يسجل فيلم “أن تكون في العشرين بالأوراس" للمخرج الفرنسي المخضرم روني فوتييه، إقبالا جماهيريا ملحوظا في قاعات السينما بفرنسا، بعد صدور النسخة الرقمية لهذا العمل التاريخي الذي أنتج عام 1972 وحاز على جائزة النقد بمهرجان كان لنفس السنة، إلا أنه أبقي بعيدا عن الأضواء بسبب جرأة مضمونه وطعنه في مطامع فرنسا الاستعمارية. صدرت النسخة الرقمية لهذا الفيلم التاريخي في الثالث أكتوبر 2012، أرفقت بحملة إعلامية وإعلانية من قبل المهتمين بالفن السابع عموما، وخاصة الأفلام الوثائقية التي أخذت في السنوات العشر الأخيرة حيزا كبيرا من اهتمام النقاد والجمهور على حد سواء. زمن إصدار هذه النسخة أيضا، يتوافق والذكرى الخمسين “لنهاية الحرب في الجزائر"، على حد تعبير وسائل الإعلام الفرنسية، وهي المناسبة التي اغتنمتها جمعية “سيني ديبا" لتضع فعالية شهر الفيلم الوثائقي المصادفة لنوفمبر الجاري، لتسلط الضوء على فيلم فوتييه، تناقشه رفقة الحضور وصاحب الفكرة المعروف بمساندته للثورة الجزائرية ومعارضته للنظام الفرنسي الاستعماري آنذاك. «أن تكون في العشرين بالأوراس" سؤال طرحه المخرج على نفسه، عقب تجربة ميدانية في جبال الجزائر رفقة الثوار، ولكن هذه المرة انتقل الى المعسكر الثاني، حيث ملايين المجندين الشباب الفرنسي، وجدوا أنفسهم مرغمين على خوض حرب غير مجدية في نظرهم، وهي الرؤية التي ستكلف روني الكثير، بدء من تمويل مشروعه وصولا إلى عرضه في القاعات. تدور أحداث هذا الوثائقي في أفريل 61 على الحدود الجزائرية التونسية، وعلى طول السلسلة الجبلية الأوراس، حيث نزلت فرقة كومندوس لمواجهة جيش التحرير الوطني، أسرت إثرها مجاهدا جزائريا. في الطرف الثاني من المعسكر، جندي فرنسي يرقد مجروحا، هو في الأصل معلم، يتذكر معارضته وأصدقائه لمنطق الحرب والقتال، والمعاناة الطويلة التي تكبدوها في الأشهر الأخيرة. وكيف أن موقفه من الحرب كلفه الحبس في مخيم مخصص للمتمردين أمثاله، وضعوا تحت ضغوط كومندوس، قصد تحويلهم إلى آلات حرب. كتلة من المشاعر والأفكار المناهضة للاستعمار، صورها فوتييه في شكل وثائقي، قائم على شهادات حية لعديد المجندين في الجزائر. ولبناء الأحداث اعتمد المخرج على وجوه فنية ناشئة آنذاك على غرار أليكسندر أركادي (في دور نُوَال)، فيليب ليوتار (في دور الملازم بيران)، جون ميشال ريبس وحميد جلولي (في دور يوسف). استفاد المخرج الملتزم من دعم المركز الوطني للسينما، لكنه بسيط لم يغطِ تكلفة شهرين من العمل المتواصل، لهذا اضطر المخرج إلى الاستغناء عن كاتب السيناريو، وأن يوجه الممثلين نحو الفكرة العامة، معتمدا على ارتجاليتهم وموقفهم تجاه وضعية شبيهة، ما سمح بإتمام المشروع في عشرة أيام فقط. أما التركيب فكان سريعا، لم يقنع صاحبه بقيمته الجمالية والتقنية، إلا أن المفاجأة جاءت من مهرجان “كان" الذي رشح العمل لأحد جوائزه فمنحه جائزة النقد، لم يتسلمها فوتييه لتواجده بالجزائر. تأثر الوثائقي بأحداث راهنة في بداية السبعينيات، منها تفجير أحد القاعات الباريسية، ما لفت انتباه السلطة إلى مضامين بعض الأعمال السينمائية التي كانت جريئة ومباشرة، لتبدأ معاناة فوتييه في إيصال فيلمه إلى الجمهور، ومواجهة قاعات أغلقها مسؤولوها في وجهه، علما أن روني أضرب في 1973 عن الطعام، تنديدا منه بلجنة المراقبة السينمائية، وقد أفلح في إلغائها نهائيا، مسديا بذلك خدمة لأقرانه من الجيل السينمائي القادم. فقد كان فوتييه معنيا بهذه اللجنة، لأن أفلامه تسلط الضوء على الاستعمار وآثاره الوخيمة على الشعوب، الكوارث البيئية التي أحدثتها باخرة أموكو كاديز سنة 78. أربعون سنة بعد صدوره، يعود الفيلم إلى القاعات المظلمة، في نسخة جديدة حديثة. هل هي بداية جديدة لهذا الفيلم القديم الجديد؟ يجيب فوتييه في أحد حواراته قائلا: “نعم اعتقد ذلك. الفيلم مازال يثير الحدث. صحيح أني عجوز، لكني سعدت برؤية جيل شاب أظهر إرادة ورغبة في أخذ العمل ومنحه حياة ثانية، خاصة إذا علمنا أن الفيلم خرج في ظرف عسير، وأن مخرجه كافح من أجل أن يبقى هذا العمل ويعرض على أكبر قدر من المشاهدين".