يجرنا الحديث عن مسألتي الدين و اللغة إلى الفترة الاستعمارية التي تميزت بممارسات قاهرة للسكان الأصليين للجزائر، إذ بعد أن سيطرت بشكل تام على الأراضي و قضت على الانتفاضات الشعبية و استأصلت العائلات الكبرى من قاعدتها الاجتماعية و الاقتصادية و شردت أبنائها خلال القرن التاسع عشر، انتقلت الإدارة الفرنسية إلى مرحلة ثانية وهي الهيمنة التامة على كافة النشاطات الثقافية والدينية للجماعة الجزائرية و بالتالي اقتلاع الثقافة العربية و الدين الإسلامي عن طريق الفرنسة. و قد تولد عن هذا الوضع إفقار تام للجزائريين، الذين ازدوج لديهم الشعور بالهيمنة و الفقر مما جعل مقاومة الاستعمار تمزج – حسب محمد حربي- بين الأهداف الاجتماعية و الثقافية و الدينية، فكان الحق في تعلم اللغة و ممارسة الطقوس الدينية بكل حرية و الاعتراف بالماضي الثقافي هي أشكال متنوعة لرفض استغلال المعمر الفرنسي، و هي أمور دعت نجم شمال إفريقيا منذ السنوات الأولى لتأسيسه إلى المطالبة بتعليم اللغة العربية وجعلها رسمية و التأكيد على إلزامية التعليم لجميع أبناء الجزائر، هذا إلى جانب الأهداف السياسية الكبرى و المتمثلة في الاستقلال التام. أما الجمعية العلماء المسلمين التي تأسست سنة 1931 فقد جعلت من هذه المسائل الثقافية واللغوية و الدينية أسبابا حقيقية لوجودها. و يذكر محمد حربي أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد أكد منذ سنة 1925، أن " قومية الجزائريين هي الإسلام، و أنه العامل الرئيس لتمييزهم"، و حتى الإدارة الفرنسية، من جانبها قد ميزت الجزائريين في البداية على أساس ديني، عن طريق "قانون الأهالي"(14 جويلية 1865) الذي يحرم الجزائريين من الحقوق و من المواطنة، و تم تعديله في تاريخ 7 مارس 1944، حيث تمت الإشارة إلى الجزائريين بصفة "الفرنسيين المسلمين". و بعد الحصول على الاستقلال قامت الدولة الجزائرية – كما سبق و أن أشرنا أعلاه- في استعادة رموز السيادة الوطنية من خلال الاشتغال على محورين هما: تعميم التعليم لفائدة أبناء الشعب الجزائري و "ترميم" الهوية الوطنية التي قام الاستعمار الفرنسي على "هدمها"، و في ظل الأحادية الحزبية و في مرحلة السبعينيات تمت توجيه المدرسة توجيها لصالح أنصار و أبناء جمعية العلماء الذين قاموا ب«أسلمة" المدرسة و الإعلام و قانون الأسرة و عربوا اللسان ، لكن هذه المبادرات تمت مواجهتها سنة 1980 بردود فعل عنيفة أتت من بلاد القبائل التي ثارت على النموذج الثقافي الأحادي الذي اعتمدته الدولة الجزائرية الذي أغفل التاريخ الجزائري العريق و الهوية الامازيغية، مما أعاد طرح مسألة الهوية الجزائرية المتنوعة بشكل قوي. فالحديث عن الهوية الوطنية يدفع بنا للحديث عن اللغة العربية التي تثير فيما تثير العديد من المسائل ذات الأهمية البالغة كونها ترتبط بالتوجهات السياسية للدولة الجزائرية و بالإيديولوجية الوطنية و بالشرعية السياسية، و باعتبارها اللغة الوطنية الأولى كما نصت على ذلك جميع الدساتير الجزائرية و كان مطلب تعليمها منصوص عليه في أدبيات الحركة الوطنية. تشير مختلف الدراسات و الشهادات التاريخية إلى أن تدريس اللغة العربية كان في الفترة الاستعمارية يقتصر على الزوايا و الكتاتيب القرآنية و على المدارس الحرة التي أسستها جمعية العلماء المسلمين، كما كان تعلمها من نصيب فئة قليلة تلقتها سواء بجامع الزيتونة أو بجامع الأزهر بالقاهرة، و قد كان تدريس اللغة الفرنسية مقتصرا،أيضا على فئة قليلة من الجزائريين، لكن مع الحصول على الاستقلال، ورثت الدولة الجزائرية النظام التربوي الكولونيالي، و فتحت أبواب المدارس لأبناء الشعب الجزائري، مما ساعد على توسع انتشار اللغة الفرنسية لدى المتمدرسين. وهو الأمر الذي دفع بالسلطات السياسية للبلاد إلى إتباع سياسة تعريب شاملة للمدرسة الجزائرية و كان هناك إجماع لمنح اللغة العربية المكانة التي تليق بها، من خلال التركيز على الدين الإسلامي المرتبط عضويا بهذه اللغة و على تمجيد أبطال الثورة التحريرية: و هما أساس الشرعية السياسية للسلطة. بينما اختارت كل من تونس والمغرب طريق الازدواجية اللغوية (عربية و فرنسية) في التدريس، اختلفت النخب الجزائرية حول المنهجية المعتمدة في تعريب المدرسة الجزائرية، و انقسمت إلى اتجاهين:1- اتجاه يرمي إلى جعل اللغة العربية تحتل تدريجيا مكانة اللغة الفرنسية في إطار (أحادية اللغة) -2- اتجاه الازدواجية تعميم اللغة العربية تدريجيا و الإبقاء على اللغة الفرنسية بوصفها لغة انفتاح . وقد كان من الطبيعي أن يتعمق الخلاف بين الاتجاهين، ليتحول من صراع لغوي إلى صراع سياسي حول المواقع داخل السلطة الحكم و في المؤسسات الإدارية، و كل اتجاه يحمل رؤية أيديولوجية ترتبط باللغة و بالمشروع السياسي المستقبلي. و أصبحت اللغة الفرنسية تشكل رهانا كبيرا للنخب المتفرنسة التي تنظر إليها على أنها لغة العصرنة والتقدم، على العكس كانت اللغة العربية تمثل رمزا للجمود و التحجر. و هو الأمر الذي ترفضه النخب المعربة و تتمسك باللغة العربية التي لها علاقة قوية بالإسلام و بالقومية العربية، وتعادي اللغة الفرنسية معاداة شديدة لأنها تمثل التبعية للاستعمار و كل من يحملها يمس بالضرورة بالقيم و الثوابت الوطنية. فالوحدة الوطنية، من وجهة نظر العروبيين، تبنى على أساس أحادية اللغة العربية، و اللغات الدارجة سواء كانت ذات أصول عربية أو أمازيغية، لا تخدم هذه الوحدة. و قد شمل الاختلاف بين الاتجاهين قضايا أخرى، تتجاوز المسألة اللغوية، لتمتد إلى طبيعة النظام السياسي و إلى مصادره التشريعية و إلى مكانة المرأة داخل المجتمع. وسيعرف تعريب المدرسة عدة مراحل، ترتبط كل مرحلة من مراحله برئيس من رؤساء الجزائر الذين تعاقبوا على الحكم. استقدم الرئيس أحمد بن بلة المدرسين المصريين لتلقين مبادئ اللغة العربية، لكن هذه السياسة لم تحقق جل أهدافها لعدم أهلية غالبية هؤلاء للتدريس، كما تم – في تلك المرحلة - إنشاء العديد من المعاهد الإسلامية للإشراف على تكوين المعلمين، مما أثار حفيظة النخب المتفرنسة.كما كلف الرئيس هواري بومدين الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي (ابن الشيخ البشير الإبراهيمي) بوزارة التربية الوطنية، وسيلعب هذا الأخير دورا كبيرا في تعريب المدرسة الجزائرية، كما لعب عبد الحميد مهري- بصفته الأمين العام لوزارة التربية- دورا لا يستهان به في تسريع وتيرة التعريب للمدرسة على أسس أيديولوجية و سياسية عمقت الخلاف بين العروبيين و المتفرنسين، و ازداد الشرخ لما تم كذلك إلغاء كرسي اللغة الامازيغية الذي كان ينشطه الكاتب مولود معمري في جامعة الجزائر. يحاول الرئيس هواري معالجة وضع المدرسة الجزائرية باللجوء إلى خدمات مصطفى الأشرف لتسيير وزارة التربية، فيقدم الوزير الجديد على إقالة عبد الحميد مهري وإطارات عليا في الوزارة، و يحاول مراجعة كيفية تطبيق عملية التعريب في الميدان، مما يخلق نوع من الجدل الكبير حول هذه المسألة، (سجال الفيلسوف عبد الله شريط مع وزير التربية آنذاك حول مسالة التعريب في الجزائر)، و يضطر مصطفى الأشرف إلى الاستقالة، نتيجة الضغوطات التي مورست عليه. تعرف مرحلة الشاذلي بن جديد عدة أحداث تدخل ضمن محاولة التخلص من الإرث السياسي و الاقتصادي الذي تركه هواري بومدين، بإبعاد العناصر المتفرنسة و اليسارية من حزب جبهة التحرير الوطني. و في هذه المرحلة تم فتح المجال الحركات الإسلامية للنشاط الشبه علني و بخاصة في الجامعات، و بدأ ضغط الطلبة المعربين الذين تخرجوا من الجامعات و لم يجدوا مناصب و طالبوا بالتعريب الفوري للإدارة الجزائرية، و كانت مطالبهم لا تخلوا من توجهات سياسية و أيديولوجية، تصب في مرامي الاتجاه الثاني المناوئ لإصلاحات هواري بومدين، كما عرفت هذه الفترة اضطرابات كبرى في منطقة القبائل، بسبب منع محاضرة للروائي و الباحث مولود معمري بجامعة تيزي وزو مما يدفع بالمحتجين بقوة للمطالبة بالاعتراف الهوية الأمازيغية. فالأحداث الدامية التي شهدتها الجزائر منذ بداية التسعينيات بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، ستعجل بضرورة إصلاح المدرسة وهو ما سيسعى عبد العزيز بوتفليقة بعد تولية الرئاسة سنة 1999، و يرفق ذلك بضرورة إصلاح منظومة الحكم بإصلاح العدالة و الإدارة، و لأجل بلوغ ذلك، ينصب عدة لجان وطنية و منها اللجنة الوطنية لإصلاح النظام التربوي التي توصي بمعالجة المسألة التربوية في العمق في تقرير شامل تمت تسميته ب«تقرير بن زاغو" نسبة إلى رئيس اللجنة، و لكن هذا التقرير لم ينشر مع الأسف. و قد تم توجيه انتقادات لاذعة و شديدة اللهجة لتركيبة اللجنة و للنقاشات التي دارت داخلها. و هي النقاشات التي لا تزال سارية إلى الآن، مبرزة صعوبة التوافق حول منهجية معينة لإصلاح المنظومة التربوية، كون هذه الأخيرة تخضع –كما سنرى لاحقا- لحسابات غير الحسابات البيداغوجية و العلمية..