ينهل حازم صاغية من ديوان العرب، يجترح لغة هي مخلوط السحر الأسود باللون الزاهي للعنب والتين والدراق والكرز، وفوق ذلك مخلوط فكري وبنية دينية غير أرثودوكسية وسياسية، وفوق ذلك ابن الأثير والجرجاني وزبدة الفكر النحوي العربي وأساطينه، وفوق ذلك اللاهوت والناسوت وعبد الناصر والخميني والريف العكاري ومخمل الأشرفية· يحيط حازم صاغية بالأحداث كما بالحوادث وهو كذلك يعرف أين يضعها ويموضعها ساعدته اللغة الجميلة التي تربت أنامله عليها، ساعده الأسلوب الذي يشي بوفرة قراءات ووفرة اطلاعات تندر عند كاتب آخر وساعده هذا الترميم الذي يمارسه مع الذاكرة وفسوخها وساعدته الميولات التأريخية -التي تطبع حل تحليلاته- على كتابة سيرة، سيرة وفقط بالنكرة، كتبها وتنكر لها من العنوان، من أول الخطا، قائلا ''هذه ليست سيرة''، وهو بذلك لم يشأ جذب عشاق السير والبيبيوغرافيين إلى منطقته أو مراودة القارىء عن نفسه، عن هواه وأهوائه، عن لغته وجماله إذ لمح حازم إلى الضجر من أول الحكي·· ليس بذي أهمية ذكر المناخات التاريخية التي نشأ فيها ولا البال مشغول بالإحاطة والمواكبة وهما العنصران اللذان يشغلان عملية الكتابة السيرية، إن حازم صاغية متمكن في فن القول ولحنه كما في قصه وسرده ولا يبدو أنه تعذب كثيرا في إخراج هذا ''المؤلف السردي'' الصغير والذي كانت للجدة فيه عظيم الشأو، وإنني أكاد أقول عن جدته هي ذاتها حازم صاغية المعلول بالشعر وأذوقه بل أعذبه وأغناه وأشهاه إذ الشعر هو الثقافة في ذائقة ذلك الزمان، في أعرافه وتقاليده، لقد وضع صاغية الجدة حيثما تستحق مكانتها فلقد انشدت إلى عصر عربي سحيق -رغم مسيحيتها- فمثلها قتل خليل السكاكيني المعلم الكبير، الإلحادي، الوثني الذي أحل معلقة ابن كلثوم مادة للصلاة محل الأناجيل· كانت الجدة أقل تطرفا في لاهوتها فهي إن خيرت بين خالد وأنطون لاختارت الأول، كما هي الأشجع كي تنساق وراء دلالات الاسم العربي كفريد أو فؤاد وتلك حيلة مسيحي الشرق برمتهم، إذ ينأون على التقليد ولا يماحكون أقواما آخرين حتى لا تكون لهم ميداليات السبق·· في فصله هذا -من السيرة- تثبيت محكم لسيرة المسيحي العربي، لآلامه الباطنية ومراوحاته بين الزمن الديني الصرف والزمن الجغرافي، وينتمي هذا المسيحي ''يقصد الجدة'' إلى إرث سماوي، علوي، مجلل بالمواعظ وبرسائل بولس الإثينية وحياة وآلام المسيح والقائمقامية الروحية ''ذاك أن مسيحية جدتي بقيت تترجح بين الإقامة في الطابق الثالث، حيث تستقر الروح وتتعالى، وبين مستودع الخردة المركون تحت الطابق الأول''·· هذا الميلاد داخل الصحن الرسولي، اللاهوتي، كان يؤرق الجدة ويؤرق حازم في كبت لا يوارى ويعذر إخفاؤه لصالح هذا ضد ذاك، لقد فعلت مفاعيلها قصائد شبلي الملاط ووقعت من قلبه أوزان الشعر وأعجوبة القوافي وأسرار الأمكنة، إذ لن تكون الأيقونات في مدارس الدير هي من يحرم أو يعصم من الوقوع في الإثم العربي، العروبي ذلك الذي تورط فيه عرب المشرق وعرب المغرب وعرب البحرين، لقد كان جمال عبد الناصر يغري عرب المسيحية في أماكن عدة من الكورة والمتن إلى صيدنانا وسائر المشرق بحريات موعودة ورؤوس ترفع ودولة عبرية تهزم في أقل من أيام ستة، كان هكذا هذا الزعيم يخطب في الناس بالويلات على الآخرين من عملاء وبن غوريين في سلسلة خطب خاوية من قوام اللغة الممشوق ومن نسقها الموسيقي ومن أجراسها الصرفية سوى وعوده المغويات بجنان الحرية·· يذكر حازم صاغية في أول سيرة سياسية غير مكتملة وغير مكتملة وغير شرعية نثارات كثيرة عن الزعماء العالمثالثين الذين ملكوا العالم بطيشهم الكلامي، بحركاتهم العربية، وبإفريقانيتهم العالمثالثية التي كانت تزدهر في رواجها مدعومة بدعاء الجدة ورعايتها، عن باتريس لومبومباوتينو ونهرو وسوكارنو ونيكروما ''يكفينا أن تذاع أسماؤهم وهم يزورون منشية البكري في القاهرة أو يزورهم الزعيم المصري في قصورهم كي نحس أن الكون يسير بموجب الخطة المرسومة، وكثيرا ما ارتدت لقاءات كهذه، حلة صارخة في احتفاليتها، فغصت الشوارع بالصور والهتافات، كما تجمعت الجماهير حول مواكب القادة تحاول حمل السيارة التي تقلهم''· إن هذه ليست سيرة في سيرتهم بل إسراء في ليلهم الساهي، الداهي آنذاك ومعراج على بطولاتهم وبطولياتهم كي ينقل الجدة المنتعشة، المطمئنة لصوت العرب وصوت أحمد سعيد وهو متعرق الجلد، منتفخ الأوداج، مغلظ الأيمان بعبارة عبر عنها راديو إسرائيل أو أخرى فاهت بها غولدا مائير أو تنحنح بها مالك الأردن حسين ليلقي هذا الناصري -المفجوع بست أيامه النحسات- وابل الرصاص اللفظي والكلم المرعد في حق هؤلاء، وبتعابير مشوومة، خليعة، تشفي غليل الجدة وتذيق حلق الجدة بماء الصبر الجميل قائلة ستربي عليا -ابنها- أو هي عرابته هكذا ''لا يساوم الاستعمار''، وعلي هذا سرعان ما يروقه الأمر ويثيره فيكرر مقولات أحمد سعيد القاهري العروبي، السليط ''بات علي يردد الأوصاف التي يطلقها كما لو أنها مسلمات مجمع عليها، فوزيرة خارجية إسرائيل عجوز شمطاء، والملك الأردني قزم عمان وابن زنا، وتشومبي ذنب الاستعمار وعميله، وهؤلاء كلهم سوف يعرضون تباعا لحذاء أبي خالد، يدوس جباههم في غد عربي عزيز''· بقدر المحبة كان العتب فلن يبقى ناصر وناصريته في مكث مقيم وبقاء مستديم نازعا الإعجاب باستخفاف القوم وبكاريزما أخوية طهرانية ترفع طيبة الشعب الفقير إلى مصاف المثال، فلقد ظهر في سيرته لاعبون جدد، وبدت الناصرية الوافدة مجرد نثر مسترسل لا يعول عليه بالنسبة لعاشق هائم بشبلي الملاط وميشيل عفلق ولزوميات المعري وخمريات أبونواس·· يضرب حازم صاغية كثيرا في مناكب الأرض واللغة والأسماء والزعامات، لقد اهتدى بعد الهزيمة الحزيرانية -كما يقول أهل المشرق- إلى أنطوان سعادة، وأنطوان شخصية شابلينية أراد محازبوه تعليقه بجدار الربوبية الكاملة التي لا يعتورها نقص، يكلم الطير والوحش، ويتشبه بشخصية سيدنا داوود، لفحة التحديث ضربت هي في أرضه -أرض حازم صاغية- الوافد من الريف العكاري نحو الأشرفية ونظريات النقاء الشامي والطليعة السورية، اليافع كغير، غير المعطف والذائقة واللكنة، انسحر بعوالم سعادة وأجوائه ودعواته أولها بالمهاجرين في أن يعودوا غير مكسوري الجناح بل تحت جناح الأمة الجديدة حتى يعمروا الأمة ويميزوها بتمدنهم ونهضتهم· ''في ليست سيرة هذه'' يكون حازم الشيوعي مرة أخرى عبر طريق اختاره هو والشيوعية اللبنانية كانت منذ البدء تسمي مشروعها بالطريق، رعته بالتعاليم والفن والاتجاه المسرحي فذاك كان يكفي لهاوي التجارب العقائدية من مثل حازم أن يساق إلى شيوعية حالمة، جميلة، تلثغ من إذاعاتها بأسماء أمكنة وشخصيات كخروتشوف وبولفانين أو تبوخاريست وصوفيا كما سيكون ليوري غاغارين وسبوتنيك الظفر والكسب غير المشعور به، إذ سينتمي جيل عربي طموح لا يختفي وراء ستار العائلة أو القومية أو الديانة إلى شيوعية مخيالية، شيوعية الروس وهم يطأون أرض القمر قبل الأمريكان· الحلم الروسي استمر يحفر في باطن حازم الثقافي، فمع الإخفاقات العروبية كان ثمة حبل نجاة للكثير من اليساريين العرب من أمثال العراقي فالح عبد الجبار الذي التقاه حازم كيما يغذي يقينياته بالسلاح الجديد للماركسية، المعرفة وأصولها، الفلسفة وكبارها من المعلمين والشارحين من أدورنو إلى لوكاتش إلى غرامشي إلى ألتوسير وكذلك روزا لوكسمبورغ وتروتسكي فضلا عمن كانوا كالأناجيل في المرجعية العسكرية كالفيتنامي جياب والأرجنتيني تشي غيفارا·· ذكرني حازم صاغية ببطل رواية قديمة لمطاع صفدي عن الفلسطيني ''محترف تورات'' فهذا السيل العرمرم من تجارب الكاتب، الصحفي، النشطوي، الحاد الذكاء، تفضي إلى القول أن حازم ولع بالتجربة لذاتها، فلم يكن على طمأنينة تامة مما يقترفه في حق نفسه وروحه من أفكار، فالمحافظ، القومي، اليساري، الخميني، الليبرالي كان يدخل ميادين النار، يعين الشياطين، ولا يخاف في الله لومة لائم من تقلبات مزاجه الفكري المتواصل، لقد عانق الرجل الخميني وآمن بخمينة الحوزة والتقشف المالي والابتعاد عن لطم الخد فقط إذا تعلق الأمر بإسرائيل ·· قبل أن يكتب هذه النصف سيرة، فكر ألف مرة حازم في أنها لن تذهب إلى قارئها راضية مرضية، من أجل ذلك لمح من الأول إلى الضجر، غير أن متعة حازم قائمة ما ظل يكتب ملتصقا بالسياسة كارها لها كما يحب أن يقول هو دائما··