القبيلة ضد المؤسسة عاشت الصحافة الجزائرية لسنوات على وهم الريادة عربيا مغذية ذلك بالانفتاح الذي أتاح لها سقفا عاليا من الحرية في أعقاب أحداث أكتوبر 1988، بيد أن هذا الاعتقاد سرعان ما تحطم بانتشار وسائل الاتصال الحديثة التي مكنت الجماهير الواسعة من الاطلاع على مختلف التجارب التي تدفع التجربة الجزائرية عند أية مقارنة إلى زاوية بائسة. ليتضح أن الصحافة الوطنية ضيعت فرصة لتطوير نفسها تماما كما ضيعت الجزائر فرصة الانتقال الديموقراطي المبكر. هذا الإخفاق له أسبابه الظاهرة والكامنة، ترتبط الأولى بالوضع السياسي العام للبلاد أما الأسباب الكامنة فقد يكون الكشف عنها صادما لمستهلك الصحافة الذي ينظر بنوع من القداسة إلى صحافة تقدم نفسها كقلعة مقاومة وسلطة مضادة لكنها تحاكي في حقيقة الأمر المؤسسة السياسية في أدائها وتقتبس منها أساليب التسيير و دسائسه. و يتعلق الأمر ببنية "المؤسسات" نفسها التي تعتمد على الروابط الدموية والعشائرية و الجهوية والولاء على حساب معيار الكفاءة الذي لا يمكن إسقاطه لإنجاح أي مشروع إعلامي. هذه المشكلة تنسحب على مؤسسات اقتصادية أيضا يدفع غياب ثقافة التسيير لدى القائمين عليها إلى اعتماد آليات بدائية في انتقاء الطاقم البشري، كالقرابة و الجهوية، الأمر الذي يحول المؤسسة فيما بعد إلى كيان هجين يختلط فيه التكافل بالعمل بل ويتفوق عليه. التوريث في الصحافة أيضا وموضوعتنا هنا، هي مجرد محاولة انتباه إلى الهندسة غير المرئية التي يقوم عليها معمار المؤسسات الإعلامية و أول ما يلفت الانتباه أن الهيئة الإعلامية، قد تأخذ سلوك السلطة وبنية "العائلة" وتكشف معاينة واقع الحال عن وضعيات كاريكاتورية عجيبة فقد يكون لزوجة المدير العام حق النظر وحق تقرير مصائر العاملين في "الموقع" ويمكن لأختها إن أصابت حظا من التعليم أن تصبح صحفية، وإن خانها المستوى فثمة مناصب إدارية كثيرة تمنحها الوجاهة الضرورية التي تليق بها. وفي بعض الحالات يمكن أن يصير صهر المدير مسؤولا رفيعا في الجريدة قد يتولى حتى رئاسة التحرير ولابد من تدعيمه بمأجورين يعرفون الكتابة والقراءة ومكائد السياسة. وبإمكان إخوة المدير وأبناء عمومته و أبناؤه وأبناؤهم أن يصبحوا صحفيين خصوصا وأن هذه المهنة لازالت تجود بنوع من الوجاهة وبكثير من الريع. وبمستطاع ابن المدير الذي لم يبلغ سن الرشد، بعد، أن يصبح سفيرا متجولا فوق العادة بالمؤسسة يأمر وينهي ويقرّر. أما ابنة المالك فإنها تمتلك سلطات خطيرة تستطيع بموجبها تغيير المدراء ورؤساء التحرير وطرد الصحافيين وتحديد رواتب الجميع. وفي حالات أقل سوء يمكن أن يسيطر أبناء قبيلة أو جهة أو عرق على مؤسسة إعلامية حيث يعمل المسؤولون على استقطاب أطفال القبيلة لتمكينهم من الريوع وضمان الولاء، ولا تسند المسؤوليات هنا إلا لأبناء العشيرة بعيدا عن أي استحقاق. وبالطبع فإن "صناع القرار" سالفي الذكر لا يملكون أي تأهيل للانتساب إلى هذا الحقل والمؤهل الوحيد الذي يحوزون عليه هو وجود قريب فيه. لتتشكل في نهاية المطاف بنية تضرب مفهوم المؤسسة في الصميم وتستبدل علاقات العمل بتبادلات عاطفية ويصير سلم التقدير متوقفا على مدى القرب والبعد من الباب العالي، الذي يمنح نفسه هالة أسطورية يصير بموجبها الأب الملهم والمنقذ الذي ترتبط به المؤسسة ارتباطا عضويا إلى درجة أنها تزول بزواله. وبالطبع فإنه يلبس بمرور الوقت جبة الباطريارك و يصبح مزاجه ناموسا تسير عليه المؤسسة ويضبط عليه "المستخدمون" سلوكهم، لتتحول المؤسسة إلى كيان بدائي بالمخطط الكلاسيكي: شيخ العشيرة الذي يستأثر بكل الطيبات ويجود على من أحسن أداء طقوس الطاعة بالفتات. وسوف يخدم انفجار سوق الإشهار في الجزائر هذا الوضع حيث أصبحت المؤسسات الإعلامية حصالات نقود، لا تحتاج إلى تقديم مادة إعلامية مادامت تضمن مداخيل صافية، ناسفة بذلك كل مفاهيم وتقاليد العمل.وحتى وإن كانت المؤسسة الإعلامية تتقاطع مع غيرها من المؤسسات في ملهاة التسيير ومأساته و ذلك سبب التخلف الذي نعيشه رغم توفر أسباب النجاح، إلا أن المؤسسات الاعلامية تختلف عن غيرها – نظريا- بكونها ملتقى للنخب، على اعتبار أن تاريخ نشأتها ارتبط بنشاط نخب، لكن الأمر يختلف اليوم في الجزائر حيث بإمكان مقاول أن يصبح مديرا لجريدة و بإمكان مصلح تلفزيونات أو مركب هوائيات أن يخص نفسه بمقعد وثير على رأس مجمع إعلامي، الأمر الذي حوّل الصحافة إلى مقبرة للمواهب وجعل الصحفي المحترف الذي يرغب في ممارسة الحرفة على قواعدها الصحيحة مجبرا على الاختيار بين تغيير المهنة أو تغيير البلد.إن فحص المستوى الثقافي ومؤهلات القائمين على مختلف وسائل الاعلام قد يصيب بالدوار( ولنتغاضى عن الفحص النفسي الذي سيضعنا حتما أمام حالات سايكوباتية)، في وقت باتت كوادر إعلامية هامة تكتفي بأدوار هامشية حفاظا على مصدر الخبز المر أو تنسحب باكرا من المشهد الذي أحكم السيطرة عليه يأجوج ومأجوج. هذه الظاهرة، والتي هي على ما يبدو، جزائرية خالصة، تدفع بكل تأكيد إلى التشاؤم والخوف على مستقبل يدبره محدودو أفق لا يملكون الحس الذي هو خاصية كل ممارس لهذه المهنة ، يفهمون الصحافة على نحو خاطئ، أي كمصدر للأموال ووسيلة للنفوذ، فتصبح المهنة بذلك مجرد دابة تُركب. ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن عائدات النشاط الصحافي لا تؤول إلى الصحافيين بل تؤول فضلا عن أصحاب الفضل، إلى ممارسي النشاطات الثانوية كالموزعين وجامعي الإشهار وغيرهم كثير، في حين قد يخرج الصحفي من المهنة كما دخلها، إذا استثنينا ما اكتسبه من حلاوة في الدم وضغط في الشرايين.وسط هذا الجو العائلي الخالص تتشكل هندسة غير مرئية للعلائق وقد يتشكل هرم في وضع مقلوب، وربما صار بموجب ذلك الحارس أهم من رئيس التحرير، والسائق أهم من الصحفي أما السكرتيرة فمكانتها محفوظة في كل مكان و زمان. ويمكن لصحفي أن يبلغ سن التقاعد دون أن يحسن كتابة خبر بسيط عن حادث مرور لأنه لم يستفد طيلة مسيرته المظفرة من أي تدريب أو تأنيب، واكتفى بالصفة التي أخذها انتحالا و اطمأن فيها ما دامت تمنح وجاهة اجتماعية. والوضع مرشح بقوة للاستمرار مع تكاثر العناوين التي أصبحت تشغل "أطفالا" بعقود ما قبل التشغيل كصحفيين وتلقي بهم إلى الشارع دون أدنى تكوين أو تأهيل.صحيح أن مؤسسات معدودة في القطاع حققت نوعا من النجاح وحافظت على شكل المؤسسة وقدمت منتوجا إعلاميا متميزا، لكن عدد هذه المؤسسات يبقى قليلا مقارنة مع العدد الهائل للعناوين، كما أن هذه المؤسسات لم تسلم بدورها من تأثير الهندسة اللعينة المشار إليها أعلاه. وينسحب التشخيص على المؤسسات الخاصة كما على المؤسسات العمومية التي يجري غزوها عشائريا في كل مرة في غياب الرقابة ومواثيق الشرف المهني التي تتصدى "للمنكر" الذي يصيب المهنة. وتصبح المخاوف مضاعفة مع ما يفرضه التطور التكنولوجي والعلمي على وسائل الاتصال التي باتت مجبرة على تقديم المعلومة آنيا وما يتطلبه ذلك من اكتساب مهارات وتنويع وسائل الاتصال فنجاح الجريدة مرتبط بحجزها لمكان في الفضاء الافتراضي و ملاحقتها للقارئ وسط منافسة شرسة، دفعت الجرائد اليومية وحتى قنوات التلفزيون إلى العمل دون توقف وعلى جميع الجبهات مستخدمة المواقع الالكترونية والهواتف في سباق محموم على نقل الخبر والتعليق عليه وصناعة الرأي العام والتأثير فيه. وتكتسب المخاوف مبرراتها من كون البقاء على هذه الحال يجعلنا خارج التاريخ بعد حين لأننا سنصبح أمة بكماء غير قادرة على التواصل والحضور على مسرح الأمم. صمت المهنيين على الفوضى يساهم في إطالة عمرها ومثلما يقتضي تطور المجتمعات البشرية الانتقال من المراحل البدائية إلى الحداثة نسف البنية الكلاسيكية، ومثلما يقتضي تطور الدول الانتقال إلى ديموقراطية قوامها الاستحقاق ، فإن تطور وسائل الاعلام مرهون بكسرها للبنية البدائية العائلية العروشية الريعية، وانتقالها إلى مرحلة المؤسسة واضحة المهام والأرقام، تدار بشفافية كما هو معمول به في البلاد السعيدة وليس بأساليب المنظمات السرية، و تقدم منتوجها الذي سيكون هو عنوانها وصورتها وسر وجاهتها، ولا تحتاج إلى من يقف خلفها أو أمامها. وأول الخطوات في هذا الاتجاه تتمثل في كسر جدار الصمت الذي يحيط بواقع الاعلام في بلادنا بدون طابوهات، حيث تصبح عدم إدانة الفوضى مساهمة في استفحالها ويصبح النقاش العلني ضروريا من أجل فرز الساحة وإعادة المهنة إلى أهلها وإخراج الأعراش منها. ملاحظة ما سبق ذكره مجرد إشارة عجماء إلى مشهد يستعصى على الوصف، والصدفة بريئة كل البراءة من أي تشابه في المناقب والصفات.