''راهو جا وليدي خويا'' لا أعرف أية ثقافة تمزج بين كيانيْ الابن والأخ! في الحضارة الفرعونية، كلمة الأخت كانت تساوي في معناها كلمة الحبيبة، حتى أن الفراعنة كانوا يتزوجون أخواتهم، وحتى نضع الأمور في سياقها التاريخي، فهذا الزواج منشأه براغماتي بالأساس :في أعراف الفراعنة كل من يتزوج من الأخت الكبرى للملك تحق له خلافته في العرش، ولهذا كان الأمراء يتزوجون أخواتهم حفاظا على المُلك فالعائلة، ومنه بدأ اتخاذ الأخت كحبيبة أمرا شائعا في حضارة يتجاوز عمرها الآن أكثر من خمسة آلاف عام. طبعا، المقارنة بين وضعيّ الابن -الأخ، والأخت -الحبيبة، هي مقارنة غير مؤسسة، ولست منخرطا أصلا في هذه العملية، فقط بحثت عن منشأ الترابط بين كلمتيّ ''وليدي'' و''خويا'' فلم أجد له منبتا إلا في بيتنا، وبالتحديد على لسان الوالدة. تستقبلني أمي بهذا الهتاف حينما أعود من الجامعة أو العمل :''وليدي ..خويا''، وتودعني بنفس الكلمات .أمام الباب تحني رأسها لأقبّلها رغم أن قامتي أطول، لربما مازالت تعتبرني رضيعا بحاجة إلى أن نحني رؤوسنا من أجل أن نكلمه، نقبله، نضمه، نشمه .الأمر واقعا ليس كذلك، لكن والدتي لم تخرج من معاملتي على هذا الأساس، ويبدو أنني نفسيا أستلذ وضع الطفل. أقفل الباب مغادرا، أمشي بضع خطوات، وقعها ينزاح احتراما لصوت أمي، هي الدعوات والصلوات تصل أذنيّ تخرق قوانين الفيزياء، الباب الحديدي لا محل له من إعراب ''ربي ينجحك'' حينما تخرج من شفتيها، تتكثف على مسامعي، وأتيقن من أن طريقي سيكون سالما تماما. وخارج الإطار السطحي للتعميم والتمييع الشعبويين للمفاهيم، أستطيع القول :''كلنا نفتخر بأمهاتنا'' .الأم هي النموذج البشري الأكمل، امرأة خارج أطر النقد، لا نعترف لها إلا بالفضل، ولا ننكر لها أو عليها إلا أخطاء غير مقصودة، نصنفها غالبا في خانة الخوف اللامبرر، وتصنفها في خانة الحرص المشروع الذي يجب ألا يناقش! في عرف أمي ترتقي الأمثال الشعبية إلى مرتبة القداسة، ''اللي فاتك بليلة فاتك بحيلة''، علي بالصمت والاستماع للتوجيهات، أما إن قررت شق عصا الطاعة، فسأكون ضحية ترهيب ووعيد بحضور ''الغولة''، وحينما انفتح وعيي على عدم وجود غيلان، تطور الأمر إلى مطاردات، يكون فيها سلاح الماما ''البلايغ'' التي تتعمد رشقها خارج الهدف، أخرج سالما، وتخرج متألمة لادعاءاتي أني نلت أكثر من العقاب المستحق :''سقطت وتورمت رجلاي'' أقول كاذبا، لكن غريزة الأم لا تعترف باحتمالات الكذب حينما يتعلق الأمر بسلامة الصغير، تواسيني، لأخرج رابحا أكبر مفلتا من العقاب أولا، وغانما لقطع من الحلوى أخيرا. يا ماما، هل كنت تعرفين أني ادعيت المرض أحيانا لأغيب عن المدرسة؟ لم يكن يكفيني التقسيم العادل للاهتمام وإن احتللت عشر سنوات دولة آخر العنقود ...كنت أدعي المرض لأنفرد بعطفك وحنانك في غياب الكل .من أين كنت تأتين بتلك اللعب التي كنت أستظرفها على قِدمها؟ كنت أصنع أشكالا من لف الخيط على يدي، عادة أحتاج إلى شخص آخر لأنتقل من شكل لآخر، أما أنت فكنت تمرين من شكل لآخر غير مستعينة على ذلك بغير أصابعك العارية، هل عدد أصابعك عشرة يا ماما؟ مازلت أعتقد أن للأمهات أكثر من عشرة أصابع، حتما الأمهات يملكن أكثر من عشرة أصابع، تضمد الجراح، تكفكف الدموع، تربط خيط الحذاء، تجمل الشعر، تلقم الأكل، تخيط اللباس، تشغل التلفاز، تطفئ المصباح ليلا، تسكت المنبه صباحا، كم مرة يا ماما استيقظت قبل المنبه؟ ربما بعدد المرات التي ضغطت فيها حاقدا على زرّ هذا الجهاز، الذي يظن أنه اغتصب رغبتك في أن يبقى صوتك منبهنا الأزلي؟ أعترف أني أتعبتك، أعترف أني لم أكن طفلا مثاليا، أعترف أني أحببت أن أكون كذلك، أن أكون طفلا مثاليا يعني إقالتك من دور الأم .الأم تغسل، تنظف، تطبخ وأحيانا تأتي بكأس ماء أطلبه، وكأس قهوة لا أنتظره حينما أكون على طاولة العمل، الطاولة نفسها أتركها مبعثرة تماما وأعود لأجد يدا سحرية قد مرّت عليها مرتبة إياها ترتيبا عجيبا. ها أنذا أجد مكانا في جريدة بفضل دعواتك، أمي أعرفك تحبين قراءة الجرائد، لست متأكدا من أنك ستقرأين هذا الكلام، فمن حسناتي القليلة أنني أتكفل بشراء الجرائد لك حين تطلبيها، هذا هو كلامي باختصار مفيد ''أحبك، وربي يخليك ليا ويخلي جميع الأمهات أمثالك''.