قال البروفيسور موريس فايس، مؤرخ فرنسي متخصص في السياسات الأجنبية وملف الدفاع، أثناء إلقائه محاضرة بالمعرض الدولي للكتاب ظهيرة أول أمس، إن مفاوضات إيفيان لم تكن “معاهدة" بل “إتفاقية" بعد جولات عسيرة. الضيف استعرض كتابه حول إتفاقيات إيفيان، وأكد أن شارل ديغول ظل متمسكا بعدم اعترافه بالحكومة الجزائرية المؤقتة، كونها لا تمثل كل أطياف المجتمع الجزائري آنذاك، إلا أنه عجل بحدوثها متجاهلا انتقادات الجيش الفرنسي. عنون موريس فايس كتابه الصادر عن دار “عالم الأفكار" الجزائرية، بمناسبة “سيلا 17" ب “نحو السلم في الجزائر، مفاوضات إيفيان في الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي"، وهو بمثابة “وثيقة تقدم مجموعة من الوثائق الأرشيفية لمن يريد البحث من الفرنسيين والجزائريين.. وبالتالي فكتابي ليس عملا تاريخيا"، يقول ضيف الصالون، العائد إلى الجزائر مسقط رأسه. الكتاب ضخم يتجاوز 500 صفحة، يغطي الفترة التاريخية الممتدة بين 15 جانفي 1961 إلى 29 جوان 1962، على ضوء أوراق رسمية وغير رسمية فرنسية بالدرجة الأولى. وهي عبارة عن حوارات ونقاشات دونت في محاضر اجتماع سجلهما الوفدين طيلة لقائهما: “من خلال قراءة هذه المحاضر نشعر كم كان الضغط كبيرا بين الطرفين، وثقل المشاكل المطروحة بين الجلسات، خاصة مع استمرار المواجهة في الميدان.." يردف فايس الذي أكد أن كل هذه الوثائق لا تعكس كل مراحل المفاوضات، نظرا لاختفاء بعض المحاضر لأسباب غير معروفة، أو لبقاء بعض اللقاءات سرية للغاية، كما هو الحال لسنة 1959 والتي يريد فايس التدقيق فيما حصل فيها. يجزم المؤرخ أن أول صعوبة كبرى واجهت المفاوضات هي عدم اعتراف الحكومة الفرنسية ومن ورائها ديغول بالحكومة الجزائرية المؤقتة، مشيرا إلى أن “محاولات التفاوض لم تبدأ في 61 بل قبلها في 55 - 56، لكنها بدأت بعد أن قرر ديغول استفتاء الشعب في 61". -وحسبه دائما- ديغول تجاهل انتقادات العسكر، رغم أحكامهم القبضة على الثوار في الجزائر: “كان يعلم أنه فوت فرصة القضاء عليهم، لكنه كان مشغولا بفكرة وضع فرنسا على سكة العصرنة والتقدم التكنولوجي، بعد أن سجلت الحرب عبءا اقتصاديا كبيرا على الخزينة الباريسية". أسئلة كثيرة اختمرت في ذهن المستعمر، حسب الباحث الفرنسي، أولها مع من نتفاوض؟ إذ كانت فرنسا أمام خيارات عدة للجلوس إليها، بدءا بثوار الداخل الذين دعاهم ديغول إلى وضع السلاح في 23 أكتوبر 58، وقد لقيت الدعوة رفضا قاطعا من قبلهم، دفع الرئيس الفرنسي إلى الاعتراف بشجاعتهم. وقد أفضى هذا الاجتماع إلى آخر في 10 جوان 60 بين ديغول وقادة الولايات في الإليزيه. واصفا -المتحدث- هذه اللقاءات ب “الفرص الضائعة". جدير بالذكر أن هذا اللقاء اتبع بتصفيات جسدية لعدد من القادة، مثل قضية سي صالح، التي قال بشأنها غاي بارمينيي شهر مارس الماضي إن الرجل تمت تصفيته من قبل إما مصالح فرنسية خاصة أو جيش التحرير الوطني. الطرف الثالث القابل للتفاوض -حسب الباحث- كانت المنظمة الخارجية لجبهة التحرير الوطني. والرابع هي الحركة الوطنية الجزائرية التابعة لمصالي الحاج، وقد رفضت الجبهة بشدة إشراك هذه المجموعة في التفاوض، بينما ظل ديغول متمسكا بإدخال أطراف أخرى غير الجبهة، رغبة منه في توفير ممثلين لكل أطياف المجتمع الجزائري آنذاك. يقول فايس، إنه في غياب “القوة الثالثة" التي بحث عنها ديغول للتفاوض، نجحت جبهة التحرير الوطني في فرض نفسها كممثل حصري وشرعي للشعب الجزائري “وكان هذا أول مشكل" في مسار المفاوضات: “في 4 نوفمبر 60 رفض ديغول الاعتراف بجبهة التحرير الوطني كمتفاوض وحيد". العقبة الثانية في طريق التفاوض كانت حول سؤال أين نتفاوض؟ “بالنسبة لديغول يستحيل التفاوض خارج فرنسا، لأن الجزائر شأن داخلي". وعن أشكال كيف نتفاوض؟ أكد فايس أن الحذر الشديد كان سيد الموقف بين الطرفين، إذ لا يمكن التفاوض قبل وقف إطلاق النار، الانتخاب الحر حسب المعادلة الديغولية التي رفضها الجزائريون من جهتهم. قال المؤرخ، في معرض حديثه، “إن ديغول لم يكن حرا ليفعل ما يشاء في فرنسا، لم يكن مستعدا للتخلي على جزء من تركيبة التشكيلات السياسية في جمهوريته، لهذا طلب من الشعب رأيه"، ولهذا أشرك أيضا شخصيات مثل روبير بيرو ممثل الحركة الديمقراطية وآخر من الجبهة الشعبية إلى جانب المفاوضين الرئيسيين لوي جوكس وزير الخارجية وبرنار بريكور مستشار ديغول للشؤون الجزائرية. أكد فايس أن المتفاوضين التزموا السرية في عملهم “كان لا بد من تجنب عيون الصحافة وتهديدات المنظمة المسلحة السرية.. لم يكن يحق للطرف الفرنسي التصريح بوجهات تنقلهم ولا بمكان تواجدهم.."، يؤكد ذات المؤلف. فقد شاءت الظروف أن يتواجد الطرفان في مكان واحد، تبادلوا فيه المأكل والمشرب، وقد نسجت بينهم مشاعر الود، “إلا أنهم لم يصافحوا بعضهم البعض إلا عندما أعلن عن مضمون الاتفاق نهائيا"، وقد تخلل التفاوض ساعات من فقد الأعصاب، كما حدث لجوكس، الرجل المعروف بهدوئه ورزانته -حسب فايس- حينما اصطدم بمواقف الوفد الجزائري المكررة والمصرة على الوحدة الترابية (وفق مؤتمر الصومام). مشكلة الصحراء في نظر فايس، وحسب الوثائق، ارتطمت باعتقاد فرنسا أن الصحراء الجزائرية أرض مفتوحة قابلة للاستغلال من قبل أكثر من بلد، بما فيها المغرب والمالي والنيجر، متحججة بجهودها في اكتشاف البترول والتجارب النووية أيضا. ما عطل المفاوضات مرة أخرى. إلى أن قرر ديغول رفع الرهن، مشترطا ضمان الشراكة والتعاون بين البلدين: “في نهاية المطاف في 18 مارس 62 رغم اتفاق الطرفان على الملامح التقنية، إلا أن الحذر ظل شديدا، وقد رفض كريم بلقاسم الإمضاء على أي وثيقة، إلا بعد إعادة قراءة كل الإتفاقية بصفحاتها 96، والتوقيع على كل الصفحات، فيما ظل الجميع يترقب النتائج إلى غاية منتصف نهار 19 مارس 62"، يقول فايس في سرده لمجرى الأحداث.