يستدعي الفعل السردي، كمكون نووي للكتابة بأجناسها، امتلاك المتلفظ أو السارد المادة اللغوية الكافية للنقل والتشكيل بصفاء الرّائي وقدراته على معرفة الأشياء التي تحيق به· عادة ما نواجه، عندما نكتب، مشكلة معرفية تتعلق بجوهر الكتابة في حدّ ذاتها، لا توجد المعاني والدلالات سوى في الألفاظ والأنساق، مع اختلاف طرائق الاستيعاب والتوظيف، في الكيفية واللمية، بمفهوم بعض المناطقة· وتتمثل هذه المشكلة، التي وجب الإقرار بها، في العلاقة الفصلية التي تربطنا بالدوال، ولو كانت أشكالا فقدت تأثيرها بالنظر إلى عدة عوامل، ليست بالضرورة بديهية، إنّما تأتّى ذلك عن قلة الجهد اللغوي والسردي، أو عن مواقف من اللغة ككيان، ولا يمكن مناقشة الموقف الأخير إلاّ في إطار آخر، وأتصوّر أنه سيكون بعيدا عن الحقائق اللسانية ما لم يحتكم إلى أطر أكاديمية حيادية، ولو أن التجربة أثبت أن هذا النوع من الجدل كثيرا ما حاد عن الموضوع لاستناده إلى خلفيات صنمية لا تقدّم شيئا للسرد، بقدر ما تخدم الميوعة في أغلب الأحيان· لقد جنت كثير من ''شطحات الحداثة''، بتعبير ميخائيل عيد، على جوهر السرديات، إذ تمّ إهمال مسائل جوهرية، ولم يحاول النقد الجديد التنازل عن موقعه كمتفرّج لمساءلة المنتوج النثري عن هويته، وعن قدراته على التعامل مع العوالم الداخلية والخارجية للشخصيات، ومع المكان وتفاصيله ومكوّناته· إذا حدث أن عنت الدراسات اللسانية لاحقا، بالحقول المعجمية المهيمنة، ستكشف عن مجاورات تكاد تلغى الاستثناء، وقد نجد مبرّرات لذلك، وأهمّها تقارب المرجعيات أو تمائلها، إن لم تكن مرجعيات واحدة نستقي منها موضوعاتنا وكلماتنا· يمكننا الحديث جوازا عن ضغط المرجع، وهو أمر يتجلى بشكل واضح في عدّة روايات، وفي حال الجزائر، فإن القاموس ينحسر أحيانا إلى حدّه الأدنى، سواء في ما كتب في السبعينيات أو في التسعينيات، مع تسجيل فلتان أصدر عن نباهة بإفلاته من الضغط المباشر للمرجع ولغته، وقد نعتبر هذه العيّنات ''الضالة'' يقظة، وإدراكا لماهية السرد· إن الاعتقاد بالحرفية أمر مردود، ويتعذر على تفكير من هذا النوع خدمة السرديات لأن طابعه الظرفي لا يؤهله لذلك من حيث أنه يولد مقيدا، أو تابعا لتفكيرات مرحلية قد تقدم خدمات مهمّة لما هو غير أدبي· وإذ نؤكد على فصل المادة اللغوية عن الطروحات المؤسسة على الحرفية، فلأن السرد ليس مؤسسة خيرية أو تعاونية أو مدرسة لمحو الأمية، ومن المؤسف أن يصبح المتلقي في مواجهة سوقين: الحياة السوقية والنص السوقي، أو سوق الحياة وسوق النص· وإذا تمادت السرديات في ''احترام'' المحيط الخارجي وصيغه التعبيرية الحالية فإنها ستجرف قيّما نصية كثيرة، أي أنها ستستعمر الكتابة وتبلبلها وتعقدها أكثر فأكثر، وستغدو هذه الحرفية نفسها، سببا في تغريب النص، وفي جعله بين منزلتين، لا هو بالعامية ولا هو بالفصحى· مشكلة الأشياء: الكتابة ترجمة، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، ولأنها على ما هي عليه، فإنها تنقل الواقع والمشاعر بالصيغة الفنية الملائمة، أمّا إذا نقلت بطريقة إملائية فإنها تغفل الترجمة، ومن ثم إغفال وظيفتها الأولى التي تميزها عن الأشكال التعبيرية الأخرى وطرائقها: الإمام والسياسي والصحفي والداعية· لكن هذه الترجمة تواجه مشكلة ترجمة الأشياء التي تؤثث العالم الخارجي، لذلك تعاني غربة داخل الأشياء التي تربكها بفقدان دوالها· أشار الروائي الحبيب السائح في مقال موسوم ''الرواية الجزائرية·· بحثا عن قاموسها'' إلى هذه المعضلة بقوله: ''غالبا ما قدّرت أننا، في الجزائر، لا نكتب كما نتكلم، لوجود هذه الهوّة بين مسميات أشيائنا في اللغة العربية وقاموسية وبين تحويرها إلى مسميات أخرى في واقع حياتنا اليومية، فإننا عندما نكتب، نضطر إلى محاولة إعادة تلك الأشياء إلى أصلها، أي نترجم· ومن ثمة تبدو وكأنها مسميات غريبة· إنها حالة نكاد نتقاسمها مع الجيران في المغرب وتونس· ذلك، عكس الكتّاب في المشرق العربي، الذين يكادون يكتبون كما يتكلّمون''· ربّما نتج عن جهد الترجمة التخلّي عن هوية المكان، وتلك ظاهرة لا يمكن نكرانها أو القفز عنها· يبدو المكان في كثير من نصوصنا، رغم جودتها، فقيرا جدا وفضفاضا ومائعا، بحيث يتعذر أحيانا تكوين صورة عنه، لا توجد في مطابخنا سوى الملاعق والصحون والكؤوس والماء والحليب والغداء، وأي غداء؟ ولا توجد في غاباتنا سوى أشجار البلوط والصنوبر، وهناك في البحر سمك وحيتان، وفي الساحة أشجار وحجارة وعصافير، نحن نعرف البصل والثوم والبطاطس، لكنّ ذلك لا يكفي لإضاءة الأشياء والأماكن· هناك تغييب واضح للدوال الأخرى التي تؤثث المحيط· أما الأحداث والأفعال والأقوال والحكايات فلا تكفي لصناعة رواية، ولا الشخصيات قادرة على اكتساب شخصية بتجريدها من هذا الأثاث الذي يعدّ تتمة للدلالة، إضاءة للحالة والفعل ولمقوّمات الشخصية في حدّ ذاتها· أتصوّر أن هذا الزاد المغيّب، في سياقات عينية، أكثر دلالة من الحوارات والأفعال، لأنه مجموعة من العلامات اللغوية التي توقظ القراءة البصرية وتدفعها إلى المشاركة والتأويل· لنتصّور كلمات من نوع: قنديل، شمعة، مصباح، سراج، مخطاف، في جمل سردية أو على ألسنة الشخصيات، لابدّ أن تواجدها كاف لإضمار سلسلة أخرى من الجمل من حيث أنها تحيل على دلالات، دون الحاجة إلى تمطيط النص على حساب الاقتصاد والقدرات الإحالية للفظة· ثمة أزمة تفاضل على مستوى الدوال، إن حدث تجسيدها سرديا· نصوصنا مليئة بالأشجار، لكن المفاضلات قليلة، لا فرق بين الصفصاف والزّان والكستناء واليوسفي والقسطل والجوز، لذا يأتي المكان فضفاضا، فقيرا إلى علامات، إلى بطاقته الشخصية التي تمنحه معنى مستقلا وتاريخا وثقافة· أشار الحبيب السائح إلى أن كتاب المشرق العربي '' يكادون يكتبون كما يتكلمون، إن وصفهم مثلا لمشهد حب، لا يجعلهم مضطرين إلى الترجمة من لغة أخرى مكتوبة، أو شفهية - أو إلى النقل من اللغة العربية ذاتها - كما نفعل نحن إذ نبحث بحثا، في مشهد مماثل، عن الكلمات التي تتشكل بها العواطف، والمشاعر والتصاريح المسرودة، لأننا في الواقع نتكلم بغير تلك الكلمات التي نكتب بها· إن كاتبا مشرقيا يصرف، كما يفعل بعملة تقريبا، لغته الشفهية إلى لغة أدبية''· أعتقد أن ذلك ينسحب على البلدان الخليجية، دون الحديث عن أوروبا وأمريكا· في حين يجد السارد في الدول المغاربية متاعب جمة في ترجمة الأشكال الإبلاغية والأشياء، لذا يبذل جهدا مضاعفا يشمل التلقي والفهم والبنية والترجمة إلى اللغة المعيارية التي يكتب بها· وقد يضيع السارد في المكان ولا يعرف أسماء مكّوناته ''يحدث لي هذا''، لذا يقفز على بعض الجزئيات أو يسميها بغير مسمياتها اقتصادا للجهد، فقد يصبح الدّلب صفصافا وتشترك كل النباتات في التسمية ذاتها· نبتة وكفى، ولا فرق بين ذلك وتلك، إلا من حيث الشكل ولون الثمار· ومعنى ذلك أننا نكتب عن شبه المكان، وليس عن المكان ككتلة من الدلالات التي ترتبط بقيمة الأشياء في ثقافتنا وحضارتنا· أما الفرز الذي يحدث بعد المعرفة فيرتبط بإستراتجية الكاتب ووظيفة الشيء في المتن الحكائي، أي أنه يحذف عن وعي ما يبدو زائدا، كتعامله مع الجمل والكلمات، ليس إلا· الكاتب الحالي مجرد لاجئ في الأماكن المختلفة، لذلك لا يستطيع استيعابها كاملة، ولهذا اللجوء الدائم مبرراته التاريخية والثقافية والسياسية والحضارية، وهي شائكة ومركبة· هل يلزمنا العودة إلى الموروث وإلى القواميس للاحتكاك بالدوال القديمة والحديثة؟ هذا الاحتمال وارد، إن لم يكن ضروريا؛ أما العامية فتظل حلا مؤقتا، وخطيرا في آن واحد، لأن المرحلي لا يرمم إلا الصدوع الخفيفة، لكنه لا ينظر إلى الأسس· وهذه إحدى مشكلات الأشياء في متخيلنا، دون أي تعميم، لأن هناك كتابات مغاربية راهنت على هذا الجانب وأفلحت، والأمثلة كثيرة· صحيح أن ذاكرتنا تخزن أشياء كثيرة لمسميات غيرية فرضتها الألفة، لكنها لا تنتقل إلى النص كما هي، وما دامت الألفة لها علاقة بالعادة، فمن المهم الاشتغال على عاداتنا ومحاولة خلق ألفة بديلة تدلل مهام السرديات القادمة في تعاملها مع دوال الأشياء ومدلولاتها·