منذ سبعينيات القرن الماضي انطلقت في الوطن العربي أصوات تحذر من المجاعة القادمة في دول المشرق والمغرب، واقترح بعضها بل جلها الاهتمام بالسودان باعتباره سلة خبز العرب، والسعي لوقف التصحر، بل اقترح البعض إعادة التوزيع الديموغرافي للسكان العرب الذين يتكأكؤون في شريط ساحلي لا يساوي 5% من سكان العالم العربي، وزيادة المساحة المزروعة التي لا تساوي 85% من مساحة هذا الوطن الممتد من الماء الماء؟ ويعاني ناسه الغب، وزراعته تموت عطشاً· وحذرت تلك التقارير من إهمال موضوع الأمن الغذائي العربي· لكن لأن ساستنا في المشرق والمغرب لا يعرفون السياسة، ولأن إداريينا لا يعرفون سوى حل الكلمات المتقاطعة، مرت تلك التقارير دون أن يأخذها أحد بالجدية اللازمة· وها نحن في الأزمة·· ها هي المجاعة بدأت تضرب هنا وهناك مرفوقة بأعمال مسلحة تجد تشجيعاً ودفعاً من الخارج وتبريراً من الداخل· فقد رأينا خلال الأربعين سنة التي مضت مظاهرات جوع في كل من الجزائر وتونس، ومصر، والمغرب ولبنان والأردن· فقد مر حين من الدهر على الجزائر وهي تتصدر قائمة مستوردي القمح في العالم، لتترك مكانها بعد ذلك إلى مصر، أما السودان فبدأ يعيش على الصومال الذي فيه من البنادق أكثر من حبات الطماطم، وتحولت وحدة اليمن إلى ''وخذة'' والعراق هجره أهله· ويبدو أنه لم ينج من هذه الكارثة سوى الجماهيرية الليبية بفضل النهر الصناعي الذي كان حلاً نهائياً لمشكلة المياه حتى الآن، وحلا واعداً لمشكلة الاستقرار والزراعة· وفي اعتقادي، أن وزارة الزراعة في الجزائر تملك مفتاحاً شبه سحري لهذه الأزمة الغذائية في العالم العربي، سهلة التنفيذ، قليلة الكلفة ذلك أننا نعرف أن حل هذه المشكلة في العالم الثالث عن طريق القمح أمر ممنوع، كما ظهر ذلك بوضوح في المملكة السعودية، في أواخر الثمانينيات حين تلقت إنذارات أمريكية إذا استمرت في إنتاج القمح·· فالشركات الأمريكية المهيمنة على قوت العالم مستعدة لأن تقتل كل من يسعى لقتل جوع الناس·· فجوعهم هو مصدر أرباحها·· لذلك لا أعتقد أن الوطن العربي سيصل إلى حل مشكلة الغذاء عن طريق زراعة القمح بالكميات اللازمة· ولكني أعتقد أن وزارة الزراعة الجزائرية لو رفعت شعار ''نخلة وزيتونة وبقرة لكل مواطن'' وابتدأت في تنفيذه يمكنها إقناع زميلاتها على الأقل لدى الجيران، فماذا لو قررت أن يكون لكل جزائري باسمه شجرة نخل في الصحراء وشجرة زيتون في الجبال، وبقرة في السهوب·· لا أعتقد أن ذلك سيكلف لأنها لن تستورد لا فسائل النخل ولا الزيتون ولا عجول البقر فكلها متوافرة في الجزائر·· وبأرخص الأثمان ولدى المواطن خبرته فيها فهي التي أطعمته طوال قرون وقرون، وهي التي أنقذته من مجاعات ومجاعات· ولكن الأمر بحاجة إلى تنظيم وحسن إدارة، وهذه هي المعضلة الحقيقية التي نواجه بها،فكلنا يذكر مشروع الحزام الأخضر، الذي كان القصد منه وقف التصحر، فعبثت به أيدي إدارتنا الملوثة بدمائنا، فاستوردت أشجار مريضة وأخرى لا تناسب تربتنا و·· و·· حتى فشل المشروع· أما اليوم، فصحيح عندنا إدارة فساد فنحن ولا فخر من الدول الأربع الأولى عالمياً في الفساد بجوار العراق ومصر، فالعراق الذي قطع ذات يوم مضى دابر الرشوات والعمولات ومصر أقدم وزارة دولة في العالم وكان فرعونها يعرف أخبار كل قرية في المشرق والمغرب، صارا على قمة الفساد وقمة الجوع في عالم اليوم·· والجوع حين يفتك في بلد مهما كان يعني أن البلد سائر لا محالة نحو الحروب والتقسيم·· وأعتقد أننا في الجزائر اكتفينا -وأكثر من اللازم- من هذه الحروب، فمنذ عام 1830 وبنادقنا على أكتافنا، أما آن لشعبنا أن يستريح؟ أعتقد أن راحته تكمن في إشباع كرشه والزيتونة والنخلة والبقرة تؤمنان له ذلك خاصة إذا ما عرفنا أن نصنع منتوجاتهما وما أكثرها وأكرر ما أكثرها· هل اكتشفت هنا الماء الساخن؟ أعتقد ذلك، فالجزائر في وزارتنا وفي الوزارات العربية الأخرى، وفي منظمة الأغذية الدولية يعرفون هذه الحقيقة بالتفاصيل وبالأرقام وبالنتائج أكثر مني ومن الآخر، لكني أعرف ويعرفون أن الذي يمنع تحقيق ذلك هو انعدام الإرادة السياسية، فسياسيونا في المشرق والمغرب تحركهم رغبات المتروبول لا حاجات شعبهم مثلهم مثل إداريينا الذين تحركهم ''العملات'' لا المعاملات، وتحركهم ''العمولات'' لا ''المعلومات'' لكني أعتقد لو أن مؤسسة إعلامية جزائرية واحدة تبنت الدعوة لمشروع ''نخلة وزيتونة وبقرة لكل جزائري'' لالتف حولها كل الجزائريين غنيهم وفقيرهم، فهي دعوة للإنتاج وسيتطور هذا المشروع الذي يلغي الإرهاب من جذور أسبابه ويمنع الحروب ويمنع التقسيم·· لكن على سياسيينا أن لا يقمعوا مثل هذه المبادرات الشعبية وعلى ''إداريينا'' أن لا ''يوسعوا'' جيوبهم·· لأنهم إن فعلوا ذلك فسيأكل هذا المواطن لحمهم·· وسيجده أفضل من اللحم الهندي·· إن لم تصدقوا اسألوا المغفور له محمود درويش··