ولد حمود عثماني في 12 من شهر أفريل سنة 1942 بتفشون· حينما نشرت له هذه القصة بمجلة وعود في عددها مارس- افريل 1970، كان الكاتب يشغل منصب تقني الجدولة في شركة سوناطراك، وكان قد سبق وأن أصدر أقصوصة في ''أخبار الجزائر'' تحت عنوان ''موز و قشرة الموز''، تناول فيها موضوع تجارة المخدرات على الصعيد الإفريقي· و في عدد اليوم سنترجم له قصة (الأموال القذرة) التي يفضح من خلالها فوضى المنظّمة العسّكرية السريّة عشيّة الاستقلال· - أسرع يا جوزيه، نحن في انتظارك، ليس هنالك وقت للهو··· قال رونيه ذلك وقد اشتد به الجهد وانتابه قلق شديد··· كان بيراز جوزيه قد لفه شرود طويل، وهو يحمل البطاقات بين يديه· - ماذا؟ أنا جبان؟··· حدث نفسه كمن استفاق من غيبوبة· - فيما تفكر؟ سأله ايمانويل رونيه· - أواه، أنت تجهد نفسك دائما··· سيحدث كل شيء كما توقعناه، أنا متأكد··· قال غارسيه ذلك في هيئة الواثق من نفسه· في مثل هذا الوقت من النهار لا يتردد الكثير من الناس على هذا النوع من الحانات، حيث تتواجد إحداها في نهج ينتهي إلى شارع ميشلي(1)· كان رايغ فليب، صاحب الحانة، قد فارقته البسمة منذ مدة، لقد تغيرت ملامحه وأصبحت سلوكا ته تثير استغراب الزبائن··· وكثيرا ما أقدم على تصرفات المغرور معهم، فيبدو كمن يملك انشغالا كبيرا في الحياة أوهدف ما··· ورث فيليب رايغ هذا المقهى عن والده الذي توفي منذ سنين مضت· لقد كان خلالها رايغ لا يتجاوز الخمسة والعشرين حولا··· وهاهو الآن في الأربعين من عمره، لا يزال مفعما بالحيوية، نشيطا محتفظا بشبابه· ولولا بدانته تلك، فقد يبدو أصغر سنّا مما هو عليه، حيث لا أثر للتجاعيد في وجهه، مما يجعل الناظر إليه يأنس فيه وجه طفل بريء··· وعند كل مساء، كان رايغ يعبر عن سعادته في العيش، فيطلق العنان لقهقهاته المتواصلة، وهو يتناول الكحول بشراهة··· كانت تلك حياة فيليب، تسري طوال تلك المدة، غير أنها أخذت تشق منحى آخر هذه الأيام ··· لقد تغير سلوك رايغ خلال الأيام الأخيرة، حتى أنه أصبح يمنع زوجته من مساعدته في العمل، لقد اعتاد على إقفال درج الخزينة بالمفتاح، حتى يتفادى أية سرقة··· فهل تتصورون أنه كان يخفي مسدسا جديدا في مؤخرة الدرج، في منأى عن أنظار الزبائن الذين لا يعرفهم؟ وكم كان هذا الشيء ينفخ فيه إحساسا عظيما بالشجاعة و الوقار،حتى أنه تمادى في إحساسه ذاك وخيل إليه أنه ذو هيبة متميزة في محيطه···· كانت تلك سنة ,1962 ستبقى راسخة في ذكرياته· رنّ الهاتف، فعمد رايغ إلى الكأس الذي كان ينظفه جانبا، وألقى بمنديل النظافة من يده، فأسرع إلى السماعة، ثم ما لبث برهة وأن أجاب الطرف الآخر: انتظر لحظة من فضلك· التفت رايغ إلى زمرة الشباب الذين كانوا يلعبون الورق، فصاح في أحدهم: - جوزيه، أحدهم ينادي عليك· ألقى جوزيه بالورق على الطاولة، وأسرع خلف الكونتوار، فأخذ السماعة من يد رايغ، بينما وقف هذا الأخيرعند مدخل الكونتوار منتصبا، كمن يحرص على تجنب دخول أي أحد قد يشوش على المكالمة· - إننا نلعب الورق نحن الأربعة، قال جوزيه لمحدثه في الهاتف· - ··· نعم، بخير· - ··· - الوسائل؟ كل شيء جاهز، وبخصوص السيارة، فقد قام غاستون بكراء سيارة ''403'' باسم مزيف··· إنها الآن بمأرب يقع في شارع أوبرت· - ··· - نعم، خصوصا هذا الأمر· قال جوزيه بيراز ذلك وهو يزحلق يده داخل سترته·لا ندري، قد نكون مجبرين على استعماله حين الحاجة· - ··· - هل أقنعتموه بالأمر؟ - ··· - أجل، استعمال القوة ضروري أحيانا· قال جوزيه ذلك كمن اقتنع بشيء ما· - ··· - وهو كذلك يا سيدي، تماما عند الساعة الرابعة زوالا، ومن ثمة سننتظر الأوامر· - ··· -إلى اللقاء· قال جوزيه ذلك، ثم عمد بسماعة الهاتف بسرعة إلى موضعها··· * * * * * كانت السيارة تسير بسرعة معتدلة، وكان بيراز أكبر الفتية سنا، يحاول تحديد موضع ملائم لركن سيارة ا403ب· - أما أدركتم ذلك؟ مرتين ونحن نطوف حول الحيّ دون أن نتمكن من إيجاد أي مكان لركن السيارة··· - حسنا،انظر، أظن هنالك موضع ما··· صاح رونيه مشيرا إلي المكان بإصبعه· - يا للحظ ، إنه لا يبعد سوى بضعة أمتار فقط عن البنك، واصل غارسيه حديثه··· وبمجرد أن ركنت السيارة، التفت بيراز نحو شركائه··· - هل فهمتم الخطة جيدا؟ أومأ الثلاثة برؤوسهم من غير كلام··· - فضلا عن ذلك، لا يسمح إطلاقا باستعمال الأسلحة إلا في حالة الضرورة القصوى··· حسنا··· رونيه، أنت مع دونيه، أدخلا أنتما أولا، ثم اصعدا مباشرة إلى الطابق الثاني··· و بعد ذلك، توجها إلى اليمين، حيث تجدان في المؤخرة بابا مكتوبا عليه بحروف بارزة ا السيد فيردناند-المديرب، حينئذ ستدخلان ثم ··· ولتوه قاطعه غارسيه قائلا: و لكن ألا يوجد هنالك حارس؟ - بلى يا غارسيه··· و لكنه سيكون غائبا بعد هذه الظهيرة، لقد تسببنا له في ذبحة لوزية ستمنعه من العمل لا محالة···حسنا، دعني أواصل حديثي: وفي حالة وجوده رفقة أشخاص آخرين ما عليكما إلا بتولي أمرهم، و إلا فخذا الحقيبة و انزلا من دون إثارة أية ضجة··· مفهوم؟ - نعم، نعم ··· أجاب سيغيرا، دونيه و إيمانويل رونيه في آن واحد· و بعد ذلك استدار بيراز نحو غارسيه الذي كان جالسا بالقرب منه، فواصل حديثه : - أما أنت يا غاستون، فعليك أن تنتظر دقيقتين، ثم ادخل إلى البنك وانتظرهما على أريكة في الطابق الأرضي ··· أظنك أدرى بما يجب فعله في حالة حدوث أيّة مشكلة؟ - طبعا، سأهرع إلى حمايتهم في حال حدوث أي مكروه· - ممتاز، أما أنا سأبقى في السيارة··· غير أنه لا يجب أن يتعدى زمن العملية خمس دقائق، هلم بنا، فلنضبط ساعاتنا على توقيت موحد· وفي زمن وجيز ضبط الأربعة عقارب ساعاتهم· - حان الوقت، إنها الرابعة بعد الظهر؟ صاح فيهم بيراز· - أومأ الفتية بالموافقة، والكل كان على أهبة الإستعداد··· - انطلقوا··· نزل سيغيرا و إيمانويل من السيارة و توجها بسرعة نحو المدخل الرئيسي للبنك، حيث كانت تدبّ الحركة، ومن دون لفت أي انتباه، امتدت خطواتهما عبر سلالم الطابقين بخطوات حذرة، ثم توجها مباشرة نحو باب المكتب الواقع في المؤخرة، و ما إن بلغا مكتب المدير حتى توقفا لحظة··· دفع إيمانويل بالباب حتى وجد نفسه وجها لوجه أمام السيد فيرديناند· وفي حينه لحق به سيغيرا إلى داخل المكتب· كان المدير منشغلا في مكتبه بتفحص مراسلات ووثائق إدراية· وما ان حدقت عيناه في الرجلين، حتى طاوعه الصمت برهة، ثم ما لبث أن نزع نظاراته، ووقف في موضعه، ويده لا تزال تطاوع حافة المكتب كمن يتكئ على شيء· - آه، ها قد وصلتم، لقد كنت في انتظاركم· قال ذلك مبتسما وهو يشير إلى ساعته··· ثم لم يطل وأن أضاف : - و أحسن ما في الأمر أنكم وصلتم في الموعد بالضبط · ألقى المدير بنظره جانبا حول مكتبه، حيث كانت هناك حافظة من الحطب المشمّع، فسحب مفتاحا ذهبيا من الجيب الخارجي لسترته، ثم فتح الحافظة وأخذ منها حقيبة معدنية من الحجم المتوسط، و قدّمها للرجلين··· كانت الحقيبة تحمل ما قيمته المليار من العملة ··· وفي تلك اللحظة أخرج إيمانويل يده اليمنى من جيبه وأخذ المليار، وألقى بنظره إلى شريكه نظرة المزهو، وهو يعبر عن رضاهما بسير الخطة· وما إن هم الرجلان بالانصراف حتى قاطعهما السيد فيردناند وهو يقترب منهما، باسطا وجهه لسيغيرا: - هيا يا سادة، لنموّه الحادث حتى لا ينكشف الأمر··· غرز سيغيرا أصابع يده اليمنى وجه فيردناند، حتى تأوّه من الألم قبل أن يهوى على الأرض··· و في هدوء، خرج الرجلين من المكتب و سحبا الباب من ورائهما، وعند نزولهما من سلالم البنك، وجد إيمانويل غارسيه في انتظارهما عند الردهة، وفي خفة أومأ لهما بالانصراف، فخرج الثلاثة بسرعة··· وفي شارع الجمهورية، كان بيراز ينتظر رفاقه في السيارة، كان المحرك لا يزال مشتغلا· وفي لحظات قصيرة، فتح بيراز الأبواب الخلفية، وما إن صعد الثلاثة حتى انطلقت السيارة بأقصى سرعة، فملأت عجلاتها أرجاء الحي صفيرا رهيبا··· وخلال لحظات من الزمن، أوشكت السيارة على بلوغ قصر العدالة، فطرق سمع الرجال طلقات الرشاش تدوي المكان··· - آوه، إنهم يطلقون النار· استفسر إيمانويل قلقا· وعلى التو، أطمأنه بيراز : - لا تقلق، لقد وضعنا ذلك في الحسبان· ليس الأمر إلا تمويها من المدير، أو لا شك أن عاملا آخر أطلق صفارات الإنذار· و بما أن حارسي المدخل الرئيسي هم شركاءنا في الخطة، فلا محالة أنهما تلقيا أمر إطلاق النار بضع ثوان بعد العملية· كانت السيارة متجهة صوب ا لا مادراغ ا(2)، وقد ازدادت سرعتها أكثر من أي وقت مضى··· - ألا تظن أن شبهة التواطؤ ستلاحق حتما مدير البنك هذه العملية؟ سأل إيمانويل· - لماذا تظن ذلك؟ أجابه رونيه· - لأن هذه القيمة من الأموال كان من الواجب ألا تتواجد في مكتبه، بل في الغرفة الحديدية··· ألا تعتقد معي ذلك؟ - ولكن فيردناند لم يقم إلا باحترام مذكرة دورية موجّهة لكل مدراء البنوك· -موجّهة من قبل من؟ نحن؟ - لا، من قبل وزارة المالية· تطلب منهم هذه المذكرة إفراغ الغرف الحديدية و تخزين النقود حتى داخل المكاتب كاحتياط أمني· - إنهم محقين في اتخاذ مثل هذا الاحتياط مع الوضع السياسي الراهن، و مع ذلك لم يمنعنا هذا من اجتياز العقبة··· قال غارسيه ذلك و هو يبتسم مزهوا منتصرا· - و ما هي وجهتنا الآن؟ سأل سيغيرا· - سنتوجه الآن إلى مزرعة صغيرة تقع بالقرب من القليعة··· إكتفى بيراز بهذا الجواب ولم يلمح إلى تفاصيل أخرى عن الوجهة، وفضل أن يكون الأمر أكثر سرية· - ومن هو مالك هذه المزرعة؟ - إنها ملك لامرأة عجوز، تستغل أرضها بمساعدة ولدها، مزارع يبلغ من العمر خمسة وعشرين سنة· يتبع/ ··· 1- شارع ميشلي : شارع ديدوش مراد حاليا، يقع بوسط العاصمة· 2- لامادراك : ضاحية بعين البنيان، بالجزائر العاصمة·