''إن الزمن هو سيدنا الحقيقي، ويكفي أن نتركه يفعل فعله لكي نرى كل الأشياء تتحوّل وتتغير..'' غوستاف لوبون مذ عرفته يكتب بدا لي كأنه محترف ثورات ومانيفستوهات، الكاتب الثوري صافي السَّعيد جَلّي يجلو في البياض التونسي، من بيروت عبر، من الجزائر عبر ذات مرّة، من باريس ومن لندن، مذ عرفته الصافي سَعيد عرفته وهو يشتهي أن يصطاد، أن يملأ الأرض والميادين باللوحات وبالكتابة المضادة، هاتف واتصال ومكتب وجريدة أسبوعية، تشمّمت المكان حيث يكتب اليوم ويرابط ويصدر جريدته الأسبوعية، ''عُرابيا'' هذي عُرابيا وراءها قصة وكأس وراح وثورة، من كُتاب قليلين، مسؤولين، نرجسيين يظهر معهم الصافي سعيد ومن بينهم ثوري حقيقي، متعطش للجمال ولكل شيء، جمال الكتابة في الثورة، هذي عُرابيا التي بدأها الصَّافي بروحية فريق متَّسقْ أداءً أو لغة وسْتيلا، سينيكيَّة الوقْع والإيقاعْ، مجلة كان قد بدأها ولم يجاوز بها الخط الأحمر الضروري لميلاد الثورة لكنها توقفت في النصف، منتصف العدد 3 ولم يَر شارع بورقيبة ولا شارع ميشلي عددها الرابع، وكذلك هي تجاربه الأخرى الشريدة والشرود ''جيوبوليتيكا'' و''وعي الضرورة''، ''الرواق ,''4 عُرابيا مجلته، ونشريته وحائطيتُه على صيغة المانيفستو الدائم، والبيان من أجل وضدّ، نوعية في الحقل الإعْلامي التونسي الذي امتلأ بالنثارات وبالذهب ألْمعه وأكذبه كما امتلأ بالديكتاتوريات الهشة، الصغيرة منها والكبيرة، منها ديكتاتورية الشارع وسمفونياته اليومية - ديفاج، هرمنا، تونس لي وتونسْ ليك، تونس تبقى ديما لاييك-، إن أجمل ما في الحقّ أن الصافي صبور متجلد وإعلامي حقيقي، إعلامي عامل كنملة وجسور كملاحظ ومحارب كقائد فيلق، جريدة حداثية، نظيفة، افتتاحية رصينة ومعلومات لا تضارب ولا تضرب لا في رمل توزرْ ولا في رمل السلطة ولا في رمل ثقافوية متفكّكة، الصافي سَعيد وجوده لوحده حدث وبيان واتجاه وخط تاريخي، إنه وعي الضرورة وعطر المرحلة وبهاء المدينة، يَساري أخذ من اليسار ما أخذ معرفته لا أيديولوجيته، ليبيرالي أخذ عن الليبيرالية حبّ العيش وغرف الفنادق الشهيَّة وحلوى التيراميسو، ومن الأدب أخذ ما أخذ من الكتابة الما بعد الحداثة المغرية، لقد قدَم الصافي السَّعيد للقارئ العربي فواكه مانجو وزيتون تونسي ومشروب بوغا حامضٌ مسكَّر، مسكر بكتابته الصافية، المعولمة، الحافلة بالشهوات والتسكعات، إنه من الرفاق الذين أدَوا اليمين الخالص لا الغموس وأدّوْا أداءات الضمير والأخلاق والأناقة، ميزة في المسار وفي الدرب وفي النص وفي المقال وفي الرواية، أنا عرفته كشريد في الكتابة، يجمع الحيل واللهو والإمتاع، يعرف كيف يكتب، ماذا يكتب لمن يكتب، عمن يكتب، الصحافي العربي البارز في مجلة ''كل العرب'' أيام الزمانات الرائعة، زمن أبو جهاد خليل الوزير، زمن أبو عمار، أبو إياد، وكل الأبوات، زمن طارقْ عزيز وصدّام وحسين الأردن والحسن الثاني والشاذلي بن جديد، عن هؤلاء كان يكتب، عن المرتزقة وبوب دينار كان يكتب عن عباسي وعلي بلحاج والشاذلي بن جديد وعبد الحميد ابراهمي، كان يكتب. لقد حاور الصافي سَعيد بن بلة، محاورة عميقة داخلية، محاورة السياسة والأدب والسجن والروس والألمان، محاورة الثورة وأبناء الثورة والعلاقة مع أيت أحمد، محاورة اللقاء الوئامي الأول في تاريخ الجزائريين بين الزعيمين، محاورة الأدب الاشتراكي واليسار الإسلامي وفاضل رسول ورسول حمزاتوف وكتاب الأم للإمام الشافعي. أنا مع الصافي عرفت رئيس الجزائريين والجزائريات، عرفته في سجنه ويومياته، مكابداته ورومانسياتهُ، ومع الصافي السعيد ذهبت لملاقاة كثيرين، للإنصات إلى كثيرين والاختلاف إلى كثيرين.. أحسب أن الصَّافي قدّم لنا أقصى الحدود في الكتابة الفالتة، العابرة للقارات والأجناس، العابرة للجغرافيات والأقاليم، العابرة لفصل الخطاب، محترف ثورة ونصوص ومعابر وجسور، يكتب المقالة فهي مسرودة كأدب وتشكيل، يكتب الرواية بحرفية جاسوس مؤتمن على سرّ البشر والحجر وعلى نفسه، يكتب مانيفستو الكرامة ضامنا المظلة والشموس والأمطار والكلمة السواء، كتب خريف العرب والعتبات المدنسة والزمن الإمبراطوري كتب كل العرب وليس أقلَهم في روايات كازينو+، حدائق الله، وسنوات البروستاتا. برع الروائي الصَافي سعيد في سنوات البروستاتا وها هو يكتب فصْلا هاما في أحوال القصر القرطاجي وتبدُلاته، انتهك العصمة، زلزل الكيان الداخلي وأجاز لنفْسه المروق والصدْع والجهْرية لا خلف بابه العالي، بل إنه كسر الباب ودخل كلص الكلمات المتنسك المتهتك الذي يداور ويناور العابث بالسلطة وبشهواته الأبدية التي لا ترتوي، سنوات البروستاتا هي سنوات الإرهاصْ والنبوءة والخطب الجلل.. رواية الصافي هي رواية الغلمة والاشتهاء والفانتازم بالحكم ودواليبه، رواية السقوط إلى القمة، فعلى القمة ثمة دَرك سافل سترقد فيه جثة الديكتاتور. لقد قالت البطلة ما قالته وهي في سدرة المنتهى الهناك في قمة الربوة ''ما كنت أظن - تلك الكلمات - أنني قادرة على صياغتها خلال حياتي.. لقد قلت له برهافة لم يمنحها لي الرب إلا بعد مماتي.. آه من الكلمات، الكلمات الكلمات!..'' هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته