المناسبة كانت معرض الجزائر للكتاب 2009 ·· حيث كنت أمارس تسكعي اليومي بين الأجنحة ·· لأجد نفسي في جناح منشورات الاختلاف ·· ولأجد الروائي الجزائري المعروف بشير مفتي على طاولة البيع وبجانبه شاب جزائري عرفني به فورا وهو الشاعر والروائي الشاب سمير قسيمي ·· وكان الأستاذ مفتي قد نصحني باقتناء عدة روايات مترجمة حديثا من قبل دار نشرهم بمشاركة الدار العربية للعلوم ناشرون ·· ووجدتني لا شعوريا أطالب برواية الشاب الذي قدمه لي وفعلا تحصلت على نسخة ممهورة بإهداء جميل منه ·· عدت إلى الجماهيرية بعدة روايات جزائرية خاصة لجيل الشباب ·· جلدة الظل لعبد الرزاق بوكبة ·· الإعصار الهادي لبوفاتح سبقاق ·· بخور السراب لبشير مفتي ·· حروف الضباب للخير شوار ·· وغيرها · ولأن كل معرض كتاب أزوره أحرص على قراءة عدة روايات لكتاب البلد نفسه ·· ففي مصر قرأت عددا من الروايات لجيل الشباب ·· سحر أسود لحمدي الجزار ·· الفاعل لحمدي عبدالجليل ·· بمناسبة الحياة لياسر عبدالحافظ ·· فاصل للدهشة لمحمد الفخراني وغيرهم وفي تونس الشيء نفسه ·· فها أنا في الجزائر على الرغم من إلمامي بالكثير من التجارب الروائية الجزائرية ·· كاتب ياسين ·· بوجدره ·· مالك حداد ··الطاهر وطار شفاه الله ·· بن هدوقه ·· أمين الزاوي ·· الحبيب السايح ·· أحلام مستغانمي ·· وغيرهم أسعى للحصول على روايات جديدة لأسماء لم أقرأ لها من قبل وغير منتشرة عربيا ومنها تلك الروايات السابقة باستثناء رواية بشير مفتي وهو روائي معروف على الصعيد العربي وسبق العديد من الروائيين الشباب في مجال النشر · كل الروايات التي جلبتها من هناك استطيع أن أقول أنها روايات فاتنة و بها إبداع وتستحق القراءة والإشادة بها وأيضا الجوائز التي تقدمها العديد من المؤسسات الرسمية والثقافية ·· وفي هذه القراءة سأتحدث عن رواية يوم رائع للموت وملخصها أن شاب وقف فوق عمارة عالية في حيه السكني ورمى نفسه إلى أسفل راغبا في الانتحار وخلال الزمن القصير جدا ·· وهو زمن سقوطه من أعلى إلى أسفل ·· استطاع أن يسرد حكاية متشابكة ثرية بالأحداث والشخصيات فاتحا عبر هذه الحكاية عدة مسارب روائية كلها تؤدي إلى البؤرة الرئيسية للرواية وهي لحظة السقوط وما اشتملت عليه هذه اللحظة من أحاسيس ومشاعر وأماني وعواطف إنسانية تصعد إلى أعلى قمة وتنهار إلى أدنى حضيض يمكن أن يتصوره إنسان · الرواية ممتعة جدا ترصد لنا أجواء الحياة في الأحياء الجزائرية العريقة مثل حي باش جراح وتنطلق من هذا الحي الحضري الذي يتوسط العاصمة الجزائرية إلى أحياء أخرى هامشية يتخذها الناس للاختفاء من أجل بدء حياة جديدة ·· نجد في الرواية الكثير من الأشياء المؤثرة في تاريخ الشعب الجزائري وما تستدعي لك من ذكريات سعيدة أو مؤلمة ·· المسجد ·· الباعة ·· الصحافة ·· الخيانة ·· الدعارة السرية ·· التطرف ·· الإرهاب ·· الإدمان ·· الحب ·· الفقر ·· الغنى ·· الضياع ·· القطار ·· الحافلة ·· الموت ·· ولكل تلك الكلمات مفاتيح بإمكان القارئ أن يفتحها ويقفلها ·· أي يفعل بها ما يشاء ·· استطاع هذا الروائي المبدع بكلمات قصيرة جدا ·· أن يدشن عملا روائيا كبيرا يحتاج الروائي العادي كي يكتبه إلى أكثر من ألف صفحة ·· وذلك لتشعب أحداثه وتوالد شخصياته المثير ·· لكن قسيمي بمهارته في فن السرد استطاع أن يحذف الكثير من التفاصيل ليس بطريقة الحذف التقليدية ولكن حذفها بقلم بارع اسمه التكثيف ·· فكل سطر تقرأه إن توقفت عنده فسوف يهيل على رأسك عشرين صفحة على الأقل ·· لكن استطاع الروائي قسيمي أن يجعل القارئ يقرأ العشرين صفحة في سطر واحد وهذا أمر يحتاج إلى موهبة كبيرة يوازيها جهد أكبر وهذا ما لحظته في هذه الرواية التي قرأتها بمتعة وأعرتها لعدة أصدقاء كتاب ليبيين مشهود لهم بالصرامة والجدية في قبول العمل الأدبي أو رفضه منهم القاص عبدالسلام الغرياني والناقدين محمد الترهوني وطارق الشرع وقد أشاد الجميع بإبداع هذا الروائي الجزائري المتألق الذي وضع حدا عبر روايته هذه لعمليات الثرثرة والحشو والتخييل المريض والترهل اللغوي التي يعيشها واقع الرواية العربية خاصة في المشرق العربي ·· وقد درست اقتراحا صحبة القاص عبدالسلام الغرياني لتنظيم ندوة أدبية حول هذه الرواية الجميلة وغيرها من الروايات نقوم فيه باستضافة هذا الروائي أو غيره وننظم له ندوة يشارك فيها عدة روائيين ونقاد ليبيين وذلك تواصلا ثقافيا بين المبدعين وإثراء للتجارب الأدبية الجادة بين ليبيا والجزائر وغيرها من الدول التي تتعاون معنا وتتبادل معنا الإصدارات وتدعونا للمشاركات الأدبية التي تنظمها وذلك بالتعاون مع أسرة تحرير الملحق الثقافي بجريدة الجماهيرية على أن تكون المشاركة في الندوة نوعية أي عدد قليل من النقاد الذين قرأوا العمل وبإمكانهم تناوله بشكل شامل يليق بتعب وإبداع المبدع · ويوم رائع للموت هي الرواية الثانية للروائي سمير قسيمي بعد رائعته الأولى تصريح بالضياع ذات الأجواء الكافكاوية خاصة في عمل فرانز كافكا المحاكمة والمتحدثة عن أجواء السجون وخاصة سجن الحراش الشهير في الجزائر ·· وقبل ولوج قسيمي لعالم الرواية كان شاعرا مبدعا وسيرى القارئ آثار الشعر في لغته الروائية المستفيدة جدا من ممارسته وإبداعه لفن الشعر ·· وما يميز هذا الروائي هو انفتاحه على الأدب العالمي بشكل كبير وروايته هذه يوم رائع للموت يتماهى عنوانها مع عنوان رواية أمريكية قديمة وقد حدث بعض الجدل حول هذا الموضوع في الصحف الجزائرية هامسين أن في الرواية اقتباس وتقليد ولكن ليس هناك أي شيء من هذا الأمر والأمر كله عبارة عن غيرة بين الأدباء هناك حيث استطاع هذا الروائي الموهوب أن يضع قدمه على سلم النجاح والشهرة بعد أن تم اختيار روايته هذه في القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية لهذا العام ومن ثم خروجها من التصفيات عند إعداد القائمة القصيرة وهذا الأمر لا علاقة له بأن الرواية غير جديرة بالفوز بالمركز الأول أو غير متميزة لأن الاختيار دائما يتم وفق ذائقة تحكيم لخمسة نفر من الأدباء لهم مرجعياتهم وطقوسهم وأذواقهم ولا نريد أن نقول شللهم وميولهم ولعبهم تحت الطاولات لعبة هاك وهات أو لحسني وألحسك ·· وقد فوجئت بقرار استبعاد هذه الرواية الممتعة من القائمة القصيرة ·· وفي الوقت الذي أشكر فيه جائزة بوكر العربية لهذا العام لأنها بدأت تستفيد من الأخطاء السابقة وتمنح فرص الفوز بها وما يترتب على هذا الفوز من منافع مادية ودعائية وترجمة للأعمال الفائزة لجيل الشباب في كل الوطن العربي واضعة حدا للأسماء الجاهزة والمكرسة وذات العلاقات الأدبية الكبيرة للكتاب الذين نسميهم كبارا في كل الدول العربية خاصة في مصر ولبنان ·· والجميل في هذه الدورة أن الفائزين في القائمتين معظمهم من الجيل الجديد المبدع أصحاب المستقبل الزاهر في هذا العالم الإبداعي الكبير ·· أحب أن أنوه أن استبعاد هذه الرواية للروائي الجزائري ليس في محله وطعنة عشوائية في جهود مبدع حرق نفسه ليبدع شيئا جميلا جديرا بالقراءة · سنجد في الرواية حتما أجواء الصخب والعنف لفوكنر وأجواء جيمس جويس وغيرهم من كبار كتاب الأدب العالمي ولكن لن نرى هؤلاء يمرحون كما يحلوا لهم داخل العمل الروائي ولكن عبر توظيف الروائي لبعض إبداعاتهم وتقنياتهم تحت سيطرته وهذا الأمر ليس عيبا فحتى سيرفانتس استفاد من ألف ليلة وليلة وكل كتاب العالم الكبار استفادوا من المنجز الإبداعي السابق لهم لأنه لا مفر من ذلك ولا يمكن لأي كاتب مهما كان ذكائه أن يتخلص من اسفنجة عقله الباطن ولا وعيه وما التقطته من معارف طيلة حياته الماضية وما أنتجته من تخيلات يمارس زرعها على الورق بحذر ممتع · لا نريد أن نحكي عن هذه الرواية الكبيرة التي استطيع أن أضعها جنبا إلى جنب مع رواية العطر لباتريك زوسكيند وسنترك مهمة ذلك للقارئ الذي حتما سيبحث عنها ويقتنيها ويعيش أجواءها ويتفاعل مع مجتمعها السفلي العنيف المتنوع بالشخصيات الشاذة والسوية ·· وللمعلوم أن هذه الرواية تعرضت للهجوم من قبل عدة كتاب وبأسماء مستعارة أحيانا تتهم الكاتب بالوجودية والتعاطف مع الشواذ والانحياز إلى مجتمع المهمشين وغيرها من التهم الجاهزة التي يطلقها أعداء الإبداع في قنديل كل نور يضيء صارخا لا للموت ·· نعم للحياة · وفي حوار أجرته معه جريدة الجزائر نيوز بواسطة محررها الأدبي الأديب بشير مفتي عقب اختيار روايته هذه في القائمة الطويلة لبوكر العربية · عبر قسيمي عن مفهومه الخاص للعمل الروائي حيث قال : أملك تصورا واحدا لمفهوم الرواية، وهي أنها حكاية ممتعة تحملك لتكوّن انطباعا ما، أي أنها تجعلك تؤمن بها رغم خبلها، وتدخلك في أحداثها، وقد تجد بين شخوصها واحدة ترافقها· وهي بهذا لا تخرج من كونها رصد سردي للحظة حياتية ما، ليس المهم ما تحكيه فيها بقدر ما يهم طريقة حكيك · وعندما سأله مفتي كيف جئت لعالم الرواية وأنت لديك تجربة شعرية بامتياز أجاب قسيمي : بالصدفة وبالصدفة لا غير، كنت وقتها أعمل مصححا في شصالجزائر نيوزشص، وكما تعلم في هذه الجريدة يعمل عدد هائل من الأدباء ومحبي الأدب، فكنت من حسن حظي أقرأ ما يكتب أحميدة عياشي والخير شوار وسهيل الخالدي ورشيد بوجدرة ورهط عظيم من الأقلام، فوجدتني دون أن أشعر أعيد اكتشاف الأدب لكن بوجه مخالف عما عرفته سابقا، فرغم أنني انقطعت عن الساحة الثقافية، إلا أنني كنت وما زلت مدمن كتب أقرأ ما يزيد عن 500 صفحة أسبوعيا، فزادتني قراءتي لأقلام النيوز خاصة الناشطين في الأثر الأدبي واحتكاكي ببعضهم رغبة في إعادة اكتشاف الأدب من جديد، فبدأت بنشر رسالة أدبية أعطيتها لك فنشرتها وقد أبديت لي إعجابك بها، فكان لها نكهة خاصة جدا بالنسبة لي، ثم شاءت الصدف أن أعارتني الأستاذة شنوف رواية لكاتب إيطالي لم أكن قد قرأت له من قبل هو ألبيرتو مورافيا بعنوان /الاحتقار/، فقرأتها في ليلة واحدة، ثم أعدت قراءتها في اليوم الموالي، واليوم الذي يليه أيضا· لقد وجدتني أمام اكتشاف اسمه /الرواية/ يمنحني لذة أخرى غير تلك التي وجدتها في كل قراءاتي· وأستطيع أن أقول أن هذا الروائي سيكون له شأن كبير لو واصل مسيرته الروائية بهذه الجودة الإبداعية وبذل مجهودا أكثر في تدشين وبناء أعماله القادمة التي ستتجاوز يوم رائع للموت وتصريح بالضياع وتعتبرهما لبنة مضيئة في مشروع روائي أكبر يعيد للجزائر والعرب قامات فجرت الأفق بالنجوم وغابت في جنان أعظم على رأسهم صاحب نجمة الروائي العالمي الكبير كاتب ياسين ·