الغيرة إحساس ولد به كل الناس ويعرفه كل البشر.. ولكن غيرته .. غيرة المرأة ليست كغيرة الرجل وغيرة الجاهل ليست كغيرة العالم وغيرة المبدع ليست كغيرة غيره .. هي أنواع ودرجات .. هناك الغيرة الايجابية والمطلوبة مثل الغيرة على الوطن على الشرف على العرض على الكرامة وهناك الغيرة السلبية الهدامة التي تتحول الى مشاعر مقيتة وحاسدة للآخر ومناك غيرة مرضية ينتج عنها حقد دفين وضغينة سوداء لا تنطفئ الا بإيذاء الآخر ة إلحاق الضرر به .. وبما أن المثقفين والمبدعين مثل كل البشر فهم معرضون للغيرة والغريب أن ظاهرة الغيرة بينهم وعكس ما يتصوره الكثيرون تجد تربتها الخصبة بينهم أكثر من الناس العاديين وغالبا ما تتغلغل الغيرة في أوساط المثقفين متخفية وراء مجاملات كاذبة او مواقف ملغمة او غيرها من مظاهر النفاق التي عادة ما يبدع صاحبها في سترها وثمة ما لا يتحرج من الجهر بها قصد تشويه وتهديم من أثار غيرته .. كل الثقافات وكل الأجناس عرفت ظاهرة الغيرة وتعرض لها الكثير من المبدعين والفنانين الكبار مثل شكسبير وبيتهوفن وفان جوخ وسرفانتس '' العبقري لوبي دي فيجا أكد أنه دون كيخوتة أسوا كتاب قرأه '' سان بوف استخف في وقت ما بموهبة بلزاك وبودلير دوستويفسكي وما ادراك لم ينج الاخر من الغيرة عندما قال عنه يعض ادباء عصره ان لا يتقن الكتابة اصلا .. وكأن المبدعين لا يطيقون الاعتراف ببعضهم البعض إذا كانوا أبناء عصر واحد ولهم نفس التخصص .. الكاتب مثلا قد يقر بعبقرية ألبرت انشتاين أوإسحاق نيوتن لكن لا يقر بعبقرية كاتب مثله . روائيون ومبدعون جزائريون كثر أقروا لنا في استطلاع أجرته معهم جريدة الحوار في موعدها الأدبي بتفشي ظاهرة الغيرة في أوساط المثقفين الجزائريين .. السعيد بوطاجين : قاص وناقد ومترجم الغيرة بين المبدعين موجودة بكثرة وبحدة في بلدنا وفي البلدان المتخلفة خاصة وهي تنم عن عجز واضح في فهم حقيقة المبدع وهنا أعترف شخصيا أني تعرضت لمواقف وسلوكات صادرة عن مشاعر غيرة وحسد اتجاه العديد من الأعمال التي أنتجتها سواء الإبداعية أو في مجال الترجمة أوالنقد وحتى في ما يتعلق بطريقة تدريسي في الجامعة ومع ذلك فأنا لا أحبذ المواجهة وأفضل الترفع عن هكذا سلوكات، ولكن ما يحزن حقا تلك الأحكام وتلك التقييمات المغلوطة والمغرضة التي يطلقها مثقفون عن هذا الكاتب أو ذاك يفعلون ذلك دون أن يحملوا أنفسهم حتى قراءة أعمال بعضهم البعض والمزعج حقاأن مثل هذه الأحكام هي التي تروج في الشارع وتصبح متداولة كحقائق مؤكدة . ابراهيم سعدي روائي جزائري : الغيرة بين المبدعين هي نوع من الاعتراف السلبي بجودة النص الآخر .. ولكن إذا ما تمعنا في هذه الظاهرة سنلاحظ أنها تكشف عن ضعف الشخص الذي يغار وضعف حبه للأدب لأن من يحب الأدب سيعجب حتما بالنص وإن كتبه عدو له .. وفيما يتعلق بالمبدعين الجزائريين أرى أننا لا نشجع بعضنا البعض ، والكل يذكر ما حدث للروائية أحلام مستغانمي عندما تم التشكيك في ذاكرة الجسد .. فحتى النقاد عندنا لا يشجعون النص الجزائري ،ولعل الأمر هنا لا يتعلق بالغيرة بقدر ما هو نوع من عقد النقص التي يعاني منها الوسط الثقافي عندنا .. فنحن لا نعترف إلا بالنص الذي ينال تزكية من الخارج من لبنان مثلا أو باريس فالنص الجزائري يظل بعاني من عدم الاعتراف من الداخل ما لم يحظى بالاعتراف من الخارج وهذه العقدة هي التي جعلت الناقد عندنا تابعا .. فنحن لم نسمع بأديب أو روائي جزائري ساعد روائيا آخر للتعريف به وبعمله كما يحدث في بلدان أخرى في المغرب مثلا لم يكن الروائي محمد شكري ليبلغ كل ذاك المجد والشهرة لولا مساعدة الروائي الطاهر بن جلون له عندما قام بتشجيعه والتعريف به عن طريق ترجمة عمله ''الخبز الحافي'' إلى الفرنسية مثل هكذ التشجيعات لا تحدث عندنا في الجزائر فنحن لازلنا نعاني من نزعة الذاتية بشكل كبير والنقاد لا يتعاملون مع النص بل مع الشخص . كذلك الأمر بالنسبة للجوائز الأدبية التي تتحكم فيها اعتبارات الصداقة والعلاقات الشخصية فهي غالبا ما تكون الأساس في تقييم هذا المبدع أو ذاك أو الحكم على هذا النص أو ذاك . محمد تحريشي أستاذ النقد الأدبي بجامعة بشار المبدع عادة ما يكون عرضة لأربعة أنواع من المشاعر تصدر اتجاهه .. أولها الغبطة أي أن يغتبط له الآخر ويفرح له بما حقق وأنجز ويود مشاركته تلك الفرحة وذاك التوفيق .. أما الثاني فيتمثل في الغيرة الإيجابية التي يشعر بها الآخر فتولد لديه الرغبة في أن يعمل شيئا مثله ليلاقي نجاحا مماثلا .. ثم هناك الغيرة السلبية وهي أن يحسد المبدع على عمل صدر له ويتمنى لو أنه كان هو صاحب العمل ولا يكون للمبدع الأول ومن هنا يبدأ التخطيط لإيذاء صاحب العمل كأن يدعي أنه مسروق او قد يلجأ إلى تسطيح العمل أو الاستخفاف بقيمته .. وقد يشتد هذا النوع من الغيرة ويتفاقم ليتحول إلى حقد .. فقد يحقد المبدع على مبدع آخر لأنه أصدر عملا ناجحا موفقا فيتمنى زوال هذه النعمة عنه وتتحول له هو وقد يتعدى ذلك ويذهب حد التحريض على إيذاء المبدع في ذاته وفي عمله أو يسعى للاستيلاء على العمل أو للقضاء فنيا على المبدع والأمثلة هنا كثيرة فمنذ مدة حدثت ملاسنة ونقاش تدخلت فيه عدة أطراف وكان الموضوع يتعلق برواية ألف عام من الحنين وألف عام وعام من العزلة حيث رأى مجموعة من النقاد أن بوجدرة صاحب الرواية الأولى اعتمد على عمل غارسيا ماركيز وفاتهم أن يقولوا مثلا أن رواية ''التطليق'' لبوجدرة كانت أصلا بحسب تاريخ النشر سابقة للرواية المذكورة . وغير بعيد عن الأذهان ما دار حول ذاكرة الجسد على أنها ليست لصاحبتها أحلام مستغانمي وكذلك ما دار من نقاش حول كتابات واسيني الاعرج ونيله جائزة الرواية العربية وأيضا ما قيل حول أحد أعمال الطاهر وطار على أنه لمبدعة مغمورة .. وهنا قد نجد أنفسنا أمام موضوع آخر ينطلق من القرارات النقدية التي تتعامل مع النص دون خلفيات . وقد نكون أمام موقف آخر يتمثل في اللامبالاة وهي اشد على المبدع ربما من الحسد والحقد ومهما يكن فإن كل ذي نعمة محسود . محمد الأمين سعيدي:شاعر الغيرة عاطفة من العواطف البشرية التي قد تستبدّ بحياة الناس وتُسيّر أمورهم ويُمكنها أيضا أنْ تؤثر في علاقاتهم مع الآخرين ، وهذا أمر يوجد عند بعض البشر وقد ينعدم عند غيرهم . أمّا أنْ تكون الغيرة بين المبدعين فهذا أمر مختلف تماما ، قد يرى بعضنا أنها أمر إيجابيّ إذا أدّتْ إلى إنتاج نص أو ساهمتْ في إبداع شيءٍ ما ، وأنها أمر سلبيّ إذا كانتْ غيرة من أجل الغيرة وكفى. أنا شخصيا لا أنا مع الأوّل ولا مع الثاني ، لا يُمكن أنْ يكون الدافع إلى الإبداع شيء خارج عن عملية الإبداع ذاتها ، بمعنى أنّ تجربة المبدع وعواطفه التي تُحدد علاقته بالوجود ورؤاه الفكرية هي الدافع الوحيد إلى ''الخلق'' . أمّا أنْ تكونَ الغيرة هي الدافع فنحن بهذا نؤسس للتقليد وإنْ لمْ نقصد إلى ذلك سبيلا . أنْ تكتبَ تحت تأثير كتابة ما ، إبداعٍ ما ، فأنتَ تقتلُ نفسَكَ وتجعل من ذاتك كمبدع نسخة ممجوجة مزوّرة. الكتابة انطلاق من رؤية عميقة إلى الأشياء والموجوداتِ ، ولهذا كانتْ فعلا استثنائيا يولد من داخل المبدع وفي حالنا هذه ككتَّاب يولد من داخل اللغة التي نحملها ، والتي بها يتحدد وجودنا وبها نُحْدِث المغايرة التي تتمرّد على المألوف والجاهز والعاديّ. المبدع في نظري يترفّع عن مثل هكذا أشياء ، إنه ينظر إلى إبداعات غيره فيتلقَّاها تلقيا يليق به وبها ، تلقيا نزيها يُراقب فيه الضمير قبل أنْ يُصدر أي انطباع على غيره . وليستْ الغيرة إلا تلقٍ سلبيٍّ يُشعل في داخل النفس نارا شديدة لا حاجة لنا إليها ، يجعل الإنسان ينظر إلى ما ''مُتِّع به أزواج منهم'' فيطمع في أساليب لا تنتمي إليه ، حينها يغار ، وقد يكتبُ فيُصبح مقلِّدا حتى وإنْ اقتفى أثر أكثر المبدعين حداثة وجمالا. أنا لا أُلزمُ أحدا فيما أرى ولكني هكذا أفهم أنّ الكتابة نابعة من أعماقنا ولا داعي لأنْ تكون نابعة من الغيرة هذه المصيبة التي ألمتْ بنا و دنّستْ طهارة الحرف. خيرة بغاديد :شاعرة الغيرة ظاهرة استوطنتْ نفوس بعض المبدعين حدَّ المرض ، واتخذتْ أوجها شتّى ... تصوّر أنّ أديبا يرمي كتابا أهداه له أديب ، والذي حمل توقيعه... تصوّر أنّ أديبا يستقيل من جمعية ثقافية ، نشرتْ لزميله المبدع عملا أدبيا. تصوّر أديبا غيّر اتجاه خطاه ، حتى لا يُصادف ذاك المنافس الذي يراه عدوه في الإبداع. تصوّر أنّ أحدهم ينفي وجود الآخر ، ويكشف عيوبه لأنه كتبَ وأبدع. أليستْ هي الغيرة؟؟ أغار ، وبشكل فظيع(لكنه جميل) من كل مبدع ترك بصماته على الورق ، شاكس القصيدة ، نبض النص ، وروّضها من كل الجهات ، أغار من كل مبدع خلخل الثابت والمتحرّك في وقت واحد ، وولّد الدهشة والحيرة والعطاء ، وجعل لقامته امتدادا بين المقام والمقام ، ليُعلن ثورته على البليد ، الجامد والمستقرّ . علينا أنْ نُخلِّد ذاكرة تذكرنا ، وأنْ نغار من نص غيّبنا إليه ، واستفزَّنا في نشوة خالدة ، لندرك ذواتنا ونسترجع اللحظة الحارقة. فما ألذ الغيرة بطعمها الآخر المشتهى!!! عبد الكريم قادري:شاعر عندما أتحدّث عن الغيرة ، من وجهة نظري السريعة عليها ، لا بدّ أنْ أقسمها إلى قسمين : الغيرة الولود ، والغيرة العاقر . أما الأولى فهي المهمة في حديثي وأظنها خاصية يجب توفّرها في كل المبدعين من أجل الخلق الجيد والإبداع الفريد . هبْ مثلا أني قرأتُ عملا إبداعيا ما لأديب سواء كان مغمورا أو معروفا ، وممرّ هذا العمل على الغدّة التي تتكفّل بذائقتي الأدبية ، ''تُفلترها''جيدا وإنْ مرّتْ إلى الشق الأيمن أين يكمن الإبداع الجيد لا بدّ أنْ أحسد وأغير من كاتبها ومن ثمة تتولّد الغيرة لديّ وتحصيل حاصل لا بدّ أنْ أكتب نصا يُساويها أو يتجاوزها على الأقل في نظري هكذا تنطفئ دائرة الغيرة لديّ . أما الثانية وهي الغيرة العاقر ، وهي وصمة عار تُحسب على المبدع لا له . لأنها لا تولّد جمالا ولا روعة وإضافة للأدب ، وبالتالي سيكون لها نظرة عكسية سلبية تتولّد منها أحقاد ومشاحنات ودسائس كان يُمكن تجاوزها لأنها تؤدي إلى الغرفة المظلمة لذا وجب علينا التشبّث بالأولى ورمي الثانية الدكتور رابحي محمد يطرح موضوع الغيرة بين الأدباء و المبدعين موضوع الكتابة في حد ذاتها.. و يبدو لي أن الكتابة هي نوع من أنواع الغيرة بالنظر إلى ما هو أرقى منها و هو القول الذي يغار بدوره مما هو أرقى منه وهو الصمت..الغيرة موجودة و قد لا تخلو منها نفس بشرية ..فنحن لا نعتقد أن الآخرين قد حققوه و نحن أولى به منهم.. و قد تتحول الغيرة بين الأدباء إلى حسد معرفي و ضغينة مبدئية ينعدم فيها الحوار وتتأسس النميمة الأدبية و تنزلق العملية الإبداعية إلى الشيء و نقيضه.. عادة ما كان الخلاف سببا في انبلاج المعرفة ..هذا ما نراه في كثير من الأعمال الإبداعية عبر التاريخ و الأمكنة،و التي كان سببها خلاف حول موضوع ما.. الأكيد أن الغيرة محفز على الإبداع، لكن بإمكانها أن تكون محفزا لقتل الإبداع و إبعاد المبدع..وهنا قد يتطور الأمر إلى غيرة مضاعفة تقصي الآخر و تغلق الأبواب في وجهه.. و هنا يصبح الأمر سلبيا جدا كما نرى عندنا ..حيث لا يقرأ الأدباء و الكتاب بعضهم بعضا و لا يعترفون ببعضهم إلا ما ندر، ولا يكتبون عن بعضهم بعضا..