يشعر الإنسان بمرارة شديدة، أحيانا، تجاه ما يقع حوله وفي مؤسسته أو في حزبه وفي بلده، فيحاول تغيير ما يستطيع تغييره، وقد ينجح في ذلك حينا ويفشل أحيانا. وفي كل الحالات، فإن ذوي العزيمة والإرادة الفولاذية لا يعرفون الفشل إطلاقا، إذ يحاولون مرة بعد مرة إلى أن يتمكنوا من النجاح وكسر شوكة الفشل وإحداث التغيير المطلوب، أما اليائسون فيستسلمون لليأس والقنوط ويركنون للأمر الواقع ويتخلون عن أحلامهم ومشاريعهم وخططهم المستقبلية. في علم السياسة لا حدود للاممكن، بل إن كل شيء قد يصبح ممكنا فيها، فالسياسة ليست علما دقيقا بحد ذاته ولكنها ليست ارتجالا وشعوذة أيضا، بل هي علم يحتمل الخطأ مثلما يحتمل الصواب. ارتبطت السياسة منذ القدم بالسلطة وكانت القوة هي العلاقة الجدلية بينهما بعد أن عززتها سلطة المال وسلطة الدين وحتى سلطة الجنس. وكانت هذه السلط تخفت أحيانا بل وتنتفي تماما في ظل هذا النظام، لتبرز في ظل نظام آخر، مثلما تعود واحدة منها أو بعضها وربما هذه السلط جميعها في واحد من الأنظمة بعد ضمور واختفاء قد يكون طويلا. ولعل السياسي المحنك، وخاصة من يتولى دفة المواقع الأمامية في أية مسؤولية، كان هو الذي ينظر باستمرار للمستقبل بعين فاحصة مدققة وببراغماتية، ويعتمد في تحديد معالم هذا المستقبل على مجموعة من الرؤى والتصوارت الواقعية والتحاليل، سواء كانت من بنات أفكاره بعد أن يتركها لذوي الخبرة والاختصاص، وكذا الأفكار والدراسات والتحاليل التي تضعها له مجموعة من الرجالات والنساء ذوي الكفاءة والخبرة الذين يتم انتقاؤهم كمستشارين له وفق مقاييس موضوعية خالية من الولاءات والنظرة المصلحية الضيقة التي تحصر دائرة التفكير في مجموعة من الانتهازيين والانتفاعيين الذين يحيطون بهذا المسؤول أو ذاك ولا يريدون سوى التموقع المغشوش فيزينون للمسؤول كل شيء حتى يعمى عن الحقيقة ويصبح أسير فكر الجماعة المحيطة به والتي عادة لا تفكر سوى في خدمة مصالحها الضيقة. ولذلك فإن هذه المجموعة قد تتخلى عن هذا المسؤول أو ذاك بمجرد أن تشعر باهتزاز موقعه من جهة أو تضرر مصالحها من جهة أخرى، وهذه المجموعة، نجدها في الغالب لا تفكر إطلاقا في المؤسسة التي تنتمي إليها ولا في الوطن ولا في الشخص الذي أوكل لها تلك المهام. يقول ألبرت اينشتاين في هذا الشأن: “إنني أهتم بالمستقبل لأنني أنظر إليه". أما الذين لا يهتمون بالمستقبل ولا ينظرون إليه بعين مدققة ولا تهمهم سوى مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العليا للوطن، بما فيه عامل أمن واستقرار الوطن ومصالح الناس الذين وضعوا ثقتهم فيهم وكذا المؤسسة التي يديرونها، وعادة ما ينتهي مسارهم نهاية مؤسفة، خصوصا إذا أصموا آذانهم عن سماع النصيحة وعدم الأخذ برأي أصحاب الفكر وذوي الخبرة والتجربة ومن المنزهين عن المآرب والمصالح الضيقة. الأكيد، أن العديد من الناس باتوا يتساءلون، داخل الوطن وخارج حدوده، عما يجري في الأفلان من حراك غير طبيعي، بل وأزمة حادة مركبة باتت تهز حزب الأفلان وتؤثر على شعبيته وتماسكه السياسي، وعلى مساره ومستقبله. فما الذي أصاب الحزب العتيد الذي حرر الوطن وساهم في بناء الدولة الوطنية وإرساء الديمقراطية بالشكل الذي هي عليه والساعي للتحضير إلى المستقبل، بل ما الذي جعل هذا الحزب الذي كان صمام أمان للاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني وصمام أمان لاستقرار المؤسسات وتماسك المجتمع وخزانا لرجالات الوطنية ورجالات الدولة والسياسة والتسيير، بل وحزبا يسهر على محاربة الفساد المتعدد بما فيه الفساد المالي والرشوة واستخدام النفوذ، يتحول اليوم، خصوصا في ظل هذه الأوضاع البالغة الخطورة التي تحيط بالبلد، إلى عنصر لا استقرار للحياة السياسية. هل الأمر يتعلق بأطماع شخصية وبلوبيات وبحسابات سياسية تدخل في إطار رئاسيات 2014، أم أن المسألة أبعد من ذلك وأخطر، وأنها تريد تعفين الوضع انتقاما من بعض المؤسسات بدعوى أنها حالت دون تحقيق طموحات سابقة من كرسي الرئاسة ولو لفترة انتقالية في 1992، عندما كاد البلد يغرق في أزمة حادة متعددة الجوانب وقد تم إنقاذه بفضل تماسك تلك المؤسسات؟ لقد تنبأتُ، مسبقا، في مطلع 2010، خصوصا في أعقاب المؤتمر الأخير للحزب وتشكيلة المكتب السياسي، بالمخاطر التي قد يعرفها الحزب، لاحقا، ورسمت آنذاك في رسالة قاسية وجهتها للسيد بلخادم الذي كانت تربطني به أوشج العلاقات وأطيبها كما كنت أتوهم الخطوط العريضة لملامح وسناريوهات هذه المرحلة، كما نعيشها اليوم. كان مما قلته للرجل ناصحا، أن يغير تشكيلة المكتب السياسي لأنني كنت خائفا على مستقبل الحزب من أن تعمل المجموعة التي أحاطها به على تكسير كل الطاقات الحية والكفؤة في الحزب وتبعدها عن مواقع المسؤولية وتهمشها وتعمل على تفشي الفساد المالي والأخلاقي. مثلما كان موقفي ينصب على ضرورة القيام بعملية جراحية عميقة داخل مختلف هياكل الحزب، بما في ذلك القواعد التي مسها، لأول مرة في تاريخ الحزب، مرض كانت أعراضه آخذة في الانتشار دونما معالجة. كانت المشاكل والأزمات، في السابق، تقع على مستوى القيادات المركزية للحزب، وكانت تلك الأزمات لا تتسرب إلى القواعد التي ترتبط بالشعب ارتباطا وثيقا، لذلك لم يفقد الشعب وقتها الثقة في الحزب، بل كان يعود إليه خصوصا بعد تجربة التسعينيات التي أدخلت الجزائر في حمام من الدماء. أما الآن، وبعد أن استشرى الفساد المالي، خصوصا في الاستحقاقات، وصار الحزب يستورد من هب ودب وخاصة بعض أصحاب المال الذين لا علاقة لهم بالنضال، وصار هؤلاء أصحاب حل وعقد يقصون خيرة المناضلين وأكفأهم، فإن شعبية الحزب بدأت في الانحدار وصار الوعاء الانتخابي يتعرض لنزيف دائم. ومع كل احترامي لكل من بوأهم الأمين العام السابق قيادة الحزب، فإنني كنت أرى أن السناريو القادم سيدخل الحزب في صراع مرير وها هي الأحداث، اليوم، تثبت وقوعه في الميدان للأسف بشكل سافر ومقرف بات يهدد مستقبل الحزب وينذر بحدوث مؤشرات خطيرة على الاستقرار العام في البلاد إذا لم يتدارك قياديو الحزب الأمر ويفوتوا الفرصة على صيادي المناصب والباحثين عن المال الفاسد. لقد تمنى القياديون الأصلاء في حزب جبهة التحرير الوطني أن تكون الدورة الأخيرة للجنة المركزية دورة الاحتكام لمنطق العقل، بعد أن نطق الصندوق بنزع الثقة من بلخادم بفارق أربعة أصوات. صحيح قد لا يشعر أحد مثلي بمدى المرارة والحسرة التي أشعر بها شخصيا على النهاية السياسية التي انتهى إليها الأمين العام السابق للأفلان، الذي كان عليه أن يكون أحرص الناس على الصندوق، فالرجل كان يبدو للعديد من رجال ونساء الجبهة، خاصة لمن لم يحتكوا به عن قرب بما فيهم كاتب هذا المقال مثالا في صدق القول والعمل ونظافة اليد، لكن خيبة الأمل التي كنا نتلقاها ميدانيا وخصوصا منذ الانقلاب الذي حدث على الممارسة داخل الأفلان في أعقاب المؤتمر الأخير، جعلتني أرفع إلى جانب العديد من المناضلين أصواتنا لوقف الانحراف الذي بدأ يلوح في الأفق. ويشهد الله وعدد من المسؤولين الذين اتصلت بهم في مختلف المؤسسات وكذا الإخوة المناضلين القياديين الذين ظلوا يجتمعون معي في بيتي بعد المؤتمر مباشرة، أننا نبهنا إلى المخاطر التي كنا نراها قادمة لتعصف بالحزب العتيد. ولكي أكون صادقا مع نفسي ونضالاتي، فقد قمت قبل ذلك بتوجيه النصيحة للأمين العام وكاتبته في الموضوع حتى كادت علاقتنا تتوتر، لأن النصح أحيانا قد يُفهم للأسف من البعض على أنه تجاوز للحدود واللياقة وتدخل في الصلاحيات. ثم إنني كنت أول من بادر بعد استشارة بلخادم، إلى القيام بجولات ماراتونية إلى بيت القيادي الأفلاني والمجاهد صالح ڤوجيل صحبة عدد من الرفقاء من بينهم السعيد بدعيدة وعمر الوزاني، شفاه الله، ومناضلين آخرين، لرأب الصدع بعد ظهور ما عرف بحركة التأصيل والتقويم التي قادها في بداية الأمر سي ڤوجيل قبل أن تؤول إلى عبادة. واليوم وبعد أن اهترأت مختلف قواعد الحزب بفعل إعادة الهيكلة المغشوشة، ووصلت الأزمة إلى ذروتها، خصوصا بعد المجزرة التي ارتكبت في حق خيرة مناضلي الحزب في الانتخابات التشريعية والمحلية الأخيرة وما بات يعرف بتفشي المال الفاسد في مختلف الاستحقاقات وحجب الثقة عن الأمين العام السابق والمحاولات الرامية للالتفاف على شرعية الصندوق، بل وحالات التأزيم التي يدفع لها البعض بإيعاز مباشر من بلخادم نفسه، فإنه حري بنا أن نقول للرجل بكل روح نضالية وأخوية: يا أخانا بلخادم ليس هذا هو النضال الذي كنت تتحدث عنه، وقد كنتُ شخصيا منذ بوأك عدد من المناضلين على رأس الحركة التصحيحية في لقاء الجلفة في 2003 وانتخابك أمينا عاما للحزب منذ المؤتمر الثامن الجامع أحد الذين يضعون لك معظم خطابات. إن كنت يا أخي بلخادم تؤمن بوحدة الأفلان وقوته وتماسك قيادته ودوره في مستقبل الحياة السياسية وفي الحفاظ على استقرار الجزائر وعزتها - وقد كنتَ تقول ذلك أمام الجميع منذ المؤتمر الجامع - فدع طموحاتك الشخصية جانبا ودع الحزب لمناضليه بعد أن نزعوا منك الثقة عبر الصندوق الذي تزعم بأنك تؤمن به وتدافع عنه. محمد بوعزارة كاتب صحفي وعضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته