ 1830م، كانت من أكثر المسائل المطروحة للنقاش سواء في الحكومة العامة في الجزائر، أو في المجالس النيابية المختلفة وحتى في باريس، حيث كان المتحمسون للتعليم يستندون إلى مجموعة من الحجج في مقدمتها اعتبار المداس الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تحقيق الإدماج، كما كانوا يعتقدون أن عملية التفكيك الاجتماعي والثقافي تنطوي بالدرجة الأولى على تجنيد نخبة منشقة عن المجتمع الذي تنتمي إليه، فتتجه بالضرورة إلى الثقافة التقليدية التي أصابها التدهور والجمود، وبالتالي يكون الاستلاب الثقافي للنخبة موازيا للاستلاب الروحي للجمهور، وهكذا يفقد المجتمع المستعمَر «أساس وجوده العقلي». وذكر المؤرخ، في حديث للنصر، أن محاولات الاستعمار الأولى لغرس الثقافة الغربية في فكر المجتمع الجزائري، بدأت سنة 1836م، حيث أسست الإدارة الفرنسية أول مدرسة «عربية- فرنسية» في مدينة الجزائر وأخرى في عنابة سنة 1837م، ثم ذهب الحاكم العام «بيجو» إلى أبعد من ذلك في محاولة منه لتّأثير على أبناء العائلات الجزائرية الكبيرة، باقتراح تأسيس «كوليج» في باريس يستقبل الأطفال الأهالي، وبالفعل تأسس هذا «الكوليج» بمقتضى قرار ملكي صدر يوم 11 ماي 1839م، وكان ينظر إليه على أنه المؤسسة الوحيدة القادرة على تكوين نخبة تعمل من أجل الاتحاد بين العنصرين العربي والأوروبي، غير أن أغلب الجزائريين ظلوا معرضين عن هذه المدارس، ومتمسكين بتعلم اللغة العربية والتعاليم الدينية المستوحاة من القرآن. وأضاف قرين، أن الإدارة الاستعمارية حاولت في ظل الجمهورية الثانية «1848-1852م» أن تولي عناية بمسألة التعليم، إذ شهد عام 1848م تأسيس أكاديمية الجزائر «مديرية التربية والتعليم» لتشرف على التعليم في الجزائر، وكانت تتصل مباشرة بوزارة التربية والتعليم في باريس ويرأسها مفتش عام يساعده نائبان، ثم أسست بعد ذلك ثلاثة مناصب « في كل مقاطعة» لمفتشين خاصين بالتعليم الابتدائي. ومهمة هذه الأكاديمية، بحسب المتحدث، هي تنظيم التعليم في المدارس المحاذية للمساجد قصد تجاوز رفض الأهالي، شريطة أن يكون تعيين المدرس «المؤدب» من طرفها، وتكون هذه المدارس تحت رقابتها المباشرة، فكان تلاميذها يتلقون مبادئ كتابة اللغة العربية، وبعض الدروس الأولية في الجغرافيا والتاريخ والحساب، ومبادئ الكيمياء والفيزياء، مقابل غرس عميق لحب اللغة الفرنسية والاطلاع على الثقافة الغربية. وأكد الأستاذ، أنه بعد مرور أكثر من عشرين سنة من الاحتلال، زادت حاجة الإدارة الاستعمارية إلى نخبة أهلية موالية لها أو على الأقل غير مهددة لمصالحها في الجزائر، وفي نفس الوقت تكون منافسة لنخبة الزوايا أو النخبة المتخرجة من الحواضر العلمية في المشرق والمغرب فكان المتحمسون لتعليم الأهالي، يرون أن تشجيع التعليم العالي للمسلمين، سيحّد من هجرات الجزائريين العلمية إلى مختلف «مراكز التعصب» أين يعودون محمّلين بمشاعر الكراهية ضد الفرنسيين. كما كانت المدارس الفرنسية تهدف للحد من تسرب أفكار الجامعة الإسلامية من الحواضر العلمية في المشرق، لذلك كانت الإدارة الاستعمارية تشجع الأهالي على الالتحاق بها، وذلك من خلال رفع منحهم، ومضاعفة أجور الموظفين المسلمين، لأن التعليم بهذه المدارس سيساهم في إرساء منظومة تعليمية جديدة، ويؤدي حسب الكثير من منظري الاستعمار، إلى إضعاف تأثير الزوايا ويعمل على تهيئة الأذهان لاستقبال والاندماج في الحضارة الغربية، لذلك أسست ما يعرف بالمدارس الرسمية الثلاث بموجب قرار 30 سبتمبر 1850م، في كل من تلمسان و قسنطينة و المدية. وأوضح الباحث، أن الإدارة الاستعمارية أسست المدارس بمحاذاة المساجد العتيقة بهذه المدن لكي لا ينفر منها السكان، مشيرا إلى أن اختيار هذه المدن كان مدروساً ومضبوطًا بدقة، حيث عرفت بعراقة مدارسها وإرثها الثقافي، فتلمسان كانت في فترة التاريخ الإسلامي الوسيط، وخلال العهد العثماني حاضرة علمية امتد إشعاعها إلى المدن والعواصم الإسلامية شرقاً وغرباً، فشهدت بناء عدة مدارس علمية انكب جيل من العلماء للتدريس بها، وتثقيف الأجيال وتنويرها. نفس الأهمية حظيت بها مدينة قسنطينة حسبه، فقد اشتهرت بمدرسة «سيدي الكتاني» التي اتخذت كمقر للمدرسة الجديدة، أما مدرسة المدية فقد نقلت إلى البليدة و من ثم العاصمة، التي لا تقل أهمية عن تلمسانوقسنطينة. وأوضح المؤرخ، أن هذه المدارس وضعت تحت تصرف مستشرقين فرنسيين يحسنون اللغة العربية، وذلك بهدف إبعاد الجزائريين عن تأثير علماء الدين المتخرجين من مختلف الزوايا أو المدارس التي كانت منتشرة في أرجاء الجزائر حينها، لذلك فلا غرابة حسبه، في تدني مستوى خريجيها خاصة في الحس الأدبي. مؤكدا، أن الإدارة الفرنسية حاولت من خلال مناهج وبرامج هذه المدارس المتمثلة في النحو وبعض مبادئ الفقه والتوحيد، والتاريخ والجغرافيا القضاء على الثقافة الوطنية، و تجنيد أشباه مثقفين لا طموح لهم سوى الولاء للمستعمر والارتماء في أحضان الإدارة والحصول على المناصب والأوسمة والنياشين. فخ «كوليج» أو المدارس العربية الفرنسية وأضاف المتحدث، أن عقد الخمسينات شهد مناقشات كبيرة حول قضية تعليم الأهالي، وكل الآراء أجمعت على أن التعليم ضروري لأطفال المسلمين خاصة المنحدرين من الأسر الكبيرة، وذلك حتى يسهل صهر المجتمع الجزائري في بوتقة المجتمع الفرنسي، لذلك أسست المدارس الابتدائية المختلطة «عربية- فرنسية» وذلك بموجب مرسوم رئاسي صدر يوم 14جويلية 1850، و توزعت في المناطق الآهلة بالسكان، وهي عبارة عن مدارس ابتدائية، تدرس فيها «العربية والفرنسية» أما موادها فهي مفاهيم الحساب، التاريخ والجغرافيا و الرسم، إلى جانب تكوين فرقة موسيقية للأغاني الوطنية التي تغنى كل يوم من طرف هؤلاء الأطفال، ولم تقتصر هذه المدارس على الذكور فقط، بل شملت الإناث أيضا لتعلم الخياطة والكتابة والقراءة. وإلى جانب ذلك، أسست فرنسا الاستعمارية، ما يعرف بالمعاهد العربية الفرنسية منذ سنة 1857 بموجب مرسوم إمبراطوري سنة 1857م، بهدف تمكين طلبة المدارس الشرعية من مواصلة دراستهم في الجزائر دون اللجوء إلى معاهد الخارج سواء في المشرق أو المغرب. وأشار المتحدث، إلى أن هذه المعاهد لم تكوّن المترجمين العسكريين والضباط المتعاونين مع الإدارة الاستعمارية وحدهم، بل تخرج منها كذلك بعض الرواد الذين لعبوا دوراً هاما في الحياة السياسية والثقافية في الجزائر في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من بينهم الدكتور «محمد ابن عربي» و«سي محمد بن رحال». مدرسة المعلمين لتوجيه الفكر وأضاف الأستاذ، أن إدارة الاحتلال وجدت بعد تأسيسها للمدارس «العربية- الفرنسية» أنها بحاجة ماسة إلى مدرسين، فاقترح أحد المدّرسين الفرنسيين وهو «فايسيت» سنة 1859، تأسيس مدرسة لتكوين المعلمين سواء من الأهالي الجزائريين المتخرجين من المدارس الفرنسية، أو من الفرنسيين الذين يحسنون اللغة العربية «الدارجة». مؤكدا، أن السياسة التعليمية في مدرسة المعملين ترمي إلى تكوين نخبة جزائرية مفرنسة قادرة على خدمة مشاريع فرنسا التغريبية والاندماجية في أذهان التلاميذ، كما كانت تعمل جاهدة من أجل خلق نعرة الفرقة والشقاق في أوساط المجتمع الجزائري المسلم، وذلك من خلال تركيزها على بلاد القبائل، حيث أسست الإدارة فرعاً قبائلياً، وكان أغلب التلاميذ المنتسبون إليها من المنطقة. كما كانت ترمي إلى القضاء على اللغة العربية الفصحى لغة القرآن وإحدى العناصر الجوهرية في بناء الشخصية الوطنية، وتمكين اللغة الفرنسية باعتبارها مفتاح الحضارة الغربية، وكذلك تشويه التاريخ الجزائري وتقزيم أمجاد وبطولات الجزائريين، وإقناع التلاميذ الأهالي بعظمة فرنسا وقوة إمبراطورتيها. وحسب الباحث، فإن إدارة الاحتلال لم تكتف بمقررات ومناهج مدرسة المعلمين ونظامها الصارم، بل بقت متمسكة بسياستها القديمة التي بدأت مع «كلوزيل» والمتمثلة في نقل أبناء الأهالي المتفوقين إلى فرنسا بهدف غسل أدمغتهم، ففي سنة 1896م كتبت جريدة «المبشر» أن تسعة عشر تلميذا تفوقوا في مدرسة بوزريعة، فكوفئوا بالذهاب إلى باريس ومقابلة وزير التعليم، وكان يرافقهم مفتش المدارس العربية في الجزائر، وقد لاحظت الجريدة أن معظم المعلمين الشبان كانوا من منطقة زواوة، ويحملون الشهادة الابتدائية ويتكلمون الفرنسية بطلاقة. انتعاش حركة التعليم الفرنسي خلال ثمانينات القرن وأشار الباحث، إلى أنه ورغم النجاح الذي حققته المدرسة الفرنسية إلاّ أنها خلال عقدي الستينات والسبعينات كانت قد وصلت إلى انسداد تام في مجال التعليم، فقد ظلت كلا من الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية الاستعمارية ترفض كلاهما الأخرى، كما أن الجزائريين ظلوا مصرين عن عدم إرسال أبنائهم إلى هذه المدارس، فكل تساهل في ذلك كان في نظرهم خيانة، وكان المتخرج من المدرسة الفرنسية يعيش اغترابين، فهو منبوذ من طرف أهله ومن بني جلدته المسلمين من جهة، ومن طرف المعمرين الأوروبيين من جهة أخرى. وقد اعترض المعمرون حسبه، على تعليم الأهالي ودعوا إلى تعويضه بالتعليم المهني خاصة في مجال الزراعة والصناعة، وذلك لخلق يد عاملة مسلمة مؤهلة تشتغل في حقولهم ومصانعهم، لذلك أسست مدرسة «الفنون والحرف» فور- ناسيونال، وكذلك مدرسة تكوين البستانيين في حديقة التجارب بالحامة سنة 1922م. وأكد المتحدث، أن فترة بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر شهدت انتعاشا للحركة التعليمية في الجزائر نوعاً ما، ذلك أن المسلمين الجزائريين خاصة المنحدرين من الأسر الكبيرة حاولوا الحفاظ على نفوذ الأسرة من خلال المدرسة، واقتنعوا أنه لا حرج في ارتياد المدرسة الفرنسية، مادامت تعلّم اللغة الفرنسية «لغة المصالح الدنيوية»، لا تؤثر في عقيدة المتمدرس الذي اكتسب اللغة العربية «لغة الدين» في الأسرة. إضافة إلى أن الأهالي المسلمين باتوا يميزون بين التعليم العلمي والتعليم المسيحي للمبشرين، واقتنعوا تدريجياً بأن مجتمعهم غير منسجم مع تطورات العصر الحديث. وأضاف الباحث، أن مشروع «فيري» القائم على لائكية التعليم، كان يهدف إلى القضاء على ما تبقى من المؤسسات الدينية الجزائرية باسم اللائكية، فمثلاً تعاملت حكومة «ألبرت جريفي» مع شؤون الدين الإسلامي بقسوة إلى غاية 1891م « إذ أمرت بغلق الكثير من المدارس التابعة للزوايا تحت ضغط البرلمان الفرنسي وبإيعاز من المعمرين في الجزائر، وكان على المدارس التي سمح لها بالبقاء أن تغلق أبوابها خلال ساعات عمل المدارس الابتدائية الفرنسية، كما منعت الإدارة الاستعمارية في الجزائر جمع الإعانات لصالح المدارس القرآنية، وقد نصّ كذلك قرار 18 أكتوبر 1892م على أن فتح أي مدرسة عربية حرة يخضع مباشرة لترخيص خاص من الإدارة الاستعمارية، وأنه يمكن غلقها إذا كانت تؤثر على النظام العام. وأكد المؤرخ، بأنه ورغم أن هذا النظام استهدف البنية الثقافية للمجتمع الجزائري، إلا أنه لقي معارضة شديدة من طرف المعمرين الذين باتوا يخشون على مصالحهم أمام إدماج الأهالي الجزائريين في النظام التربوي الفرنسي، وادعوا بأنه مهما كان تعليم الأهالي الكتابة والقراءة مهما للغزو الفكري، فإنه لا يمكن أن يعلمهم التفكير بالفرنسية، وأن التعليم الذي يمنح لأبناء الأهالي سيكون سلاحا ضدهم، وسيطالبونهم بحقوقهم ويجابهونهم بنقشاتهم ويغدون أقل طواعية لهم مما هم عليه.