في هدوئه الذي يوحي بأكثر من فكرة، وفي كلامه الذي اجتمع فيه علم البلاغة بالكلام وبالمنطق واللغة وأصول الفقه، في أسلوبه الذي يتحرى الدقة يبحر بك بعيدا حيث يجعلك وكأنك تجالس أساطين علماء البلاغة والكلام أمثال الجويني وعبد القاهر الجرجاني والبقلاني والغزالي وغيرهم ممن تركوا بصماتهم في حياتنا الفكرية والعلمية وغاصوا في علوم القرآن الكريم لاستحضار دلائله وتقريب معانيه من الأفهام، ذلك هو الدكتور أبو بكر حفيظي الذي التقته "المساء" بعد مناقشته مؤخرا دكتوراه دولة على رسالته الموسومة ب (النظرية اللغوية في تفكير الأشاعرة استقراء واستكشافا ) والتي نال بموجبها دكتوراه دولة بدرجة مشرف جدا مع تهنئة اللجنة، وأجرت معه الحوار التالي. - د.كتور أبو كر حفيظي، لماذا اخترت فكر الأشاعرة موضوعا للبحث في هذه الأطروحة ؟ يقود التفكير في هذا الموضوع إلى مرحلة ليسانس عندما تعلقت بمادة البلاغة، حيث أن أستاذ المادة عرض علينا بعض أراء عبد القاهر الجرجاني، فأعجبت بها ورجعت لبعض الدراسات في فكره وتراثه، فأعجبت بذلك وتوسع مجال البحث، إلى البحث في فكره وآرائه مباشرة وهداني ذلك إلى اقتناء بعض الدراسات الحديثة التي تقارن آراءه ببعض المدارس والنظريات اللسانية الحديثة فكنت أتساءل عند نهاية قراءة كل دراسة إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه المقارنات صحيحة وصائبة، وكان الشك يراودني في ذلك فعزمت على الرجوع إلى مصادر ومسارب فكره فقرأت بعض كتب الأشاعرة والمعتزلة على قلتها في ذلك الحين فاقتنعت أن لا جدوى من دراسة الجرجاني إلا بالعودة إلى آراء الأشاعرة والمعتزلة فوجدت أن بعض الآراء تمتد في فكر الفرقتين، فطرحت السؤال هل تأثرت إحداهما بالأخرى أم أنهما يصدران من مشكاة واحدة؟ وبهذا تولدت عندي فكرة البحث. - حسب المناقشة البحث كان ضخما وأنك أجريت عليه الكثير من التعديل والتصفية والاختصار لماذا؟ عندما رجعت إلى بعض آثار الأشاعرة وجدت آراء طريفة أغرتني بتتبعها فكنت أتقصى الفكرة في مصنفاتهم، فاجتمعت لدي مادة لغوية وبلاغية ضخمة جدا، وعندما أحسست أن المادة التي جمعتها كافية رجعت إليها بالمراجعة والتصفية والانتقاء والتصنيف، فوضعت خطة للبحث وبدأت في التحرير ففوجئت أن حجم البحث كبيرًا جدًا، فلجأت إلى الاختصار ما أمكن، واضطررت إلى حذف بعض الأجزاء والفصول والإبقاء على الإشارة إليها فقط. - أثير خلال النقاش عدم بحثك في الأشاعرة المغاربة، فلماذا أعفيت المغاربة من البحث ؟ لا أخفيك سرا أن تصور البحث في بدايته أنبنى على مصنفات خمسة من الأشاعرة فقط وهم، الأشعري، الجويني، البقلاني، الجرجاني والغزالي، لكن كما أشرت قبل، أن الآراء والأفكار أغرتني وأغوتني فامتدت إلى آراء بعض الأشاعرة المتأخرين كالرازي والشهرستاني والآمدي فتوسعت دائرة البحث تلقائيا. أما التفكير في آراء المغاربة فقد نويت أن أخصها بدراسة مستقلة لأن فيها من الجدَة والاختلاف والنقد والتفرد ما يجعلها جديرة بالاستقلالية وإن كانت الأصول فيها تبدو واحدة. - وما هي المصادر التي اعتمدتها في بحثك ؟ المصادر التي استقيت منها مادة البحث تشمل كتب علم الكلام وأصول الفقه وكتب إعجاز القرآن والبلاغة وبعض كتب المنطق وغيرها، وذلك لتكون النظرة شاملة تستوعب جميع جوانب الموضوع، وبذلك تتحقق الرغبة في النظرة المتكاملة للظاهرة اللغوية في جميع مستوياتها. - بماذا تتميز نظرة الأشاعرة إلى الظاهرة اللغوية ؟ تتأسس نظرة الأشاعرة إلى الظاهرة اللغوية على فهمهم لله سبحانه وتعالى وصفاته وخاصة الكلام والإرادة وأفعال العباد، فالكلام عندهم نفسي قديم قائم بذات الله سبحانه وتعالى، والألفاظ والإشارات والرموز وغيرها أدلة عليه، هذه حقيقة الكلام عند أغلب الأشاعرة، وهناك من يذهب إلى أن لفظ الكلام مشترك، يطلق على النفسي واللساني، أي اللفظ والإعجاز متعلق بالكلام اللساني اللفظي، لأن الكلام النفسي غير ممكن الإدراك، ودراسة القرآن تبيان لوجوه إعجازه واستنباط الأحكام الشرعية التي اقتضت من الأشاعرة أن يضعوا لذلك آليات للإستعانة بها لدراسة القرآن الكريم، فتوزعت آراؤهم في كتب علم الكلام والبلاغة وأصول الفقه خاصة، ولهذا وجدت الأشاعرة يركزون على المعنى والحقائق ويرونها مقدمة على الألفاظ والأدلة الأخرى، فهم يرون أن المعاني أولا، والأدلة عليها ثانيا، وأن لا تأثير للثانية في الأولى، لأنهم يرون أن كلام الله واحد، والدلالة عليه يمكن أن تكون متعددة، نحو الأمر، النهي، النداء، الاستفهام والتمني. - ما هي أهم القضايا التي تعرضت إليها في بحُثك هذا ؟ أهم القضايا التي تعرضت إليها في البحث شملت جانبين، جانب الكلام وجانب اللغة، فيما يتعلق بالجانب الثاني (اللغة) تعرضت إلى مبدأ اللغة أوضاعها ووظيفتها والدلالة من حيث الإفراد والتركيب والحقيقة والمجاز والاستعارة والاستفادة، وتتبعت كلُ ذلك في مصنفات الأشاعرة محاولا الوصول إلى جذور أفكارهم وامتداداتها عندهم أوعند غيرهم، ومحاولة كشف ما يتميزون به عن المخالفين لهم، خاصة المعتزلة. - لماذا لم تستند حسب بعض المناقشين إلى المراجع والمصطلحات الغربية ؟ يتضح ذلك من عنوان البحث هو محاولة استكشاف الآراء النابعة من فكرة الأشاعرة وعقيدتهم لأن الرجوع إلى المراجع الأجنبية يكون إما للمقارنة، وإما لتوضيح فكرة، أو تدقيق معنى، وأنا قرأت كثيرًا من آراء الغربيين، ودرست بعض المواد التي تعتبر غربية، ولهذا بعض آراء الغربيين حاضرة وإن لم أشر إلى مواضعها ومساقاتها، وأنا أردت أن أقول هذا ما عندنا وفق فكر باحث يعيش فكر وثقافة عصره، ومن أراد أن يقارن فالمجال فسيح، فقد رأيت بعض الآراء عند الغربيين إما مطابقة لآراء الأشاعرة وغيرهم، وإما أنها لا تضيف جديدا إليها، من ذلك أن الاستعارة عند أرسطو والغربيين عموما هي نقل لفظ من شيء، بل ذهب بعض علماء الربع الأخير من القرن العشرين إلى أن التشبيه البليغ استعارة ويسميها استعارة الحضور، أي حضور المشبه به مع المشبه، وهذه القضية فصل فيها البلاغيون العرب خاصة الأشاعرة حيث اعتبروا أن (زيد أسد) يمكن أن يكون تشبيها بالقصد والإرادة والقرينة، ويمكن أن يكون مجازا بقصد مخالف وإرادة مختلفة، أي أن هذه العبارة تحمل على المجاز أوالتشبيه باعتبارين مختلفين، ومن ذلك أن بعض الدارسين اعتبر قول الغزالي في مبدأ اللغة أن الخوض فيه فضول لا أصل له ولا ثمر، يتفق مع الدراسات اللغوية الحديثة باعتباره قضية ميتافيزقية، وأعتبره آخر مساكا عقلانيا علميا يعتمد الموجود ويستثني الغيبيات في الوقت الذي نجد الأشاعرة يتوقفون في هذا المبدأ، لا لأنه قضية، فإذا ظهر الدليل حكما وقطعوا. بطاقة فنية: - الدكتور أبو بكر حفيظي من مواليد زريبة الوادي ببسكرة. - درس الابتدائي في بلدته والمتوسط والثانوي بثانوية عباس لغرور بمدينة باتنة. - التحق بجامعة الجزائر حيث تحصل على شهادة ليسانس، ثم الماجستير على رسالته (الفصاحة اللغوية والبلاغية في القرن الثالث الهجري) - دَرس مواد علم الدلالة والبلاغة الأسلوبية وعلم التراكيب وعلم المفردات ومنهجية البحث. - تحصل مؤخرا من جامعة الجزائر بن يوسف بن خدة على شهادة دكتوراه دولة في علوم اللغة عن أطروحته الموسومة ب (النظرية اللغوية في تفكير الأشاعرة، دراسة استقرائية استكشافية تأصيلية) بدرجة مشرف جدا مع تهنئة اللجنة، يدرس في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة بن يوسف بن خدة الجزائر.