لم نكن نعرف شيئا كثيرا عنه عندما جاء إلى الجزائر، أستاذا بقسمنا· الوحيد الذي كان يعرفه جيدا هو أستاذنا المرحوم أبو العيد دودو الذي كان قد درس في العراق· لم نكن نعرفه، لكن لم تمض فترة وجيزة حتى أصبح واحدا منا يناقش مشاكل القسم، ويقترح الحلول، ويحتدّ إن لاحظ ما يبدو له خللا، ويشارك بلا كلل في نشاطاته· وأصبح يحضر مجالسنا العديدة التي كانت تَجمع أبا العيد دودو والأمينين محمد الصغير وأحمد والشاعر السوداني الكبير جيلي عبد الرحمن والصديق العراقي عبد اللطيف أطيمش وعبد العزيز بوباكير وعبد الحميد بورايو والشريف مريبعي ومصطفى فاسي وآخرين؛ وكان يناقش كما نناقش، ويتغنى بالشعر كما نتغنى، وكان حفّاظة متميزا، ويضحك حدّ القهقهة كما نضحك وينفعل كما ننفعل ويشاكس كما نشاكس وقد يتسكع كما نتسكع· وقد نخوض في السياسة أحيانا، فنُحلّل ونتصوّر حلولا ونتفق ونختلف ويحتدم النقاش فيعلو صوته كما تعلو أصواتنا؛ فإذا جاء ذكر العراق، ينفعل ويحتدّ ويسُبّ، ولكن غمامة حزن تغمر عينيه فتُبلّلها قطراتٌ سرعان ما يَحْبِسها وقد لاحظ صمتنا بعدما كنا نناقش بلا توقف· وهو المَنفيُّ الهارب من طغيان الطغاة، لم يكن يكثر الحديث عن مأساته، تَعَفُّفا، إلاّ نادرا· كان يترك البَوحَ لشعره حنينا إلى العراق: ''ثم هاجرتُ، وزادي وطن مُفعم بالحزن مما أُثكِلا لاَيَني يتبعني في رحلتي حيثُما نقَّلتُ خطوي نَقَلا فهو في الدار، وفي المقهى وفي قاعة الدرس وفي كأس الطّلاب أو شوقا لأمّه في قصيدة ما أظن أن قصيدة المتنبي في رثاء جدته تَفضُلها: ''أماه، وجهك، ولا الدنيا وما تَعِدُ ولا الجِنان، ولا النُّعمى ولا الرّغد ثَرُّ البشاشة، حتى لست أعرفه في يوم يَفجَؤُه هَمًّ، فينعقِد (···) تمشي الغُضون به عَجْلى، فيرمُقُها جَلال شيخوخة فيه، فيَتَّئد كم زَرته - وحنايا النفس - داجية وعدت - وهي على شمس الضُّحى رَأدُ ما استيقظ الهمّ في صدري فأحرجَه إلا وهَدْهدت منه ريثَ يتّئِدُ وقد أفيق - إذا أغفيتِ - بوقظني فستضيفين منه ضعف ما أجد (···) يا ثاكلا لا تُعزّى أنْ لها ولد غريبُ دار، فلا قبرٌ، ولا لحدُ سمعت صوتك - وهو الدفء يغمرني فكنت - لا أكذِبنَّ الشّوق - أرتعد (···) ثمّ التفت إلى السبعين أسألها عما تحمّل من أعبائها الجسد فاغرورقت همهمات الروح أُمنِيةً أن لو تَرَيْني قُبيل الموت إذ يَفِد أماه، لو في يدي أَرْخيتُ من عمري ظلا على عمرك الحرّان يبترد (···) أماه، عفوك، ما هاجرت عن بَطرٍ أتشتهي العيد أنْ لوْ كُحلُها الرَّمدُ؟ لو كان لي - غير دار الذلّ - من سكن لكان تُعماي - ما جاورْتُك - النّكدُ لكنما هي نفس أُتْرِعت أنفا وزدتها كبرياء أنت، لا الرّشدُ ربّيتني، أرِدُ الغِسلينَ ظامئةً روحي إليه، وحوضَ الذلّ لا أَرِدُ لم أعبُد الله - وهو اللهُ - معصيةً فكيف أسجُدُ للطغيان أنْ سجدوا (···) أماه، ما رَعَتِ الأيام حُرمتنا فهل يكفّر عمّا قَارَفتْهُ يد ··؟ (···) ما أتعس المرء لم تبرد حَمِيّتُه وتستغيث به البلوى فلا يَعِد!'' تلك كانت مأساة هذا المنفي، ضحية الطغيان، مثل آلاف وآلاف العراقيين المشردين· كنا نشعر بمأساته فنفتح له أبواب قلوبنا مُشرعة رغم نَزَقِه المُحبّب، أحيانا، ولعلّه وجد في صحبتنا وفي شهامة الجزائريين - إلاّ قلة قليلة - شيئا من الدفء الذي يُعوّضه عمّا افتقد، فانخرط في صحبتنا بلا حدود وأحبّ الجزائر، ولم يضطر إلى مغادرتها إلا بعد أن اشتدت نكبة الجزائريين في سنوات الجمر فعرفوا هم أيضا طريق الهجرة وأصبحوا منفيين في وطنهم· اضطر إلى الهجرة ثانية، فسافر إلى ليبيا، ولم يكد يستقر بها حتى ضاقت به السُّبُل فغادرها إلى بولونيا التي استقر بها يُدرّس الأدب العربي· وفي أثناء ذلك، دعاه قسمنا مرّة ليشارك في مناقشة رسالة جامعية كان هو المشرف عليها قبل مغادرته الجزائر؛ استقبلناه في المطار، ولاحظت دهشته وقد كنا مجموعة في استقباله، وعندما احتضنته مُسلّما أحسست بجسمه يرتعد؛ كان يُخفي تأثره وراء ابتسامة مُرتبكة وحديث لا يتوقف· ليلتها، وقد كان في الفندق، هتف إلى المرحوم أحمد الأمين وقال له: ''يا ربْكُمْ، ماذا فعلت لتحتفوا بي كلّ هذا الاحتفاء''· بلغت هذه الكلمات مسمعي، فكتبت على التوّ كلمة عنوَنْتها: ''غريق الورد''؛ وكنا قد قرّرنا في القسم أن نُنظم لقاء للترحيب به، وحاولت أن أجيبه عن سؤاله ذاك: ذكّرته باليوم الذي اعتُديَ عليه من قِبل بعض الأوباش وأُدخِل إلى المستشفى وكيف هبّ القسم كله أساتذة وطلبة وقصدوا المستشفى حيث كان يرقد وغمروا سريره بالورد· وقد فعلوا ذلك تلقائيا دون أدنى حسابات· أولئك هم الجزائريون حين يَأْنَسوا في الواحد حسن السّريرة، وخاصة إذا شعروا أنه ضحية ظلم، وتلك كانت إجابتي على سؤاله الحائر· عاد إلى العراق بعد سقوط النظام الذي فرّ من طغيانه، ولعلّه كان يُمنّي النّفس بعهد جديد يعيد إليه عِراقَه، ولكنه لم يهنأ بعودته، فقد قوبل بجحود اشتكى منه في حصة من حصص القنوات العراقية الكثيرة· فهل هذا هو مصير المواطن في البلدان العربية، خاصة إذا كان عزيز النفس؟ وكنا نتسقّط أخباره وقد توقف، في المدّة الأخيرة، عن مراسلة أصدقائه في الجزائر، ثم وصلنا نبأ وفاته وقيل إنّ السبب هو إصابته بمرض عضال· هل هذا هو السبب الوحيد أو الحقيقي؟ وهنا تحضرني قصيدة لمحمود درويش كتبها قبل وفاته بقليل يتساءل عن وفاة شخص غريب حضر جنازته، ولعلّه أن يكون هُو، يقول فيها: ''من هو الشخص الغريب، وأين عاش، وكيف مات فإن أسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة''