المسألة الثقافية، كما يعلم ذلك المشتغلون بقضايا الفكر، مسألة معقدة جدا، وليس بسهل الاتفاق عليها ولا تقديم تعريف يجمع الناس حوله، ولا يخص وضع كهذا مفهوم الثقافة وحده، فهو خاصية مشتركة بين المفاهيم ذات الصلة بالحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية··· إلخ، ولعل أهم الصعوبات في هذا المجال هي: 1 إن محاولة تقديم تعريف لهذا النوع من المفاهيم يتطلب مسبقا موقفا نظريا أو فلسفيا من قبل المعرِّف، فالذي يعرف مفهوم الفلسفة مثلا، يرى نفسه ينطلق من موقف فلسفي سواء أكان واعيا به أم لا. 2 إن أي تعريف، بناء على الخاصية الأولى، يُرتب عناصر الموضوع ترتيبا يجعلها تتفاوت من حيث المنزلة والقيمة، بل التوجه النظري للمعرِّف يضطره، دون وعي منه أحيانا، إلى تجاهل عناصر قد يراها غيره مهمة، وإذا كان هذا يدل على شيء فإنه يعني أن المفاهيم تمارس استبدادا على صاحبها لا يستطيع التخلص منه إلا إذا انتقل، بلغة هيغل، إلى مستوى الوعي الذاتي الذي يجعله يراجع جهازه المفاهيمي مراجعة نقدية تخفيفا للاستبداد المذكور. لعل اعتبارات منهجية كهذه هي التي كانت تباطن التناول المنهجي للمسألة الثقافية، كما يتجلى ذلك في كتابات أستاذنا شريط، وما يزيد الوضع تعقيدا هو أن الأستاذ لا يزعم الحياد المنهجي لأنه لا ينظر إلى الثقافة كنظرته إلى الأشياء، فهو لا يدعي الحياد لأنه يدرس الثقافة في فضاء تاريخي معين، أي أنه يدرس ذاته الثقافية، ومن ثم فهو لا يستطيع أن ينسلخ منها حتى يستطيع تشييئها. إن من يطلع على أدبيات الأستاذ شريط يلاحظ أنه يتطرق إليها في أماكن عدة، ويعود هذا إلى أنه ينظر إليها على أنها كلٌّ تترامى أطرافه من السياسة والإقتصاد إلى التربية والتعليم. لا يمكننا في هذا العرض تتبع كل الحالات التي تعرض لها الأستاذ ولا كل العناصر التي تناولها، لذلك ارتأينا أن نستعرض طريقة التناول التي يمكن وصفها بالجدل المزدوج، أعني به الجدل السالب والجدل الموجب، وتراني أستعمل كلمة جدل لأنها من الكلمات الإجرائية التي كانت تروق للأستاذ. السياق النظري الذي يتموقع فيه الأستاذ شريط هو ما يسمى بالواقعية، وهي نزعة منهجية طبعت فكره منذ كتاباته الأولى، أنظر مثلا ما يقوله في كتابه تاريخ الثقافة والأدب في المشرق والمغرب (ط1، 1958) عن كيفية النظر إلى النص الأدبي: ''من الواضح أنه لا يكفي لكي نفهم قطعة أدبية أن نفهم ألفاظها ومعانيها فقط، بل لابد أن نلم بظروفها التي قيلت فيها وبالحالة الاجتماعية التي كان يعيش فيها قائلها وبالظروف النفسية والفكرية التي كان عليها عند إنتاجه لها''. ولا يقتصر هذا على دراسة القطعة الأدبية، فالنظرة الواقعية يجب أن تتحوّل إلى فلسفة، حيث تتشكل نظرتنا إلى الأشياء وإلى الحياة بكل تجلياتها السياسية والثقافية والاقتصادية··· إلخ. والأستاذ في هذا يتجه وجهة خلدونية وباديسية، فبالنسبة إليه يعد إبن خلدون وابن باديس معلمين في الواقعية: الأول بمنهجية التأويل العلمي لواقعه، والثاني بإصلاحه لواقعه الاجتماعي والثقافي. الواقعية إذن هي المرجعية في المنهج، والواقع هو موضوع هذا المنهج والفلسفة لكي تكون أداة فعالة ومؤثرة عليها، أن تنتهج هذه الوجهة المنهجية، ذلك ما يذهب إليه عندما يحاول ربط الفلسفة بواقعها، وهي العلاقة التي رآها قائمة بين الفلسفات الناجحة وأشكال الواقع، حيث استندت فيه السياسة إلى الفلسفة، وهذا ما نفتقده نحن العرب الذين صرنا ننظر إلى الأمور نظرة مزدوجة، حيث الدين مثلا في واد والواقع في واد آخر، واللغة المكتوبة في واد والمنطوقة في واد آخر، وهكذا مع بقية المجلات· ويحدد هذه النظرة الواقعية في عدة نقاط: 1 الاستفادة من الوضع والنظر إليه ''بفكر هادئ وحد أدنى من النزاهة والعقلية والخلقية''· 2 التجرد من العواطف الشخصية ''ما عدا العاطفة الوطنية الخالصة''· 3 تربية الشعب على الإهتمام بشؤونه والتفكير في نفسه من دون جعل أنفسنا أوصياء عليه، وهذا يجعله قادرا على التعبير عن نفسه في الفضاءات المختلفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بسن البرامج المتعلقة بتنظيم حياته. 4 توفير المجال الضروري للناشئة كي تكون أكثر استعدادا ومسؤولية على مواجهة حياتها حتى تكون أقل عرضة منا للخطأ· يبدو إذن أن وجهة فلسفية كهذه بسيطة والفلسفة الصحيحة في نظر أستاذنا هي بهذه البساطة؟ غير أن المقيدات والغموض والصعوبات التي تنفر الناس منها لا يعود إلى الفلاسفة بل إلى شراحهم · ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن الأستاذ يماهي بين الفلسفة والعلوم المتخصصة في الشأن الإنساني والاجتماعي، وإذا كان لها من دور هام، فهذا يكمن في خلق ''الفكر الذي يحل مشاكل القرون والأجيال ويتمرس على صعاب الحياة وينظم المجتمع ويحدد العلاقات بين بني الوطن وبني الإنسان في جملة الأوطان'' · إن تبني النظرة الفلسفية الواقعية جعلت الأستاذ شريط يتبرم من استيراد المناهج، لأن هذا يجعلنا نرتكب خطأين: الأول هو أن هذا الاستيراد يجعلنا بعيدين عن مجتمعنا، وهذا ما وقع فيه الفارابي وابن سينا مثلا، والخطأ الثاني هو أن هذا العمل قد لا يتوقف عند المنهج، فقد يتعدى إلى نقل المحتوى، ومن ثم قد نعيش حالة اغتراب لأننا سنجد أنفسنا نتعاطى مشاكل الآخر وننسى مشاكلنا· قد تبدو هذه الملاحظات بعيدة الصلة بالمسألة الثقافية ولكنها ليست كذلك، فالحديث عن الوجهة الفلسفية التي يجب تبنيها بالنظر إلى المسألة الثقافية جزء من المأساة الثقافية، لأنه يحدد الإطار الذي يجب أن تعالج فيه هذه المسألة أو غيرها، وإذا تم هذا التبني فإنه سيؤدي إلى ثقافة أصيلة تعبّر عن هوية متماسكة نابعة من تربتها. بعد هذا يسهل علينا الآن النظر إلى الجدل المزدوج، الجدل السالب ليس إلا النظر إلى العوامل السلبية، التاريخية منها والتنظيمية، التي أساءت إلى الثقافة الوطنية، سواء الموروث منها أو الجزء الذي هو في حالة تشكل، ويظهر هذا في عدة عوامل أهمها الاستعمار، لقد عمل هذا العامل على تدمير البنى التحتية للمجتمع الجزائري بغية إخضاعه، لكنه كان يعرف أنه مجتمع يملك رصيدا من الحضارة والثقافة، ومن ثم رأى أن هذا الإخضاع لا يتم إلا بالقضاء ''على القلعة الأخيرة التي يتحصن بها وهي القلعة الثقافية''· ويبدو أننا لم نستطع مواجهة الحد الثقافي الاستعماري، ففي رأي الأستاذ أن الثورة التي دامت ثماني سنوات تقريبا لم تنتج سوى ''ميثاق الصومام وميثاق طرابلس''، ولم ننتج فكرا حتى في الثورة الثقافية، وإذا كان هناك شيء من التعليم والفكر، فذلك كان ''في الإشهار والإعلام والجدل..''· وبعد استعادة الاستقلال انهمكنا في السياسة الفلاحية والصناعية والإقتصادية، وذلك بحجة التنمية، ولكننا قمنا بذلك بطريقة معكوسة، ولذلك لم تؤت أكلها، لأن ''أيديولوجية التنمية الحقيقية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا هي أيديولوجية نقل المعرفة، لا نقل المصانع، ونقل المعرفة هو ما نقصده بتنمية الإنسان''، وإذا كان لنا في الدول المصنعة مثال، فإن هذه بدأت بتكوين الإنسان الذي أبدع بعد ذلك معجزات التكنولوجيا وهذا يعد خطوة هامة في الجدل الموجب. ما هي الصورة التي تكون عليها الثقافة الوطنية في وضع كهذا؟ هل يمكن لمجتمع حقق نصرا عسكريا ولم ينتج فكرا متناسبا مع هذا النصر أن يحسن قيادة نفسه؟ لقد وجدنا أنفسنا، حسب الأستاذ شريط، في إشكالية خانقة من عدة أوجه: إن ثقافتنا الوطنية اليوم تقع في مكانة خانقة من ناحية رواسب التأخر التي ورثناها من عهود الإنحطاط، ويقصد فترة الإستعمار التركي، التي ما تزال ماثلة في سلوكنا الحضاري، ومن ناحية أخرى تبعيتنا للغزو الأجنبي الذي تخلصنا من آثاره السياسية والعسكرية، ولم نتمكن بعد من التخلص من آثاره الثقافية وحتى السلوكية عند البعض· الآثار الثقافية تظهر بجلاء في السلوك اللغوي لدى المثقفين بالفرنسية، وفي تبني أنظمة التسيير في الشؤون الإدارية مثلا باستعمال لغة من طردناه لأننا لم نهيئ من قبل من يقوم مقام هذه الأنظمة· وإذا عدنا إلى الذين تبنوا ثقافة المستعمر، من باب ونوع المغلوب بالغالب، فإننا نلاحظ أنهم نقلوا ذلك دون أن يعوا بعقدة النقص المتحكمة فيهم، وهو إيهام أنفسهم بأن انتهاج هذه اللغة يجعلهم في مستوى حضاري واحد مع المتحضر· وهنا تشتد المسألة الثقافية أو تتوفر عندما يظهر في المشهد فئتان تزعم كل منها أنها الأولى من غيرها، إحداهما باسم المعاصرة والحداثة والأخرى باسم الأصالة، ولكن لا واحدة منها استطاعت أن تجد الوسيلة التبليغية للمجتمع الذي تعبّر عنه رغم أن كلا منهما تحمل نفس العاطفة (والأستاذ هنا يخص بحديثه الأدب الجزائري)، فالفرنسية لغة الخاصة، وهي منفصلة عن طبقات الشعب ذات الانتماء الحضاري والثقافي المختلف كلية عن الثقافة الفرنسية ولغتها، والعربية المكتوبة ليست هي عربية التداول، وهذا أمر لا يخص الجزائر وحدها بل هو مشترك بين الدول العربية، وهو جدير بأن يدرس حتى يكون عاملا مساعدا في انتهاج مناهج تعليمية تجعل اللغة أكثر قربا من التداول اليومي. إذا لم تساير اللغة العربية تطور الحدث التاريخي أو العصر، فقد يعزى ذلك إلى أنها لغة متخلفة، وهو وضع ظهر نتيجة الصدمة مع الآخر، لكن إذا صح هذا الحكم فإن وصفها هذا يعود إلى تخلف المجتمع، ولكن لا يمكن أن نجد في عملنا النهضوي بديلا عن لغتنا من لغة أجنبية، لأن هذه لن تستطيع أن ترتقي بنا إلى ''مستوى رقي شعبها بالسرعة التي نرغب فيها''، وإذا كنا نستطيع أن نحدث بعض التغييرات الخارجية على حياتنا كهندسة البناء ووسائل النقل، فإن هناك مكونات داخلية يستحيل علينا تغييرها حسب أنماط أجنبية: إن الصينيين كان من السهل عليهم أن يرتدوا الملابس الأوربية ويعمموها على ما يقرب من مليار من البشر في ظرف جيل واحد، ولكنهم إذا أرادوا أن تكون لهم عيون زرقاء، ولغة شيكسبير فإنه لا بد لهم من عالم آخر أشبه بالآخرة، لكي يتحصلوا على هذا التغيير· تمجيد اللغة قد لا يعبّر عن وصفها تعبيرا صحيحا، فالمبالغة تكون ضربا من الخيال، لذلك يجب أن نتحلى بالنظرة الواقعية التي تنصحنا بعدم الإرتماء في أحضان الآخر طلبا لرقي موهوم، وبعد التغني بأمجاد اللغة ظنا منا أنها كافية لاستيعاب الحاضر الذي لم نعد نملك زمام الريادة فيه، ولكن هذه الواقعية نفسها تضطرنا إلى إعادة النظر في أساليب تعليم اللغة العربية حتى تكون أكثر طواعية، وذلك بعدم الاهتمام بالشكل (قواعد اللغة والإعراب) على حساب مواكبة التغيرات الاجتماعية، وإلا بقيت لغة الكتّاب والمفكرين فقط، وهذا من شأنه أن يحدث قطيعة بين المجتمع ولغته، وإذا تكرّس هذا الوضع فإنه يعود بالوبال على وحدة الأمة ووحدة ثقافتها ومثلها الإيديولوجية والأخلاقية. * للموضوع هوامش