اتجاهات سياسية تصف نفسها بالبربرية تروج للأطروحات الصهيونية يرجع الباحث فوزي سعد الله الوجود اليهودي بالجزائر إلى مرحلة ما قبل الميلاد، ويصف علاقتهم بالجزائريين بالحسنة عموما إلى غاية بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث أدى هذا الاحتلال إلى القضاء على التعايش بين يهود ومسلمي الجزائر. ويؤكد فوزي سعد الله في هذا الحوار بأن مرسوم كريميو الذي صدر سنة 1870، لم يطُبِّق على جميع يهود الجزائر، كيهود الصحراء، ولا كانوا جميعهم راضين عنه وقابلين بالجنسية الفرنسية. ويدعو الباحث إلى تعلم مختلف اللغات بما فيها اللغة العبرية. للباحث مجموعة من الكتب: ''يهود الجزائر·· هؤلاء المجهولون''، ''يهود الجزائر·· موعد الرحيل''، ''يهود الجزائر·· مجالس الغناء والطرب''، "صفحات مجهولة من تاريخ الغناء الأندلسي بتلمسان ومدن أخرى". حاوره: نورالدين برقادي كلمة يهودي، ماذا تعني هذه الكلمة في اللاّ شعور الجمعي الجزائري ؟ اللاّ شعور الجمعي الجزائري ليس متجانسا بل هو متعدد ومتنوع بقدر تنوع الحساسيات حسب القناعات السياسية والمذهبية الروحية. فهناك مَن تعني له كلمةُ يهودي إنسانا يعتنق الديانة الموسوية اغتصب جزءٌ من بني جلدته أرضا عربية إسلامية ويُبيدون أهلَها منذ أكثر من 60 عاما وخانوا بالتالي تعايشا دام أكثر من 1000 عام. فيما يوجد مَن تعني له هذه الكلمةُ حوصلةً لكل الشرور البشرية على وجه الأرض على مدى آلاف السنين، وهذه الفئة هامة من حيث عددها. غير أن هذا الاعتقاد إذا ما تمعّنّا فيه، عادة لا يتجاوز حدّ الاعتقاد النظري المتوارَث كفكرة دون أن يصل إلى حد أن يُتَرجَم في الواقع كسلوك، لأن في المعاملات، الجزائريون، في الجزائر كما في خارجها، يتعاملون مع اليهودي كإنسان قبل كل شيء، ولو بشيء من الحذر المتبادَل في البداية حتى تثبت "البراءة"، وذلك بسبب الريبة المتبادَلة التي أحدثتها الصهيونية في العلاقات اليهودية الإسلامية. لكن موقف الجزائريين من الصهاينة ومن إسرائيل والإسرائيليين واضح ولا غبار عليه: الكُره والعداء، لأن الذي يفعل ما يفعله هذا الكيان في حق الفلسطينيين لا يمكنه أن يستقطب الحي والتعاطف... تاريخيا، كيف بدأت علاقة اليهود بالجزائر؟ علاقة اليهود بالجزائر، وأقصد اليهود القدماء في البلاد وليس الذين أتى بهم الاستعمار من أوروبا، علاقة ابن البلد ببلده قبل كل شيء وتعود إلى قرون طويلة. الأفواج الأولى التي حطت الرحال في البلاد تعود إلى ما قبل الميلاد على الأقل وقد ثبت وجودهم في الجزائر نسبيا منذ أن نفاهم الإمبراطور الروماني تيتوس (طيطيش) عام 70م في سفن إلى شمال إفريقيا بعد تحطيمه الهيكل في القدس/أورشليم، غير أن آثار عبورهم الجزائر؛ فيردها بعض المؤرخين إلى العهد الفينيقي حيث سُجِّل حضورهم في عدد من المراكز التجارية الساحلية كتُجار ووكلاء تجاريين. في عصور لاحقة، توافدت عدة أفواج من اليهود مع الفاتحين المسلمين ثم في شكل لجوء هروبا من أوضاع قسرية، كما حدث ليهود الأندلس، وانصهروا في النسيج الاجتماعي الثقافي المحلي ليتحوّلوا إلى جزائريين بالكامل كغيرهم من سكان هذه البلاد مع اختلافهم عن غيرهم من السكان بممارسة معتقداتهم الروحية الخاصة بهم مثلما كان المسلمون يمارسون ديانتهم ومثلما أدى المسيحيون شعائرهم بكل حرية. وقد استمر هذا الوضع إلى غاية سقوط نظام الحُكم العثماني - الجزائري في يوم 5 يوليو/تموز 1830م... بعد هذا التاريخ، تلقى الانسجام اليهودي مع البيئة الجزائرية ضربة قوية بوجود طرف ثالث بين يهود الجزائر وبقية المجتمع، مثلما كان يحدث عبْر التاريخ كلّما دخلت أوروبا بقوة في حوض المتوسط ومدتْ نفوذها إلى ضفافه الجنوبية. تركّز يهود الجزائر في أماكن معينة: قسنطينة، غرداية، مدينة الجزائر، تلمسان..، كباحث في هذا الموضوع، ماهي العوامل التي أدت إلى تركزهم في هذه المدن أكثر من غيرها ؟ يهود الجزائر استقروا في غالبية الحواضر الكبرى والمتوسطة الجزائرية، في الشمال وفي الجنوب، بما في ذلك أقاصي الصحراء كواحة تْوات وغرداية وبشار، وذلك بسبب تحوّل اجتماعي جوهري طرأ على الطائفة قبل حوالي 8 قرون جعلها في غالبيتها العظمى طائفة حضرية. وقد تعمّقتْ هذه النزعة السوسيولوجية - التاريخية بتوافد يهود الأندلس على البلاد بعد طردهم عام 1391م من جزر الباليار ثم عام 1492م بسقوط غرناطة على يد الملكة إيزابيلا الكاثوليكية وزوجها فرناندو. لذا، نسبةٌ هامة من يهود قسنطينة ومدينة الجزائروتلمسان وما أحاط بها من أحواز كانت تنحدر من أصول أندلسية على غرار آل بن دوران الذين حلوا في القرن 14م بمدينة الجزائر لاجئين من ظلم المسيحيين الكاثوليك بعد سقوط جزر الباليار بأيديهم، والطبيب يهوذا الأشقر الذي انتشرت أسرته بين تلمسان والعاصمة الجزائرية، والحبر إفرايم النقاوة، ويوسف كَارُو، الشخصية الروحية الأساسية في المعتقدات السّفاردية، فضلا عن عائلات بوشناق والبكري وبوشعرة المَرَّانية، اليهودية التي أُجبِرتْ على اعتناق المسيحية في إسبانيا بعد سقوط حُكم المسلمين فيها، قبل أن تعود ذرّية هذه العائلات إلى ديانتها بمجرد أن حطتْ الرحال في مدينة ليفورن الإيطالية قبل استقرارها النهائي في مدينة الجزائر... في غرداية، كانت نسبة هامة من اليهود من أصل تونسي قدموا من جزيرة جربة للاشتغال بصناعة المجوهرات والصياغة بطلب من أعيان هذه الواحة العتيقة الواقعة على أبواب الصحراء الجزائرية. وكان يهود الجزائر ميّالين إلى ممارسة التجارة والحِرف، وهي النشاطات التي لا يمكنها أن تزدهر إلا في المدن والحواضر، مما زاد في وتيرة تمدنهم منذ تقريبا القرن 14م و15م. هل جميع ما قام به يهود الجزائر عبر التاريخ كان سلبيا ؟ هذا اعتقاد تقليدي، نشأ برأيي خلال أزمات بين المسلمين واليهود ثم تحوّل بالقيل والقال والدعاية السياسية المتبادَلة والشعور بمرارة الخيبة والطعن في الظهر في حالات معينة إلى شبه قاعدة راجت شعبيا وتم توارثها عبْر الأجيال رغم زوال مبرراتها. وكانت هذه الأفكار التي لم تكن دائما مبرَّرة تطفو على السطح مجددا كلما حدثت خصومات بين يهود ومسلمين. فهل تتصور أن قبيلة المْجَاهْرِيَّة التي اعتنقت الإسلام قبل أكثر من 200 عام ما زال أبناؤها يُعيَّرون اليوم بالنَّسب اليهودي عند الخصومات...؟ هذا طبعا غير معقول وغير مقبول. الحِكم والأمثال الشعبية لدى المسلمين واليهود تشهد على ذلك حيث تستهزأ كل طائفة بالأخرى على غرار قول اليهود: "التلمساني والفَارْ مَا تْوَرِّيلْهُومْشْ بابْ الدَّارْ"، وقول المسلمين "كُلْ مْعَ الِيهُودِي وْمَا تَرْقُدْشْ مْعَهْ". لكنهم قالوا أيضا "سُوقْ بْلاَ يْهُودْ كَالْقَاضِي بْلاَ شْهُودْ"، وخففوا عنهم ثِقلَ اللوم عندما قالوا: "100 يهودي ولا 1 بُلَيْدِي (أي من مدينة البليدة)"....لكل ذلك، لا يُعقل أن يكون كل ما قاموا به عبْر التاريخ، سواء أكان ذلك في الجزائر أو في غيرها من البلدان، سلبيا، لأنهم قبل كل شيء بشر، وسوء معاملة الناس والتصرفات السلبية لا تنتقل وراثيا. لكن التاريخ يذكر لهم أو لبعضهم العديد من الأخطاء الفادحة في حق بلدهم، في الحالة الجزائرية، كثيرا ما ارتكبتها جماعات مصالح أو أشخاص من الأعيان اليهود وتُحاسَب عليها عادةً كل الطائفة كما كانت تقتضي تقاليد وذهنيات القرون السابقة تقريبا في كل أنحاء العالم. في مقالك المنشور بجريدة العالم المعاصر (العدد: 05، الصادر بتاريخ 23 أكتوبر 1993، ص: 10) والذي حمل عنوان: "المغازلة اليهودية للبربر ؟"، كتبت مايلي: "..فرغم مساعدة البربر لهم وشفقتهم عليهم من القمع الروماني الشديد..إلا أنهم لم يكونوا في مستوى طيبتهم وكرمهم، إذ لم يترددوا في حبك المؤامرات ضدهم والتبليغ عن أسرار المقاومة البربرية للرومان المستعمرين مقابل امتيازات مادية ظرفية.."، هل من توضيح أكثر لعلاقة اليهود بالبربر ؟ الأعيان وكبار التجار اليهود لم يكونوا يعبأوا كثيرا بالاعتبارات الأخلاقية في تعاملهم مع البربر، كانت تهمهم أعمالهم وتجارتهم، خصوصا تجارة الرقيق، والتحالفات التي تكفل مصالحهم وحتى تجنيد أبناء الطائفة لخدمتها. ولم يكن مهما لهم تضرر البربر من عدمه بسبب مشاريعهم. وهي على كلٍّ سلوكات بشرية لا تقتصر على اليهود. فاليوم لدينا في الجزائر، مثلا، مَن يبيعوننا المخدرات والمنتوجات المستوردة الفاسدة ومنتهية الصلاحية دون اكتراث بأضرارها على الناس... العامّة من اليهود، الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كانت أقرب إلى الانسجام والتعايش مع البربر خصوصا في الفترات التي تجري فيها الرياح بما لا تشتهي سفن الطائفة وتصبح خلالها هذه الأخيرة بحاجة إلى السند البربري، مِثل "التقارب" الكبير الذي حدث، في القرن 20م، في عهد حكومة فيشي والنازية نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان اليهود يحتمون ويحمون مصالحهم بعلاقاتهم مع المسلمين رغم حداثة صدمات أحداث قسنطينة الدامية بين الطائفتين عام 1934م وقتلاها وصدماتها. كما تمتع اليهود بالتضامن ذاته خلال المظاهرات العديدة المناهِضة لهم التي قام بها أوروبيو الجزائر منذ سبعينيات القرن 19 إلى غاية عشرينيات القرن 20م. أَلَمْ يُخْفِ الشقيقان الفنانان محمد والغوثي الذيب في بيتِهما الفنان اليهودي مقشيش وغيره أثناء اعتداءات المستوطنين الأوروبيين على اليهود في تلمسان نهاية القرن 19م... أما ما يتردد منذ عقود عن الامتزاج العميق المزعوم بين الطائفة اليهودية والبربر قبل الإسلام ففيه مبالغات وتضخيم مقصود تسهر عليه الدعاية الصهيونية التي وجدت من يردد صداها، عن قصد أو عن حسن نية، في أوساط سياسية تُحسَب على البربر أو الحركة السياسية البربرية على الأقل. وتتخذ هذه الدعاية من علاقة الكاهنة بالمسلمين الفاتحين أساس نظرية الأخوة البربرية - اليهودية المزعومة و"التاريخ المشترَك" الذي صنعته مخابر الدراسات الجيوستراتيجية الصهيونية والمتصهينة وأبواقها والذي يجري العمل على تحويله إلى قاعدة للانطلاق نحو "المستقبل المشترَك" اليهودي - البربري أو بالأحرى الصهيوني - البربري... هل سينجح هذا المشروع؟ هذا يتوقف على الجزائريين ذاتهم قبل كل شيء. سبق أن قلتُ في كتابي "يهود الجزائر، هؤلاء المجهولون" قبل 17 عاما إن الصهيونية تحضر لكُم طبخة مسمومة وتبحث بمثل هذه الأكاذيب عن إيجاد نقاط ارتكاز سياسي لها في الجزائر ومنطقة المغرب العربي. اليوم، هذه النشاطات النظرية بدأت تُنْضِجُ ثمارَها على أرض الواقع، والمشروع الصهيوني في المنطقة في تقدُّم. اليوم، توجد اتجاهات سياسية تصف نفسها بالبربرية تروّج للأطروحات الصهيونية وتدعو إلى قبول إسرائيل وتتعامل معها خصوصا في المغرب. ولا أدري إن كان الجزائريون يعلمون أن مجموعة من "البربريين" احتفلوا قبل أيام رسميا بالذكرى ال: 65 ل: "استقلال دولة إسرائيل" (رغم أنني لا أعرف مَن الذي كان يحتل هذه الدولة التي لم تكن موجودة أصلا في فلسطين قبل 65 عاما) إلى جانب الصهاينة الكنديين تحت مظلة "فيدرالية الطوائف اليهودية في كيبك" التي نظمت الاحتفالات في كندا. وقد لا أضيف لكم أيّ جديد عندما أقول لكم أن أحد الجزائريين الذين يعتبرون أنفسهم من رموز التيار السياسي البربري قد زار إسرائيل لمدة أربعة أيام مؤخرا واجتمع بعدد من مسؤوليها باسم البربر الجزائريين..وللأسف لم يبلغني أن بقية رموز التيار أخذت مواقف علنية واضحة بهذا الشأن، مما قد يضفي غموضا وضبابية تسيء للكثير من الجزائريين. الآفاق إذن قاتمة، خصوصا إذا علمنا أن داخل بعض المؤسسات ذاتها يوجد مَن يُهلل لإسرائيل ويجتمع مع مسؤوليها، مُختارين أو مُرغمين، ثم يكذبون على الشعب ويقولون له عكس ما يفعلون وينافقون...الروائي بوعلام صنصال كان مديرا في وزارة التجهيز لا يجب أن نغفل ذلك... أريد فقط أن يعلم الجزائريون أن دولة إسرائيل هذه وقفت بكل ما تملكه من ثقل ضد استقلال الجزائر، وذهب بن غوريون ذاته إلى باريس على جناح السرعة عندما اقترب موعد الاستقلال لإقناع الجنرال ديغول بالعدول عن التزاماته الناجمة عن التفاوض مع الثوار الجزائريين...لكنه فشل في تحقيق غرضه، لأن ديغول أفهمه أن مصلحة فرنسا فوق كل اعتبار وتقتضي الانسحاب من الجزائر وترك شعبها يقرر مصيره...ويجب ألا ينسى الناس أيضا أن الموساد ارتكب الكثير من الجرائم في حق الجزائريين وعلى أرض الجزائر خلال الثورة التحريرية ولو أن الناس عندنا اليوم أصبحوا يجهلون، مَثَلاً، ما معنى عيد الفطر عام 1956م في قسنطينة. نحن اليوم في الجزائر خليط من العرب والبربر والأوروبيين والأفارقة امتزجنا وانصهرنا مع بعض عبْر القرون، ولا أفهم كيف يسمح البعض لأنفسهم، اقصد متطرفي التيار البربري، بالحديث عن شرائح واسعة من أهل البلاد، توصف بالعربية ولا أدري على أيِّ أساس تُصَنَّفُ كذلك، تعيش على هذه الأرض منذ أكثر من 1000 عام وكأنها دخيلة دون أدنى احترام لمشاعرها. في المقابل، يلوم هؤلاء المتطرفون فرنسا في عقر دارها على عدم اعتبارهم فرنسيين رغم أنهم يحملون جنسية مزدوجة جزائرية - فرنسية. إن هذا المنطق يجر إلى عواقب كارثية في المدى الطويل، والرابح الأكبر منها هم الذين وقفوا بالأمس فقط ضد تحرر الجزائريين عربا وبربرا وأفارقة وأوروبيين... لليهود حضور في تونس والمغرب الأقصى عكس الجزائر، هل لنتائج مرسوم كريميو (1870) لما فصل الاحتلال يهود الجزائر عن مسلميها دور في ذلك ؟ اليهود مازالوا موجودين في الجزائر رغم تقلص كبير لعددهم لعدة أسباب وعلى رأسها موقفهم المساند للاحتلال الفرنسي أو المتخاذل بشكل عام تجاه المطالب التحررية للشعب الجزائري، باستثناء قلة قليلة من اليساريين المثقفين، نذكر على رأسهم الطبيب دانيال تيمسيت ابن القصبة السفلى الذي وُلد ونشأ بمحاذاة سوق ساحة لالير، وهنري علاق صاحب كتاب "السؤال" الذي فضح التعذيب الوحشي الذي مورس ضد الجزائريين خلال "معركة الجزائر" وآخرين ماتوا وهم يحملون السلاح من أجل تحرير بلدهم الجزائر... بعد الاستقلال، وجد الآلاف من الذين اختاروا البقاء في وطنهم، والذين لم يمنعهم حصولهم على الجنسية الفرنسية بمقتضى مرسوم كريميو لعام 1870م من البقاء جزائريين، أنفسهم يعيشون في أجواء جديدة ذات ثقافة عربية بربرية إسلامية وليست فرنسية أوروبية كما كانت طيلة 132 عاما، ولم يتمكن بعضهم من التأقلم معها فرحلوا تدريجيا عن البلاد ليستقروا عادة في فرنسا دون أن يتعرضوا لأيِّ أذى من أيِّ أحد. ثم جاءت أزمة التسعينيات التي طردت مئات آلاف الجزائريين، مسلمين وغير مسلمين، تركوا البلاد للنجاة بأنفسهم من جحيم العنف والتهديدات اليومية التي تعرَّض لها الجميع، فلم يبقَ بالتالي من اليهود، حسب بعض التقديرات غير الرسمية، سوى مئات. وقد كان نصيبهم من الأزمة مقتلَ بضعة أفراد من أبناء الطائفة على غرار جُوزِي شَارْلْ بَلْعِيشْ رئيس الطائفة اليهودية في الجزائر الذي قُتل قرب مكتبه في ساحة بور سعيد بالعاصمة الجزائر بمحاذاة مسرح محيي الدين باش طارزي، ورِيمُونْدْ لُزُومْ بائع النَّظَّارات قُرْبَ ساحة مُورِيسْ أُودَانْ، وأيضا صاحب مكتبة "الفنون الجميلة" في قلب شارع ديدوش مراد...إضافة إلى محاولةِ ذبحِ يهودي مُسِنّ صاحب ورشة زجاج في حيِّ بولوغين في مدينة الجزائر، نجا من المحاولة بأعجوبة، على يد مجموعة من السُّرّاق حسب ما تردد في حيّه حينذاك في منتصف التسعينيات. إذن مرسوم كريميو لا يفسر كلَّ شيء وإن ساهم في فرنسة شرائح يهودية إلى حدٍّ مَا عكْس ما يتردد في أوساط مؤرخين وكُتَّاب يهود يحاولون تبرير مواقف الطائفة من المطالب التحررية الجزائرية وخذلانهم المقاومة الجزائرية منذ القرن 19م بكونهم "ضحايا" مزعومين لمرسوم كيرميو وإدارة الاحتلال الفرنسي. يجب أن نعرف أيضا أن ليس كل اليهود طُبِّق عليهم هذا المرسوم، كيهود الصحراء، ولا كانوا جميعهم راضين عنه وقابلين للجنسية الفرنسية...يهود غرداية، مثلاً، لا علاقة لهم بهذا المرسوم، ومع ذلك انتهى المطاف بغالبيتهم في صحراء النَّقَب في إسرائيل. تعتبر اللغة العربية لغة أساسية في الجامعات الإسرائيلية وتوجد أقسام في هذه الجامعات خاصة بالدراسات الإسلامية وكل ما ألّف بلغة الضاد، وفي الجزائر ثار البعض في مطلع العشرية الحالية ضد إعادة تدريس اللغة العبرية بالجامعة الإسلامية بقسنطينة، كيف يمكن فهم اليهود بشكل جيد، خاصة أن الدراسات الإستراتيجية ترى بأن معرفة كيفية تفكير الآخر، تمثل ثلاثة أرباع القوة ؟ الجدل حول تعليم اللغة العبرية في الجزائر جدلٌ غير مبرر، والرافضون لهذه اللغة في بلادهم مخطئون. تعلُّمُ اللغات عِلم من العلوم يساهم في خدمة البلاد والمجتمع مهما كانت العداوات مع أصحاب هذه اللغات. في الأندلس، لم تتوقف الحروب بين المسلمين والإسبان الكاثوليك القادمين من الشمال خلال ما يُعرف ب: "حروب الاسترداد"، لكن البعثات المسيحية لم تتوقف، هي الأخرى، عن التدفق على المعاهد والجامعات الأندلسية طلبا للعلوم والمعارف وباللغة العربية، ولم يحرِمْهم المسلمون منها. وكان من بين هؤلاء الطلبة أمراء ونبلاء عادوا إلى بلدانهم وهم يتباهون بالحديث باللغة العربية حتى في بلاطاتهم. وكان ذلك عنصر قوة لهم وليس العكس. الظاهرة نفسها شهدتها الحروب الصليبية في المشرق، المبادلاتُ ومحاولاتُ فَهْمِ الآخر لم تتوقف رغم قعقعة السيوف التي دامت عقودا من الزمن. اليوم، في إسرائيل، هناك مَن يؤلف باللغة العربية كعدد مكن الأدباء اليهود من أصل عراقي، من بينهم سامي مْعَلِّمْ الذي غيّر اسمه إلى شموئيل موريه منذ هجرته إلى إسرائيل في ستينيات القرن الماضي...إذن نحن بحاجة إلى تحكيم العقل بعيدا عن ردود الأفعال العاطفية التي كثير ما كلفتنا غاليا ولم نتعظ. في 03 أوت 1934، قام اليهودي القسنطيني الياهو خليفي بالتبوّل على جامع "سيدي لخضر" بقسنطينة كما شتم المسلمين، وهو في حالة سكر، مما أدى إلى ردود أفعال غاضبة، هل وقعت حالات صدام مشابهة لهذا الحادث في تاريخ العلاقات بين مسلمي ويهود الجزائر ؟ نعم وقعت حالات أخرى أكثر خطورة، وما زال يجهلها الجزائريون، باستثناء الذين عاصروا مثل هذه الأحداث، ليس بسبب اليهود أو الصهيونية بل لعدم جديتنا في التعاطي مع ماضينا وعدم احترامنا لذاكرتنا وتراثنا بشكل عام... في صباح عيد الفطر لعام 1956م في الموافق ليومي 12 و13 مايو، قتل يهود في مدينة قسنطينة مؤطَّرين بعشرات عملاء الموساد الإسرائيلي الذين قدِم عدد منهم في مهمة تخريبية من إسرائيل، مئات المسلمين الجزائريين امتلأ مستشفى المدينة بجثثهم. هذا العدد الذي قزّمته إدارة الاحتلال حينذاك، ويقول المؤرخ الإسرائيلي ميخائيل لاسكْيِي إنه لا يتجاوز 26 شخصا، قدّره المؤرخ الفرنسي والأستاذ المحاضر سابقا في جامعة قسنطينة جيلبير مينيي (Gilbert Meynier) في أحد بحوثه قبل بضعة أعوام ب: 230 قتيلا مُسْلِمًا، ووصف هذه الجرائم بالمذبحة اليهودية في حق المسلمين حيث استخدم لوصف فظاعتها عبارة "بوغروم" (Pogrom)، وهي العبارة التي توصف بها عادة المذابح التي ارتُكبتْ في حق اليهود في أوروبا. هذا المصطلح جلب للمؤرخ انتقادات شديدة وضغوطات، تلاها تراجعه عن استخدامها مكتفيا بالحديث عن عمليات قتل... كما قتل يهود صهاينة وموالون لأوروبيي الجزائر المناهضين لاستقلال البلاد العديد من الجزائريين المسلمين في إطار نشاطاتهم شبه العسكرية داخل خلايا المنظمة المسلحة السرية (OAS) عشية الاستقلال، خصوصا في مدينة وهران وضواحيها ، بعد دعوة الجنرال إيدمون جوهو، أحد الانقلابيين ضد الجنرال ديغول من أجل إبقاء الجزائر فرنسية، اليهود للالتحاق بهذه المنظمة السرية الإجرامية، وكان اليهوديان إيلي عطّار وأزولاي من بين أبرز عناصرها حينذاك. كما وقعت مجابهات أخرى أقل خسائر في مدينة الجزائر خلال الثورة التحريرية. يدّعي اليهود بفضلهم الكبير في تطوير الموسيقى الأندلسية، من خلال كتابك الموسوم ''يهود الجزائر·· مجالس الغناء والطرب''، ماهو تقييمك لدور هؤلاء في تطوير هذه الموسيقى ؟ اليهود عشقوا الغناء العربي الأندلسي كالمسلمين، وذلك بحُكم هويتهم الثقافية العربية - الإسلامية التي صهرتها قرون التعايش بين الديانتين في المجال الحضاري المغاربي - الأندلسي، ولم يكونوا يختلفون عن المسلمين ثقافيا سوى في ممارسة الشعائر والعقيدة الدينية الخاصة بهم. وقد نبغ العديد منهم في هذا الغناء. على غرار ابن فراشوا وابراهم الدّرعي وبن كيمون هذا الفن الموسيقي كان فنَّهم أيضا، لأنهم كانوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي آنذاك، لكنه قبل كل شيء فن صنعته الحضارة العربية - الإسلامية وأفرزه التعايش والتبادل مع الثقافات المجاورة الإفريقية والأوروبية والفارسية - الآسيوية. ولم يكن أبدا فنا يهودي الهوية مثلما هو شأن بعض فنون المدح والابتهالات الروحية الموسوية التي كانت تُمارس في المعابد. ما يُغنى حاليا في الفن الموسيقي العربي الأندلسي وما تم التغني به خلال القرون الماضية أشعار وألحان لا علاقة لها باليهودية كديانة. وإذا كان الفنان اليهودي الأندلسي الكبير ابن باجة، الذي قيل إنه اعتنق الإسلام، قد أبدع في نظم الألحان في الأندلس وفي المغرب بعد رحيله عن مسقط رأسه، فإنه لحّن وفق الأذواق الشائعة آنذاك في البيئة الأندلسية العربية الإسلامية مع الاستلهام من الموسيقى الإفرنجية الرومانية السائدة في إسبانيا، ولم تكن ألحانه تحمل صبغة يهودية، لأن الأذواق الموسيقية اليهودية كانت عربية - إسلامية. الإنتاج الغنائي العربي - الأندلسي عربي اللسان وعربي مغاربي أندلسي الهوية الموسيقية والمخيال، ولا نعرف اليوم ولا عرفنا في السابق أغانٍ تُنسب إلى اليهود وتنتمي إلى هذا التراث، كما لم يتجرأ أحد على ادعاء ذلك حتى في إسرائيل، لأن ذلك بكل بساطة غير صحيح. كما لم ينسب أحد من خبراء الموسيقى الذين دَرَسُوا هذا التراث الموسيقي، خصوصا أثناء القرنين الأخيرين، للفنانين اليهود ما تحاول الإيحاء به الصهيونية اليوم. وهؤلاء الفنانون الموْسويون في غالبيتهم أبرياء من هذه الأكاذيب، بل ذهب بعضهم إلى حدِّ تفنيد هذه الادعاءات مثلما فعل لِيلِي بُونِيشْ اليهودي جزائري الأصل الذي توفي بداية العام 2008م في فرنسا. يقول الكاتب الفرنسي مونتيسكيو: "اليهود يبادون دوما ويبعثون دوما، لكنهم استطاعوا أن يعوّضوا خسائرهم ودمارهم الأبدي.."، هناك من يرى بأن اليهود أفضل من يستخدم التاريخ ومن أهم المهتمين بالدراسات المستقبلية، هل تؤيد هذا الرأي ؟ لا أعتقد أن اليهود أكثر ذكاء أو أكثر غباء من بقية البشر. لقد عاشوا تاريخا فيه انتكاسات وفيه انتصارات، عاشوا عهودا لامعة وأخرى مظلمة كغيرهم من بني آدم..أما الباقي فمجرد سياسة ومضاربات صادرة عنهم أو عن خصومهم. والاهتمام بالدراسات المستقبلية ليس حكرا على اليهود، ولا شك أنك تقصد الإسرائيليين، فلديهم خبراء مثلما لدى كل الأمم خبراء وتبقى درجة الكفاءة لدى الجميع في تقدم وتراجع خاضعة للظروف العامة للبلاد. بعض القنوات الفضائية الخليجية تفتح المجال لشخصيات يهودية للدفاع عن أفكارها، كيف تنظر إلى هذا الأمر ؟ هي حرة في توظيف قنواتها التلفزيونية كما تشاء وتقتضيه مصالحها بغض النظر عن إضرارها بمصالحنا أو إفادتها لنا. هذه الدول تقول لنا بالأفعال لا مجال للتضامن العربي أو الإسلامي أمام مصالحها ولو أدى ذلك إلى التحالف مع الشيطان، إذن فعلينا أن نوظف إمكانياتنا الإعلامية وفق مصالحنا..لكن دون مخالطة الشيطان مثلها. فهل فعلنا ذلك كما يجب إلى حد الآن بدلا من تضييع الوقت في لوم الآخرين ؟ كيف استطاع اليهود رغم كونهم أقلية في العالم من التحكم في: الإقتصاد، السينما، السياسة الدولية..؟ هذا التحكُّم مبالَغ فيه كثيرا وليس مطلقا. والقول بذلك يخدم الصهيونية ويحبط العزائم في العالم العربي والإسلامي، لأنه يصوِّر الأشياء وكأن كل شيء انتهى؛ أي لقد انهزمتم أمام إسرائيل والصهيونية ولا جدوى من المقاومة مهما كانت أشكالها. من جهة أخرى، يجب التمييز بين الصهيونية واليهود، وإن كان الكثير من اليهود صهاينة، فهناك يهود فقراء ولا حول لهم ولا قوة حتى داخل إسرائيل. والذين تُنسبُ لهم السيطرة على دوائر المال ومؤسسات دولية قوية النفوذ هم لوبيات مالية - سياسية تتجاوز في الكثير من الأحيان الصهيونية وإسرائيل، فضلا عن أن نفوذها ليس مطلقا كما يعتقد البعض وخاضعا للكثير من التجاذبات وصراعات النفوذ...ويُذكِّرني ذلك بالإسقاط الذي تسبب فيه الثنائي اليهودي الثري بكري وبوشناق خلال القرن 19م على كل يهود الجزائر الذين كان بعضهم يعيش أوضاعا لا يُحسدون عليها. لو ترشّح يهودي جزائري غير صهيوني للانتخابات في الجزائر وتوفر فيه شرط الكفاءة، هل ستنتخبه ؟ نعم، سأنتخبه، إذا توفرت فيه الكفاءة والصدق والنزاهة والروح الوطنية الحريصة على مصلحة بلاده...ولا أنتخب الحثالة التي أصبحت تتصدر بعض قوائمنا الانتخابية وتثير الاشمئزاز والنُّكَت والسخرية لدى غالبية المواطنين في الداخل والخجل من هذا الوضع المزري في الخارج وهذا الانتخاب أمر طبيعي جدا ولو أنه تحوّل إلى عجب في القرن 20م بسبب الكوارث التي أحدثتها الصهيونية في العلاقات بين المسلمين واليهود. بالعودة إلى الأندلس ومصر الفاطمية وغيرها من التجارب السياسية التاريخية الإسلامية، نجد أن العديد من الكفاءات اليهودية وُلِّيتْ في بلاد الإسلام المسؤوليات الكبيرة بما فيها الوزارة (بمعنى رئاسة الحكومة آنذاك) فنجحت بعض هذه التجارب وفشلت أخرى في إنجاز مهامها كما يحدث في كل زمان ومكان. مثلما هو حال تجربة الوزير يعقوب بن كلّس في القاهرة الفاطمية الذي بكته مصر وأميرها الفاطمي عند وفاته وأيضا تجربة اسماعيل بن النغريلة في الأندلس التي انتهت إلى فوضى واضطرابات مؤلمة. ثم إذا كنتَ تقبل باليهودي مجاهدا معك في الجبال وفي خلايا الاتصال والإسناد لتحرير البلاد لماذا لا تقبل به في مجالات أخرى؟ وأعتقد أن الدولة الجزائرية قبل الانحلال الذي يعصف بها منذ عقدين كانت متفتحة ومنفتحة في هذا المجال أكثر من اليوم. صدر لك بمناسبة "تلمسان عاصمة الثقافة الاسلامية" سنة 2011، كتاب بعنوان: "صفحات مجهولة من تاريخ الغناء الأندلسي بتلمسان ومدن أخرى"، فيم تتمثل هذه الصفحات المجهولة، حسب تعبيرك ؟ في كتابي الأخير، عرّفتُ بعدة نقاط غامضة أو مجهولة في مجال الغناء العربي الأندلسي في صيغته الجزائرية كالفنانين القدماء والمعاصرين الذين طمرهم النسيان بمجرد مرور عقد أو اثنين عن وفاتهم رغم ما قدموه لهذا الفن، وكذلك بالجاليات الأندلسية التي رعت هذا الفن وطوّرته إلى حوزي وعروبي وحوفي وغيرها وَبَنَتْ وصقلت بيئته الاجتماعية الثقافية، وهي جالية لا يدري الجزائريون بشكل عام أنها كانت محرّك نهضة البلاد الشاملة ابتداء من القرن 16م بوصول أفواج الأندلسيين اللاجئين من غرناطة بعد سقوطها ثم بوصول الموريسكيين بداية القرن 17م. وقد كانوا عنصرا أساسيا في بناء قوة الجزائر خلال الفترة العثمانية. وأحفاد هؤلاء الأجداد ما زالوا يعيشون بيننا في الجزائر دون وعي منا ولا حتى منهم أحيانأوليس صدفة أن يكون التلمسانيان بن سهلة وابن مسايب الشاعران المغنيان والشيخ بريهمات الأب الروحي ل: اللاَّ يامنة بنت الحاج المهدي في مدينة الجزائر وأيضا مصطفى بن القرضناش العنّابي الدبلوماسي التاجر والموسيقار، على سبيل المثال لا الحصر، من أصول أندلسية.