إذا قرأت هنري علاق في مسار تكوينه الشقي، تربيته العالية، تهذيبه الأنيق وفي أشياء كثيرة، فأنت تقرأ عن حكيم قوم، ولطيف أهل، كما سليقة مناضل حريف، مشغول ببياض فكره ونقاوة باطنه، أخ جزائري لم تلده جزائرية، أخ حر طليق ولدته الحرية والكرامة كما تلد الحرية أشياء كثيرة وقيما ومآثر. هنري علاق الصحافي المتبصّر القادم من فضيلة الكتابة الشاهدة، المناضلة، المناوئة، اللاّمهادنة إلى أنسنة وتخلق وجلل معاينة وحسن إقبال وإدبار في الظاهرة الجزائرية الثورية وليس ذلك بعزيز على مكافح عضوي، منتمي، ملتزم، مصطف تتراص كتفاه ويتراص حبره وتتراص عيناه محدقة متأملة إلى جانب مثاليين حالمين مثله كروجيه غادوري، جاك فيرجيس، جان بول سارتر، وعمر أوزقان والشباح المكي وفرانز فانون.. أي مع الصوت والصحوة وشقاء الوعي ضد الانحناء والظلامية والوقاحة ومثله كان المستعمر بآلامه التي ألحقها بالجزائريين، بالأغاليط المنطقية وغير المنطقية التي تصرف فيها كيفما يليق برعونته وغطرسته وبنصوصه الدوغمائية المحكومة بنظام من المعاني الظالمة والتزييفية الخسيسة، فمن أجل ذلك كله وغيره يكتب هنري علاق سيرته ''مذكرات جزائرية، ذكريات الكفاح والأمال''، إبان حرب التحرير كتب هنري مخطوطه المناوئ المشاكس المسمى ''الاستنطاق'' ولم يترك لذلك الكتاب مجال في الانتشار والذيوع إذ صودر، حكايا عن التعذيب والمعذبين والمعذبين أدمت قلب الاستعمار - إن كان للاستعمار قلب - ويومها كان للرأي العام حصانته وقوة تبصره، لتتغيّر الأمور بعدها لكفة الأحرار.. هي سيرة النازح، إذ ينزاح من الظلام إلى النور وينزاح متكشفا أكثر لذوي الإرادة الحسنة مثلما عبّر هو، ينزاح نحو العاصمة الجزائرية (الجزائر) بأغوارها الدفينات، بأحلامها الهائمة نحو سدرة المنتهى بأبطالها الذين يتصبّحون على رغيف من صبح قريب، سنة 1939 لهنري كانت لقاء حبّ ومعارفة وغرام بالقصبة وشارع راندون، بباب عزون وظرافته، بمصطفى كاتب الأنيق الأندلسي وجلسته الفخيمة في مقهى مقلاتي وبمحمد بوراس المتحدر من أصل تركي عمل المستعمرون على قهقرة عائلته.. سكن هنري علاق القصبة وسكنته، حيث كانت للوقائع الحاسمة مذاقات حاسمة أيضا، الفكر المصالي كان بعض ما يدور بين النخب والحركة الوطنية ترسل برسائل الجموح والشوق للاستقلال.. همّ وألم وميعاد يقاسمه هنري مع الأتراب الجدد، الأصدقاء المتوائمين ضد الجزمة الاستعمارية الخشنة، ولم يكن هنري على إحاطة تامة بينما اليقظة كانت فيه، متأصلة في خلاياه إذ أنه أحب الجوّ وعبقه، بؤسه ومرحه ''كانوا يتحدثون عن معرفة بالأشياء، وإفهامي أن حلم مصالي الحاج في الاستقلال كان حلمهم أيضا، لقد كنا نتسامر أمام أكواب الشاي بالنعناع، بشرفة مقهى مقلاتي أو جالسين بين أكياس السميد والحمص والتمر الجاف ودلاء زيت الزيتون لمتجرة بوراس وسط الضجيج الذي ينبعث من شارع راندون هنالك حيث كانوا يساعدونني على القيام بتربيتي السياسية الجزائرية''. تربى هنري علاق على الفكرة الاستعمارية والقذرة ''الجزائر كانت فرنسا'' وحيث القوانين في أرض كالأرض الباريسية كانت تحرم الاقتراب من الأجانب ولا مكانة لأي طالب مغاربي وسط المتمدرسين الذين يلقنون مبادئ جاك ديكوردومانش - أستاذ الألمانية - بطل المقاومة الذي أعدم من طرف النازيين، لقد تعلم منذ الطفولة وأيام ثانوية رولان ''أن لفرنسا امبراطورية واسعة، حيث نقلت الحضارة والتقدم، وأنه يكفي الخريطة أعلاه كيما تثبت شساعة الأراضي التي تحوزها فرنسا - أي تستولي عليها فرنسا .- كان عمر هنري عشر سنوات لا غير 1931 - 1932 عندما أخذهم المعلم الكولونيالي لزيارة المعرض الاستعماري المقام في فانسان(vincannes) وهو يقول مستعجبا كنا نقف في صف من إثنين، وقد اكتشفنا عجائب وثروات ''الإمبراطورية'' أسواق إفريقيا الشمالية، القرى الإفريقية التي أعيد تشكيلها، المزارع، حقول الأرز في الهند الصينية، أفرشة القش والشواطئ البولينزية... لا سرقات، سرقات استعمارية يريد المناضل هنري الإشارة إليها، يريدون أن يطبعوا عقولنا الطرية إلى الأبد، تربية امبراطورية تقوم على تزوير المجد وسرقة الأثر وتدوير الرؤية بالكذب الأحمر المختوم، في حين أن علاق المنتمي إلى عائلة يهودية ذات جذور روسية وبولونية بمسقط رأس بريطاني استمر يعتبر ذلك من اللاحقيقية التي يبيّنها التاريخ حتى أنه يدحرها دحرا.. إن العلم الثلاثي الألوان كان يقدم مزايا التحضر لساكنه متخلفين رعاع وأن الجمعية البحرية الاستعمارية التي انتمى إلى صفها علاق ستحرض على ذات التعاليم دونما أن تترك لطخة أو خدش على قلب وعقل هنري، مثله مثل أي يهودي عايش الشتات وتعايش معه، الهروب من المحارق والإبادات، تأثير الجدة بروح المعتقدات والأسطورة المبثوثة في دواخله، الأب وابن العم وسطحية ثقافتها السياسية، التردد وأمام المجد الحربي، الأم البريطانية التي تنطق بفرنسية أكابر الأرستقراطيين، شحّ المعرفة بتاريخ الأسرة فعلت فعلها في الفتى الشاب اليانع اليهودي الروجي، تمزقات الحرب وعوادي الأيام من الخصاصة والفقر ومذلة السؤال أدت إلى عبور بباريس وفي باريس حيث الضوء الدائم والاشتعال الوجداني الأبدي طفق الترعرع ضمن تيارات هواء فكري وسياسي مختلف عن المنظومة الأسرية وعناصرها ممن يسأمون من السياسة ومعايبها فتبدلت الأرض غير الأرض، الرشد بان والغيّ بان، الثروة الفرنسية وملهميها، اليسار الجمهوري، ادعاء الشيوعية كأنها امتياز شهادة وطريق خلاص، مصاحبة ادغار موران وهو فيلسوف لا يعلى عليه شأنا ومستقبلا، إنها المرحلة الفضية للاكتناز والظفر بالمعرفة كما يجاهر هنري علاق لكنها مخازن الفكر التي لا تنضب أنوارها.. جول فيري، ديكنز، دوماس، ديدرو، فولتير، هوغو، موباسان، زولا، كل هؤلاء.. فيما يغدو ادغار موران الرفيق الغالي يتنهّد إذ قام بقراءة ثلاثة كتب في الأسبوع وأنه يراهن على العيش لمدة ستين سنة (إنه يبدو لنا من غير اللاّئق أن نعيش أكثر من ستين سنة، وأن ذلك لا يتيح إلا القليل من القراءة في حياة رجل.. وبعدها صف طويل من أفلام شابلن وهاردي وجان رونوار، حتى يبدو تباعا من خلال هذه السيرة المشوقة أن لباريس دائما كبرى الانعطافات ووحده هواء باريس يطيش بنا في الأحلام والأمنيات، التسلل إلى الحي اللاّتيني مرات عدة في الأسبوع يبدو وكأنه لذة منتصف الليل، وتقليب صندوق الكتب القديمة في شارع سان جاك يكفل نشوة يضاهى بها الآخرون، الاقتصاد في الوجبات لاقتناء أناطول فرانس هو كحب يشبه ضربة القمر، حب السفر والسماوات الزرقاء واليونان وأناشيد الجبهة الشعبية هي الأخرى وجدانات تغذى منها هنري علاق.. لكن الحلم الجزائري تشبه بالأفيون الساري اللذيذ وهو ينغم الجسد، حلم القصبة وخليجها، بياض وهدير وباخرات راسية ومناديل، الحلم المتوسطي كرقصة زوربا، ففي الأول هكذا كانت الرحلة بنكهة ملوحة لا تغيب واليوم من 1940 من شمس الربيع الحنون (وكان ''الروجيه'' ماسح الأحذية الصغير بعلبته في ساحة الحكومة وكأنه ينتظرني، إذ عندما رآني نهض لتحيتي من بعيد وكعادته ''صحا الروجي'' لقد عدت ''صحا لقد كانت حرارة استقباله بالنسبة لي وكأنها تحية ترحيب من المدينة كلها..'' مذكرات جزائرية تحفل بالتذكار والاستعادة والحنين، ملح النضال، طعام الثوار، والحنين إلى المدينة -مدينة الجزائر- التقاطع الصدفوي والمحتوم مع رموز في الكتابة والعمل الفكري كما في تجربة الجزائر الجمهورية، وملاقاة ألبير كامو، ثم ملاقاة سعيد وعمر ومليكة أوزقان العائلة ذات المحتد الثوري والنسب النضالي القويم، وإن يوميات باب عزون هي يوميات مفعمة التفاصيل، مصهورة بزيت المرحلة، مرحلة التزام وعر ومواكبات للحدث الاستعماري، فضلا عن اشتداد عود الحركة الوطنية ومطلبيتها واشتداد شكيمة العمل النقابي ولم يكن ظل الخارج إلا ليلقي بصداه وجوه على الداخل، جيش أحمر يواصل الزحف إلى الشرق.. الهتلرية تتمدد في الجسم الأوروبي وقوات الحلفاء تنزل في نزهة على شواطئ النورماندي .. بالكاد لم يكن الواقع السوسيولوجي على تماسك ولحمة، فلقد تزايد عدد المصابين بالمجاعة والتيفوس وابتأس الفلاحون لمحصولهم المزري واستجدى الأهالي رحمة الايد وما كانت المهن والحرف موفورة تطعم من سقم ومن جوع، كان ''شارل'' رفيق درب لهنري أيام عز ''الجزائر الجمهورية'' الجريدة الشيوعية ذائعة الصيت، شارل هذا علامة سوسيولوجية واضحة في جزائر الأربعينيات فلقد انتمى عاملا إلى ورشة والده الإسكافي وتوظف بمصلحة مراقبة الجلود والتي كانت في تلك الفترة تعرف ندرة هائلة وكان دوره يكمن في توزيع الجلود على الحرفيين وتجار الأحذية بالكميات التي تعود لهم قانونا، وجه الطرافة مع شارل كونه ما طفق يخبئ باستمرار عينات من الأحذية المكرسة التي يرسلها باعة الجملة وتتضمن عيوبا وحتى يتفادى تحويلها إلى الوسطاء لحسابهم، وكان ذلك يزعجه قليلا، لذا كنا نراه يلبس زوجين من الأحذية من صنف مختلف وهو يريد أن يظهر من خلال هذا خلوة من الآراء البرجوازية السابقة، إن شارل الإسكافي ودافيد صحافي الجزائر الجمهورية هما من يهوديي تونس اللطفاء يمضيان ببصمة التنوع الكوسموليتي الذي سعت إليه المدينة وسعى إليه الإنسان الجزائري من غير فظاظة ورطانة أو دمغجة رغم سلوكية المستعمر وآلياته في المحو والإزالة والاستئصال، لم تغب عن هنري ولا غيّبها عن القارئ تلك الفكرة المثيرة الغريبة في تفسير العالم والإنسان والحرية، أي الفكرة الشيوعية، فلقد كان يقضي الوقت وجلّه صحبة عمر أوزقان المائل إلى الحدة في التفكير والتغليظ بأيمان السقوط للآلة الإستعمارية فقط إن جاوز الجزائريون وضعهم الطبقي بقاعدة صناعية ثابتة وحيث لا يمر التحرير الشامل إلا بتحرير الذات من عقباتها وهذه العملية شبّهها أوزقان بتعبيره ''إن من لا يقدر على صناعة إبرة، لا يقدر على امتلاك مصيره بيده''.. لم تنفك الظاهرة الاستعمارية من تجديد وسائلها وتغيير أساليبها والمضي قدما في الاحتقار واللاّمبالاة والدسيسة وما قام به اللفيف الأجنبي في سطيف، المة، خراطة، أسفر عن الحقيقة، الحقيقة التي ستصير مرتكزا في العمل الإعلامي الذي تجشم هنري علاق ورفاقه عناءاته المضنية بلا كلل أو اغفاءة عين... أية إغفاءة وهناء لمن عاش حادثة الميلك بار، وموت موريس أدان تحت التعذيب ومقتل علي بومنجل ''منتحرا'' بأمر من الإرهابي أوساريس.. ثم كيف لا يصبر عاشق على معشوقته مدينة الجزائر بسلسلتها اللاّمتناهية من السلالم تختفي تحت أقبية تنبعث منها رائحة السردين المشوي وشراب الآنيس ...