ملك ناصية البلد كله، كان الوحيد من بين الرؤساء المتعاقبين من استطاعوا وقدر لهم في السلطة أيما قدرة، كان شبحا في كل مكان ومنه يأتي، وجه نحيف مصقول، صوت خطابي جهوري سلس، لغة عربية متحكم في نبرتها ونترتها كان يقول يا إخوان، إخواني، أخواتي... كان يقول في كل شيء، فكرة، شعار، خطة، ثورة، وثورة، عاشه الناس هذا الهواري بومدين رابطين مصائرهم به، معه اقتسموا الرفعة والإباء، كراهية الضّيم والعدوان، وحب البيت الجزائري ما استطاعوا نحوه سبيلا أو معبرا، ثم أيضا هو علّمهم حب الله وكره الأصنام زلفى!! إن الهواري بمنبته ومنزعه علم الجزائريين قيما وفضائل سرعان ما راحوا ينسونها وينسون مقامها، والأمر يتعلق برمزيتها وإيحاءاتها، فن التشبت بالأرض، مناهضة الاستغلال، النفرة من الإقطاع والاقطاعيين، كانت تلك توابل المراحلة وفلفل الكلام السياسي، يومها، يومه وهو الرئيس الذي عمّر بيوت الجزائريين وأقام بين أضلعهم وجوانحهم ما احتاج القوم إلا إلى هذا، أي الكلام الأقل، المفردة الحانية، الطوبى الثورية، والاستبشار بغد ماثل يكون نسخة نقية من نقاوات ماركس ولينين وإنجلز.. هي أطياف بومدين الديسمبرية تعود، وليس في ذلك امتداح للقسوة واستعارة لأمجاد زمن الكلم، زمن البرنوس والأصابع والملوحة والهدير الصوتي، بل هي الحقبة السوفياتية وصنائعها في الخارج فما كانت إلا أن تعبئ الداخل برنات الاشتراكية العلمية والنموذج الاجتماعي الأصيل.. لوضع الصورة في الإطار عن بومدين يجد الواحد من جيلنا نفسه محبوسا في قفص من أقفاص التذكر، انثيالات مشهد تلفزيوني، تلميحات فوتوغرافية، شذرات معلومات عنه، أي لم تكتب هذه السيرة البومدينية مكملة موثقة جامعة إلا في الأدب الإعلامي العابر والاجتهاد الفردي الخالص، بل إن حتى ذلك شابته هنات وجوامع أخطاء صغيرة أو كبيرة، وهي إشارة دائمة التذكير عندنا إن تعلق الأمر دوما بالبيبيوغرافيات والأوتوبيوغرافيات التي تتناول حياة وموت العظماء والأعلام، الكبار منهم والصغار.. إن محمد بوخروبة، هو ابن بلدة هيليو بوليس من منطقة “المة"، ولد عام الحيف والبؤس، أول الثلاثينيات حيث الخماسين ومصارعي الموت من أجل فطير وركوة قهوة، العائلة فقيرة والأب خماس، الأولاد سبعة جامعهم الشظف ورزء الحال، درس في الابتدائية الفرنسية، وما بلغ الرابعة عشرة حتى نبغ في عربية سليقة خولته شدّ الرّحال إلى الزيتونة ثم إلى الأزهر الشريف.. وبادئ البدء أن للراحل ميزة التكوين المعرّب الأصالي والتعليم المشرقي الأزهري، ميزة قربته بالجو الإسلامي القومي الذي كان أخذ في التعاظم في السبعينيات، فترة حكمه الذهبية، وليكن ذلك الحكم الذي انشغف به حد المرض والهيام ليس مأتاه إلا ثقافة عربية كفاحية مناوئة وأخرى ذات وجهة تضامنية اجتماعوية فخورة بمدها العالمي وهيمنتها على جزء من العالم، ثم نزعة باطنية في التملك السلطوي ومفاتنها الرياسية، إنها المأتى والخلفية لهذا القادم على ظهر مركب صغير يحمل شحنة سلاح مصرية، ليكون الرسو على شاطئ وهراني، ثم الحكاية والخبر عن مجموعة وجدة التي عرفت بميلاد العصاباتية المسلحة.. لرجل هكذا ينشأ، تتراكم فيه مرجعيات شتى وتطيش بباله خيالات جموحة سيبدأ من الكنية، من الرسم لا الاسم، الهواري بومدين يوشح اسمه وهالته بالولي الصالح من تلمسان مهبط الصوفية والفكر العرفاني، قائد الولاية الخامسة، قائد أركان جيش التحرير في تونس، يتقدم، يتقدم نحو الزهد في كل شيء، إلا أن يكون الأمير الآمر، رئيس الجزائريات الماجدات ببطولاتهن ورئيس الأشاوس المغاوير بأرض قوامها وقومتها آلاف مؤلفة من الشهداء.. في مخيال جيلنا نتف وأشياء مبسطة عنه، أي عن انقلابه ذات يونيو، جوان، من يومه التاسع عشر عام 1965، لقد أدركنا سادة القوم هؤلاء بالتغييب الممأسس، فوقت الشاذلي ما حضر الهواري إلا في زعامته العثمانية، الشنبات المعقوفة، النظرة المحدقة كنظرة ستالين، الوقفة الهيابة والغليون. بومدين في غليونه الأسمر كان راهبا يتلو صوات الثورة ويستذكر المآثر ويشيد بعظائم الأمور تلك التي تقوم بها مصالحه الخاصة، ورجالاته الرقباء المستأمنين على التفاصيل، باقي التفاصيل، المعارك ضد المخزن المغربي ومناوراته في الرمل والبحر، ضد الطاهر الزبيري وشركاؤه في العفرون وجوار العفرون، تصفية البن بليزم ريحته وريحه، فإن بن بلة مدبلجا في ضمير الشعب - تحت السطوة البومدينية - رجل غوغائي قام أسلوبه على المركزة والديماغوجيا وشطارة الكلام الذاهب إلى عنان السماء فيما هو يخلف الكذب والصدى الكئيب، شيخوخة المسؤولين، فساد طبقة الأمناء العاميين، تضعضع الجهاز الإنتاجي، واهتراء القيم، ولذلك قام هذا الحكم الرشيد الماسك بمجلس الثورة، الباحث عن أطروحة جديدة تنأى من أن تكون مجرد انقلاب عاثر استخدم الكمّاشة العسكرية ودوي الأحذية الخشنة، وسعت المقاربة البومدينية من طموحاتها في التحديث والبناء المدني مباعدة بينها وبين حفنة المتمركسين الذين تركهم بن بلة يعيشون في المواقع والمقامات، بمقياس تلك الحقبة، فإن الهواري متعلم له من نصيب ثقافة الدولة وأدبيات النهوض ما يذكر فلا ينسى، بناء مفاهيم جديدة رابطها العلاقة المواطنية / الدولتية، استكمال الاستقلال السياسي بآخر ثقافي، إنهاض الثروات الوطنية - في المواد والبشر - إطلاق مشروع الثورات، زراعية، صناعية، ثقافية، يقول محقّقون استراتيجيون في تحليل الواقع التاريخي الجزائري ضمن الحقبة الأبرز، وهي حقبة بومدين، أن البومدينية انتهت غداة مولدها، ساقطة في شعاراتها المستحيلة، وتأليفاتها الخطابية وأفكارها الميتة المستقاة من هجنة هذا ودشداشة ذاك ولكنة أولئكم أساتذة المشرق، الذين عمد بهم بومدين إلى التصحيح الثقافي عبر تعريب شرس ظالم لم يؤدّ إلا إلى انكفاء الطبقة المتعلمة وهامشيتها، فيما حافظت دوائر التكوين الثقافي الفرنسي على امتيازاتها وحظوظها في المنصب والمغنم، أردنا تعريبا راديكاليا من الجذور، إداري فوقي فإذا نحن أمام هوس فظيع بمباهج اللسان الفرنسي واللّثغ بنشيد المارسييز، ثم كانت الإصلاحات الزراعية على شكل ثورة ضد الإقطاع والملكيات المسروقة بإنزال الشبان إلى الأرض لتعليم الفلاحين أبجديات العمل الزراعي التقدمي، وما في ذلك عجب من أن يفرغ لذلك فئات منضوية إلى الحزب الشيوعي الجزائري فهم الأكثر انسجاما وتواؤما مع الفكرة المهيمنة وقتذاك، ولكن لا سنة العمل سمحت ولا القيم سمحت، ولا التكوين التقليدي المحافظ للفلاحين الجزائريين تسمح، فانجلت المراهنة على القرية الاشتراكية مراهنة خطيرة المنحى، وهي الترييف الممأسس للمدينة على ما شهدته وتشهده أرياف الإسمنت المجسم في مدن الجزائر ووهران وقسنطينة وعنابة. لقد قام على الجبهة الصناعية واحد من أوفياء بومدين الخلّص وهو بلعيد عبد السلام بهندسة الرؤية الإشتراكية وتصريفها على مصرف غريب سمي بالصناعات المصنعة، الحديد والصلب وما شابههما ولعبقري كبلعيد عبد السلام أن بلدا قويا مستقلا جاء من ثورة عظمى يستحق عظمة صناعية ولم يسأل يومها رواد الصناعات المصنعة وضاربي الدف على المشروع عن “الإنسان القوي"، “الرشيد"، “الروحي"، “الأخلاقي" هل استكمل بناؤه أم أن المفخرة في زيف حالها أن يكون لنا المصنع الكبير والملعب الأولمبي والسّد الضخم فيما نحن مجبولون جبلة العصابيين بالألقاب حتى نفشل في إدارة مقابلة محلية في ملعب بولوغين، لقد ضخم بومدين الأساسات والهياكل حتى تزيد عليه فرديته سؤددا ورفعة فيما هو على الأرض لم يسأل عن بني قومه وعشيرته الأقربين عن الأقليات المستنفذة التي خلفت وراءها وخيم التركة ووبال الأمر مبتعثا البن بليزم على الوجه الأبلغ، “استمرار التصفيات، هجرة النخب، الانقسام الاجتماعي، اللاّتراتب الطبقي، تهدم البنى الإقتصادية، التحول القسري نحو رأسملة كمبرادوية عولمية بلا تخطيط أو رويّة". عاصر بومدين عبد الناصر وجوزيف بروزتيتو ونهرو، وعاصر صدام حسين وشاه إيران وجيسكار ديستان وكارتر وبيغن والسادات وطيلة عشرية وتزيد موّارة دوّارة بالحدث ومفاعيله، لم يكن هو نكرة من النكرات بل كان له من الضوء والمحبة والفانتازم الغربي ما يكفي كي يزيد العاشق في الافتتان بنفسه وتعشق مراياه، ولا مفاصلة ولا مشاطرة للقول إن مع بومدين العائد من مؤتمر الصمود والتصدي بدمشق ثم شبهة الفالندنشتروم المقرون برحلة موسكو، أن معه مرايا كثيرة يرى نفسه فيها ويرانا، السلطة والعسكر، العالمثالثية والطموح البعيد، العروبة وأحلامها، الجزائر التي تكابر الأحذية والسكاكين والدبابات، كان الهواري يقشر بأصبعه طلاء العربات العسكرية كي يفحص قدم وحداثة السلاح المباع للجزائريين، يروي عنه عبد المجيد علاهم الرواية التالية “إن آخر خطوة خطاها الهواري نازلا من آخر طيارة ركبها، لم يقل إلا هذا، متشمّما هواء بلادنا الساحرة، آه.. ريحة لبلاد..". a_maouchi@live. Com