منذ سنة تقريبا التقيت مجددا بصديقي الشاعر بول شاوول، كان خارجا للتو من مرض فاجأه، لم أجده بسيجاره الطويل لكنني وجدته بنفس ذلك التدفق الهادئ الذي عرفته به عندما تعرفت عليه لأول مرة في بيروت···التقينا لأول مرة منذ 4 سنوات في إحدى مقاهي بيروت، كان رفقة الروائية اللبنانية صاحبة رواية ''دنيا'' والشاعر والناقد العراقي المقيم بباريس كاظم جهاد،والمخرج العراقي جواد الأسدي·· يومها حدثني بول شاوول بحب وحنين عن الجزائر، وسألني عن أحوال الجزائر، وكيف انتقلت فجأة إلى نفق أسود خلال التسعينيات، وهو الذي عرفها في الثمانينيات متفتحة ومشرقة وطموحة وواعدة، أعطيته نظرتي عن مقدمات الأزمة، لكن حدثته أيضا عن مقاومة الجزائريات والجزائريين، وعن الحراك الثقافي الذي ظل مجهولا عند الكثير من المشارقة، وتحدثنا باستفاضة عن التعددية الثقافية التي ظلت دائما خلف ستار الإيديولوجيا الواحدة التي حاربتها وحاولت طمس ملامحها باسم الوحدة الثقافية والوطنية··· ثم سألت بول شاوول عن أعماله الأخيرة فراح يحدثني عن عمل أخير له، وهو عبارة عن قصائد مترجمة للشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا·· وفي اليوم التالي عندما التقينا في مقهى لبناني، منحني كتابه الصادر عن دار النهضة العربية ببيروت، وكتب لي على صفحته الثانية إهداء جميلا '' إلى الصديق احميدة ذكرى لقاء رائع وصداقة·· وتقبل باستمرار···''، وعندما تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي دفع ببول شاوول في هذا الزمن الذي أصبح معاديا للشعر، وأصبح الشعر قابعا في زاوية مظلمة أمام الانتشار المهيمن للرواية، و جدت الجواب عن تساؤلي الخفي عندما قرأت مقدمة بول شاوول، التي جاء في مستهلها بأن شعر بابلو نيرودا ''مازال يحتفظ بقوته ونضارته بعد زوال مختلف الظروف التي ساهمت في تغذيته وشحنه''· وقال أيضا بأن ''الهالات السياسية التي كانت تغلف هذا الشعر وتحجب طاقته الهائلة وتقننه وتوجهه توجها أحاديا قد تبددت، لتترك الشعر وحيدا بحياته الخاصة''، وهذا في نظري ما يجعل الشعر الأصيل اليوم قادرا على مواجهة التحديات، وقادرا على الاستمرار ليس فقط في الحياة، بل على إعادة خلق وتجديد الحياة أمام كل ما يجعلها في خطر من فقدان صدقها وعفويتها ونضارتها ومعناها··· هل يمكن أن تكون ثمة حياة دون شعر؟! على الأقل هذا ما راهن عليه الكثير ممن انبهروا بحداثات التكنولوجيا، واعتبروا أن الشعر أصبح جزءا من الماضي الذي تجاوزه العصر·· ونظروا إلى المادة كدلالة انتصار العقل على القلب، وعلى الروح··· لكن الرهان كان خاطئا·· فالانتصار الباهر للتكنولوجيات الجديدة والتحولات العميقة التي طرأت على العالم لم تقض على أهمية الشعر، بل وهنا المفارقة، أعادت إليه قيمته العميقة من جديد··· واتخذ الشعر دلالة أكثر عمقا مما كان عليه·· لذا، وأنا أعيد قراءة أشعار بابلو نيرودا التي قام بترجمتها الصديق بول شاوول، اكتشفت بابلو نيرودا جديدا، وهو غير بابلو نيرودا الذي كان يلهب حماستنا النضالية يوم كنا في الجامعات، بل بابلو نيرودا الإنساني والغنائي والرومانسي الذي يبعث فيك تلك الروح المتألقة التي تحررك من كل أدران الإيديولوجيا والنضالية المفرطة··· وتقودك رأسا إلى بئر المحبة والعشق الإنساني الجميل، يقول نيرودا·· أنا لا أحبك كوردة ملح·· الزبرجد·· قرنفل نشاب ينشر النار·· كما نحب بعض الأشياء الغامضة، إنما بين الظل والنفس، سرا أحبك، أحبك كالنبتة التي لا تزهر، التي تحمل في ذاتها خبيئا، ضوء هذه الأزهار·· وبفضل حبك يعيش غامضا في جسمي العطر المهموم الذي يفوح من الأرض·· أحبك ولا أعرف كيف ولا متى ولا أين·· أحبك بلا مواربة، بلا كبرياء، بلا مشاكل، أحبك هكذا، ولا أعرف طريقة أخرى للحب، أحبك هكذا، بدون أن أكون، بدون أن تكون··· ألا يجعلنا درس نيرودا نعيد قراءتنا لفطاحل عرب، مثل بدر شاكر السياب والفيتوري والجواهري وأبي القاسم الشابي وغيرهم من الأصوات الشعرية التي جعلت من قلعة الشعر العربي أحد دلالات الزمن العربي المفقود···