تحدث شيخ ميمون العباسي، أحد أعمدة أغنية الراي البدوي، صاحب أغنية ''واش يصبرني''، والأغنية الشهيرة التي دوّت عبر العالم بعدما صدح بها الشاب خالد ''طريق اللسي''، فتطرق إلى تاريخ أغنية الراي كما عرفه، مبرزا في حديثه أهم المراحل وأعمدة هذا النوع الغنائي، الذي يرى اليوم أنه مهدد بفقدان أصالته وخصوصيته بعدما طغى عليه غناء الكباريهات· مع أن اسم الشيخ ميمون معروف لدى عشاق هذا النوع الغنائي، إلا أنه بعيد عن التداول الإعلامي، ما يجبرنا للعودة للبدايات، هلاّ حدثتنا عن بدايتك مع الفن؟ من أصعب الأشياء أن يتحدث المرء عن مسيرته الفنية أو عن أشياء تتعلق بشخصه، فالحديث عن الزمن الماضي، وبالضبط عن بداياتي في الغناء يعيدني لفترة من الزمن افتقده بمرارة، بل إنه يدفعني للبكاء حسرة على التراث الأصيل للمنطقة· كما يدفعني لإعادة النظر في واقع الأغنية التي باتت تعاني من كل أنواع التهميش والاستخفاف، الكل يعتقد أنه من السهل غناء الراي، لا يدركون أنه نوع غنائي يؤدى بالروح قبل أن تؤديه الكلمات والألحان، هو حالة إبداعية ووجدانية لم تعد متوفرة في الراي اليوم· الراي كما أعرفه لم يعد موجودا، فقد عاث الدخلاء فيه فسادا وعبثوا بأغنية الراي الأصيلة وقاموا بقتل الفن الأصيل ''الراي الكلاسيكي'' واستبدلوه بما أطلق عليه بالأغنية الشبابية التي يتخلل البعض منها مفاهيم خاطئة وأصبحت تعاني شرخا حادا من خلال تسلل بعض الأغاني الهابطة ذات الكلمات الرديئة· للأسف، من يجهل حقيقة الراي يضع فكرة سلبية عن هذا الطابع، وأنا لا ألومهم لو كنت مكانهم لفكرت بنفس الطريقة، لكن ما يجب أن يفهمه الجميع أن أغنية الراي حالة وجدانية وطريقة للتعبير عن الرفض لكثير من الممنوعات حتى حين يتطرق الراي للمحظورات، فهو يضع الأصبع على الجرح ولا يسعى للتهريج، هذا هو الراي الذي أعرف· أما ما يغنى اليوم ويطلق عليه البعض تسمية الراي، فالشيوخ وأصحاب هذا النوع بريئون منه ومنهم· شخصيا، كانت بداياتي في زمن الطفولة، لم يكن عمري يتجاوز السادسة عشرة، كنت أقطن حينها بقرية ''فيلاج الريح'' الحي العتيق المتواجد بوسط مدينة بلعباس، وكنت أتذوق مختلف الطبوع الموسيقية لفناني الحي، منهم الشيخ المقلش الذي يعد فردا من العائلة وأحد أعمدة أغنية الراي ببلعباس، إذ كنت أرافقه خلال إحياء الحفلات والسهرات الليلية، وكنت من يقوم بافتتاح السهرة بتقاسيم آلة العود، وذلك بعد اكتشافه ميولي نحو الفن· كان الفن بالنسبة لك موهبة بالفطرة؟ ترعرعت في بيئة تقدس الفن والغناء وتعتبره من أولوياتها في الحياة العادية، فمثلا حي فيلاج الريح كان معروف بأشهر فنانيه سواء في غناء الراي الأصيل أو الأغنية البدوية أو الطابع المغربي، غير أنني دخلت الفن من باب الحاجة والعوز، إذ نشأت في عائلة فقيرة كانت تفتقر لأدنى متطلبات العيش الكريم بعد الاستقلال، حالها حال بعض الأسر الجزائرية، وهو الشيء الذي جعلني لا أواصل تعليمي· حين كنت أدخل القسم رفقة زملائي الفرنسيين، كنت أشعر بعقدة نفسية تجاههم، فهم يملكون كل شيء، ولعل هذا ما دفعني إلى الغناء داخل القسم للفت الانتباه، غير أن الأستاذ كان يوبخني وفي الوقت نفسه ينبئني دائما بأنني سأصبح فنانا، وسيكون لي مستقبلا زاهرا، كان الكثيرون يقولون إنني أملك صوتا يناسب هذا الطابع الغنائي، لكن الواقع ساعدني في تطويره شيخ المقلش بتزويدي بنصائح وإرشادات تؤهلني لخوض طريق النجاح والشهرة، فدخولي للفن كان عن طريق شيخ المقلش· وقد بدأت في إحياء الحفلات مع نهاية الستينيات وبالضبط سنة ,1968 حيث أخذت أحيي حفلات في الأعراس والسهرات وأخذت شيئا فشيئا أصنع شهرتي وبعدها أصبحت أكثر طلبا وشهرة في بلعباس والولايات المجاورة لها· بعد النجاح الذي حققته، هل فكرت في تأسيس فرقة موسيقية؟ أجل، بعد النجاح مباشرة أسست فرقة موسيقية سنة 1970 وأطلقت عليها اسم ''فرقة المرسم''، وتميزت بكثرة أعضائها، وهو الشيء الدال على أن سكان المدينة رغم بساطتهم، غير أنهم كانوا متذوقين للفن بكل أنواعه سواء في الغناء أو مسرح الحلقة··· ومن بين أعضاء الفرقة الذين ساهموا بشكل كبير في تألقها عباس معزوز معاشو، مقري ميلود بن عومر، حمزة دموش، بن برواة قادة والمرحوم لخضر رزيق وأمين بن عيسى وغيرهم·· بدأت الفرقة آنذاك تغني طابع الراي المتوارث عن الأجداد، غير أننا قمنا ببعض التغيرات وأدخلنا عليه آلات عصرية كالفيتار الكهربائي، الأكورديون··· وغيره من الآلات· وقد كانت الفرقة أول من غيّرت إيقاعات الراي واستخدمت ''بيدال الواوة الأمريكي'' واستغلته لصالح طابع أغنية الراي العباسي بطريقة إيقاعية جميلة وأثناءها أعادت الفرقة بعض الأغاني الشهيرة للشيخ المقلش بآلات عصرية كأغنية ''يازينا ديري لتاي'' التي اشتهرت بها فرقة ''راينا راي''، كما أدينا ''خلوني نبكي على راي وما درت والوا''· كيف كانت علاقتك مع مطربي الراي في تلك الفترة؟ كانت في تلك الفترة فرقة الإخوة زريقي من الفرق الأكثر شهرة، بعد النجاح الذي حققته في أداء طابع الراي القديم، اقترحت على المرحوم زريقي أن يشاركني الغناء بحكم أنه يملك صوتا رائعا يناسب صوتي وشكلنا بعدها ثنائيا رائعا، وقمنا بتسجيل أول شريط غنائي باستديو ميكرفون للأخوة عقاد ببلعباس، ومن بين الأغاني التي سجلت حضورها في تلك الفترة ''أعطتني هدية''، ''خالتي فطيمة جيت ناسبك''، ''يا رجل وعلاش''، ''طريق ليسي''، وغيرها الكثير من الأغنيات التي حققت نجاحا منقطع النظير في المنطقة وذاع صيتها وصولا إلى المغرب، بل إن منها ما يستمر في تحقيق النجاح إلى يومنا هذا، لكن وللأسف الموت خطف زريقي في سن مبكر في حادث سيارة أليم ومات زريقي وترك من بعده فراغا كبيرا لعشاقه ومحبيه، هذا لأعود للحديث عن العلاقة بين الفنانين في هذا النوع من خلال التكامل كانت منافسة تهدف لتقديم الأحسن· بعض الأغاني التي ذكرتها صنعت نجوما كالشاب خالد والشاب يزيد والمرحوم حسني والزهوانية، في حين ظل أصحاب هذه الأغاني مجهولين لدى العامة؟ تعتبر مدينة بلعباس المدرسة الأولى من حيث تصدير أغنية الراي بحكم امتلاكها شيوخ ومعاليم يفقهون معنى الراي ويحترمون أصالته، فهم يملكون خبرات ميدانية تفي بالغرض أمثال شيخ عبد المولى مصطفى بن إبراهيم والشاعر العظيم وراد بومدين، الريمتي، حبيبة الشيخ المقلش، فإنه من الطبيعي أن يتخرج على يد هؤلاء فنانين محترفين· أما ما يؤسفني كون الفنانين الذين صنعوا شهرتهم بفضل شيوخ بلعباس أمثال شاب خالد والزهوانية ومامي لا يذكرون فضل الشيوخ عليهم، إذ أنكروا ذلك ولم يعترفوا يوما بهذا الجميل وحتى شيخ بلاوي الهواري تعلم الأصول الحقيقية لأغنية الراي على يد المرحوم شيخ المقلش· والسبب الحقيقي في عدم شهرة المغنيين الأصليين يعود إلى نقص الإعلام خاصة خلال تلك الفترة· من جهة ثانية، الإقصاء الذي يعرفه بعض الفنانين المتواجدين في المدن الصغيرة، ويتمثل في عدم مشاركتهم في الحفلات الرسمية والمهرجانات، مثلا أنا شخصيا أكثر من أربعين سنة من العطاء لم يسبق أن دعتني أي جهة رسمية لأي مهرجان وطني، إذ لم يسبق لي المشاركة في مهرجان تيمفاد أو جميلة· أما الحديث عن التكريم، فلم أعد أفكر فيه رغم أنني مثلت الجزائر في أكثر من دولة أوروبية، والشيء الذي أتأسف له بشكل كبير أن أغلبية الفنانين الشباب تعلموا من مدرسة الراي لسيدي بلعباس وتخرجوا من ''الكباريهات''، غير أنهم اليوم يحظون بقيمة أفضل منا· البعض ينعت أغنية الراي بالمبتذلة، برأيك من المسؤول عن تشويهها؟ ما يحزنني أن أغنية الراي الأصيلة مهددة بالزوال وأن الخطر يحدق بها من كل جهة، غير أنه ما من أحد قادر على إنقاذ هذا الطابع الأصيل، من منطلق الخبرة التي اكتسبتها على مدار أربعين ساعة· وبعد مشواري مع الشيوخ يمكنني أن أؤكد أن كل من يغني الراي اليوم يقوم بتشويهه، لا يمكن أن تنتظر الكثير ممن يقوم بترديد الجملة نفسها في ''الكباريهات'' طوال ساعات، معتقدا أنه يغني الراي، المؤسف أن هناك ممن تعلم على أيدي كبار الشيوخ سار في درب ابتذال أغنية الراي على غرار الشيخة نجمة، التي تركت الفصبة والفلال وكل ما تعلمته على الشيوخ لتلحق بركب ما يسمى بالراي العصري· بحكم تجربتك الكبيرة في تأدية طابع الراي، ما تعليقك على مهرجان الراي الذي يقام كل سنة ببلعباس؟ تستحق مدينة سيدي بلعباس أن يُرسم بها هذا المهرجان بحكم تاريخها الفني، فهي بمثابة مدرسة حقيقية تخرج منها كبار المغنين لهذا الفن· لا بد من التعامل مع هذا النوع الغنائي باحترام والعمل على إعادة رونقه وأسلوبه الأصيل بعيدا عن المحاولات التي تسعى للجعل منه نوعا غير محتشم وخادش للحياء، لا بد من فهم المعنى الحقيقي للراي، غير أننا اليوم نلاحظ إهمال أعمدة الراي والترويج لمن لا علاقة لهم بالراي، إذ نشعر كل سنة بالذل والهوان، مثلا تستقطب مديرية الثقافة عدد هائل من الفنانين من مختلف القطر الوطني ونحيي الحفل إلى جانبهم ونخلق بهجة لا مثيل لها في قلوب الحضور، لكن عند قبض مستحقاتنا نشعر بالظلم، كيف لفنان أقل منا عطاء ومستوى يقبض مئة مليون سنتيم، في حين فناني مدينة بلعباس كشيخ النعام ومحمد العباسي نقبض خمسة ملايين سنتيم· كيف هي وضعيتك المادية بعد توقف المنتجين الذين كنت تتعامل معهم؟ في الواقع، قد يبدو من المهين أن يشتكي الواحد لسوء أحواله المادية، لكن حالة الفنان لم تعد تخفى على أحد، بعد أربعين سنة من العطاء الفني أجد نفسي في وضعية مادية أقل ما يقال عنها إنها مزرية، أعتقد أنني مثل كثير من الجزائريين الذين يرزحون تحت وطأة الديون، فأنا مثلا لا أملك منزلا وأضطر لتأجير بيت بمبالغ لم أعد أقوى عليها، لن أكذب أنني أعتقد أن الراحة الوحيدة من هذه الظروف القاسية لن تكون إلا بالرحيل عن الحياة، لكن التفكير في أنني نجحت في بعث البهجة والفرح في قلوب كل من عشق هذا النوع الغنائي تبعث فيّ الأمل من جديد، عدا هذا كل الأشياء المتبقة لا تبعث على البهجة في حياتي، وآخر ما أرغب فيه هو أن يتم تكريم ذكراي بعد موتي، أقولها صراحة لا أريد هذا النوع من التكريم ولا يلزمني·