20 أوت 1955 : جذور واستراتيجية زيغود يوسف القسم الأول السعيد حمروش من هو زيغود؟ الحديث عن زيغود يوسف لا يمكن أن تحيط به الكلمات أو الألفاظ مهما علت في بيانها ، وإنما الحديث عن هذا القامة الوطنية سيكون حديث الروح ، أي كيف التصقت روحي كمناضل وكجندي بهذا الرجل الذي يعد من الصفوة التي انجبتها الجزائر. والحديث عن زيغود يوسف ضرورة تتطلب استحضار المكان والزمان ،أي استحضار العناصر الباعثة على الحياة حتى نتمكن من ملامسة أبعاد هذه الشخصية ، لأنه لا يمكن لمن عايش هذا القائد الفذ إلا و يترك روحه سارية فيه ، فهو يهزك لتعيش معه تطلعاته في حب الوطن ونكران الذات وسمو الروح وعلو الهمة. وسأقتصر في هذه المناسبة على سرد وقائع وأحاديث لهذا الرجل ونتركه يتحدث عن نفسه ويكون بعد ذلك القارئ في حوار داخلي مع قائده الرمز. زيغود يوسف الإنسان حياته بسيطة بساطة عامة الشعب الجزائري ، فقد احتك مع عامة الناس وامتهن الفلاحة ورعى الماشية، فلما هرب من سجن عنابة، وكان يعيش السرية متخفيا عند عائلة شريفة تدعى بوسمينة في أعالي جبال «السامة» (قرية في أعالي بلدية حمالة دائرة القرارم ،عند ملتقى ولاية سكيكدة وميلة حاليا) ، وفي تصريح لمحمد بوضياف بعد عودته من المغرب قال أنه زاره هناك ، وذكر أنه حذره من أن يغدر بهم أي بمناضلي المنظمة السرية، كما عمل فلاحا ورعي الماشية عند عائلة بوسمينة ،حتى يبعد أعين الاستعمار عنه .وأقص هنا حادثة تعكس بجلاء انسانية زيغود يوسف، فمرة كنا في طريقنا من تمالوس إلى بوزعرور، وقد أخذ منه التعب لأنه كثير السهر وشرب القهوة ، وقد منع على نفسه التدخين، لأن الثورة كانت قررت منع ذلك، وفي الطريق صادفنا رجلا على بغله عائدا من السوق، وترجيناه أن يمكن الرجل الكبير الذي معنا دون أن نبلغه أن ذلك الشخص هو زيغود من الركوب قليلا كي يخفف من تعبه، وهو راكب كانت تظهر علب السجائر ، وكل مرة يردها زيغود برجله إلى مكانها ، وصرنا ننتظر جميعا ماذا يحصل لصاحب البغل وماذا سيفعل زيغود به ، ولما وصلنا مشتة بوزعرور نزل زيغود من على البغل و قال لصاحبه :لماذا تحمل الدخان لو تضبط من طرف المجاهدين سيعاقبونك، وتساءلنا لماذا لم يأمر بمعاقبته وتنفيذ حكم الثورة فيه، فرد بإنسانية عالية: القائد لا يعاقب وإنما يقدم عنده الطعن. زيغود القائد كان مدركا لنفسية جنوده وتطلعهم ، فهو كان قائدا للولاية الثانية بعد استشهاد الشهيد ديدوش مراد، ومسؤولا عن المنطقة الثالثة، يعقد اجتماعات دورية لبرمجة العمليات وإجراء التقييم لما أنجز ، ويحصل أن تنفذ عمليات وتؤجل أخرى لأسباب موضوعية متعلقة بالظروف المستجدة، لكن زيغود يوسف بحس القائد كان يعطي اهتماما كبيرا لمن لم ينجح في تنفيذ عملياته والأعمال المكلف بها ،حتى لا يُشعر عناصره بالذنب وعدم الرضى . وكان يراعي نفسية المجاهدين ويسعى للرفع من معنوياتهم إذ كنا بدوار «مجاجدة»ببلدية بوشطاطة حاليا عند دار رمضان يونس جيء بجندي ألتحق بالثورة برتبة «سارجان» وقد أحتفل به من قبل أهل الدوار قبل احضاره وبعد تقديمه للقائد زيغود توجه إليه بالقول أنت سارجان «حتش» أي لا شيء ، وذلك حتى يشعر جلساؤه من المجاهدين أنهم هم الأصل ولا يتأثروا بالسارجان، و أن القوة الحقيقية في أيدي المجاهدين الأوائل. في لقاء حضره المجاهد لمين خان والمجاهد شافعي برموقة في مشتة «شكايل »بدوار أولاد عطية، وكنت أحمل مسدسا من عيار 7ملم وسلاح عسكري... فأخذ مني مسدسي وسلمه لسي شافعي، ولما لاحظ علي شيئا من القلق اتجه إلَي قال: أنت تكافح دون سلاح. زيغود الاستشرافي كان يتمتع ببعد النظر واستقراء المستقبل قراءة فاحصة ، فمرة كنت أمشي في أول الجنود لحق بي وقال لي :«هل نربح الحرب؟، فم أجبه ،لأني أمام قائدي ، فتولى الإجابة وقال :سنربحها لأننا نعرف الأرض والشعب معا». ولما كان جماعة المنظمة الخاصة ، التي كان زيغود عضوا بارزا فيها تعيش قبل الثورة سنة في1953 في الأوراس متخفية عن العدو، لأنه كان ينتابهم شعور عام بأن الحزب يريد التخلص منهم بسبب ما يتعرض له أعضاء المنظمة الخاصة من مضايقات من طرف المسؤولين السياسيين للحركة الوطنية ،حتى يسهل عليهم تقليص القوة المعنوية التي كانن تتمتع بها جماعة المنظمة السرية في الأوساط الشعبية، وكان زيغود يوسف على دراية بالمواقف المعادية للحركة الوطنية من المنظمة السرية ، ومن مكان تخفيه بواد بوكركر ارسل الحاج بولعراس لقسنطينة للقاء بوجريدة بشير (من سكان قالمة مناضل معروف داخل الحركة الوطنية ،مكلف بالاتصال مع المنظمة الخاصة بالشرق ) ، و والتقى به في مكان يسمى فندق الزيت بوسط مدينة قسنطينة ، ، وبعد أن ابلغه سلام وتحيات زيغود قدم له طلبه بضرورة رفع أجرة أعضاء المنظمة السرية من 1دينار لأنها لم تعد تسد حاجيات الأعضاء. فرفض ذلك بوجريدة ورد منفعلا بما يلي :على الأعضاء أن يكون لهم خيار من ثلاثة ، إما تسليم أنفسهم ونتكلف بتعيين محامي لهم أو نساعدهم للهروب إلى الخارج أو يصيروا مجرمين في الجبال لوحدهم. ولما رجع الحاج بولعراس على بغل لواد بوكركر استقبله زيغود وكان متلهفا لمعرفة محتوى الرد، طلب الاجابة قبل أن ينزل بولعراس من على بغله ، فلما أبلغه المقترحات الثلاث استاء زيغود يوسف ورد قائلا: «هذه الأسئلة والاقتراحات الثلاث سنطرحها عليهم في أقرب وقت». ولم يكن ذلك إلا لاستفزاز وجس نبض قادة الحركة الوطنية، فهو يعرفهم و يعرف مواقفهم، وبالفعل ففي أقل من عام كان اندلاع ثورة التحرير التي وضعت الجميع على محك الواجب الوطني . هذه هي روح المناضل الذي لا يتأثر بالصعاب والمشاق والذي يعرف كيف يصنع من الأزمات مدرجا للنهوض ورفع الهمة . وهكذا كان زيغود يوسف يدرك أن الثورة قادمة لا محالة و هو الحدس الواجب أن يتمتع به القائد الناجح حتى يتمكن من تحسس ما قد تواجهه ثورته التي عاش لها بكل روحه وأحاسيسه، ولذلك استقطب عدة قيادات وطنية ورموز كالشيخ مزهودي من جمعية العلماء فحضر معه مؤتمر الصومام ليحقق غرض الثورة على أنها لكل الجزائرين المؤمنين بالاستقلال والحرية، دون مراعاة للخلفية السياسية والفئوية ، وأن المعيار الوحيد الاخلاص للثورة وامكانية دفعها للأمام. الظروف العامة قبل 20 أوت 55 زخرت مدينة قسنطينة في تاريخها في تلك الفترة بثراء علمي وثقافي فاستحقت أن تكون ملاذا لأهل العلم وقادة الحركة الوطنية ومن يشغلهم واقع الأمة الجزائرية فشكلت حديقة بألوان مختلفة و أزهار متنوعة. حيث تأسست بها عدة مؤسسات علمية وثقافية شكلت التنوع الزاخر، فأنشأت جمعية العلماء معهد ابن باديس لنشر العلم والدين ، وهو يقترب من فكر البيان بزعامة فرحات عباس ، وقد جعلت من التربية والتعليم أداة الوعي الوطني والقومي وبعث الهمم واليقظة. ولقد لخص ابن باديس هذا البعد في نشيد شعب الجزائر المعروف سنة 1937 . ويتضح من خلال هذه الروح التي كانت تسكنه، أنه رجل ثورة وليس رجل دين بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، وقد أصبحت هذه الأنشودة أرضية لبرنامج ثورة نوفمبر54 ،وقد تمً تبني أفكار ابن باديس الوطنية، ليحتضنها المناضلون من القاعدة الشعبية ويتغنوا بها قبل الثورة وبعدها ،وقد ورد في الإنشاد الشعبي قولهم :«ندورها دار بدار ونسيروها بالسيار ونقيو جميع الغدار». كما يعرف عن المعهد أنه كان يشهد تنوعا في التمثيل والعدد، فطلبته ينتسبون لجميع نواحي الوطن ،ويتسع ليشمل طلبة من المغرب الأقصى، وقد بلغ تعداده ما يقارب 1300طالب . بالإضافة لمؤسسات أخرى كمعهد الكتانية الذي ضم طلبة الحركة الوطنية والمدارس الحرة هي الأخرى في الأغلب تنتمي للحركة الوطنية، لكن هذه المؤسسات في مجموعها وما تحمله من بعد وطني والقضية الوطنية والاستقلال، فإنها كانت تشهد تنافسا حادا فيما بينها تبعا للمشرب الثقافي والإيدلوجي لكل مدرسة. ومن صور هذا التنافس والاقصاء أن معهد ابن باديس كان لا يقبل إلا الطلبة عديمي الانتماء السياسي، في حين أن باقي الدور كالكتانية والمدارس الحرة كانت تتطلع لعصرنة المجتمع الجزائري وإلحاقه بالمدنية الحديثة. وبقدر ما كان يحمل الثراء والتنوع المطلوبين في المجتمعات التواقة للتحرر والعصرنة ،كانت في بعض الأوقات العصيبة من تاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير من مسببات الصراع على إدارة الثورة وتوجيه بوصلتها. وقد كان زيغود يوسف كمسؤول الولاية الثانية التاريخية التي تضم هذه االمؤسسات العلمية والثقافية، وما أنتجته من قيادات ومبدعين تشكل الزخم وكذا التزاحم على مراكز التوجيه ، وكمثال على ذلك فقد انتسب إليه ثلثا مجموعة 22 المفجرة للثورة من الولاية الثانية ناهيك عن قيادات مشهود لها من الجمعية والبيان ومجموع الحركة الوطنية ، مدركا هذا البعد، لما يتمتع به من حس ثوري وانفتاحه على هذه الفسيفساء المشكلة لهذا التنوع و سعيه لتحقيق مبدأ هام وهو الثورة للجميع . بالإضافة لطبيعة موقع الولاية الثانية وما تضمه من تنوع بشري وسكاني مميز ، وكذا الانتشار الجغرافي، فهي تمتد من الحدود التونسية شرقا إلى المنطقة الثانية عند سوق الإثنين وحتى سطيف مرورا بشلغوم العيد والعثمانية والخروب وعين اعبيد، أي ما تشكله ثماني ولايات في جزائر الاستقلال ، وهي سوق أهراس، الطارف ، عنابة ،قالمة ،سكيكدة، جيجل ، ميلة ، قسنطينة، بالإضافة إلى ولاية سطيف التي تشترك في إدارتها الولاية الثانية مع الولايتين الأولى والثالثة، كما تضم ثلاثة موانئ وهي عنابةوسكيكدةوجيجل. السعيد حمروش من مواليد 1931 بقسنطينة ، بدأ العمل النضالي بمسقط رأسه منذ 1955 بالولاية الثانية ومسؤول بالمنطقة 3 الولاية الثانية.