لم يخطر على بال طالب مدرسة المعلمين، في عام 1927، حسن أحمد البنا، أن حلمه الذي أوجزه في ذات درس إنشاء بالمدرسة بالقول: “إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أمل خاص وأمل عام. فالخاص: هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. والعام: هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء وأقضي ليلي في تعليم الآباء أهداف دينهم ومنابع سعادتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة"... لم يخطر بباله حينها أن هذه الومضة من الحلم ستتحقق بشكل متجاوز لما تخيله، بعد تأسيسه لجماعة “الإخوان المسلمون" عام بعد درس الإنشاء هذا. فالجماعة التي أسسها البنا (ابن المأذون الشرعي والساعاتي) في عام 1928، لتكون أول نواة “لجماعة إسلامية، إصلاحية شاملة" -حسب وصفه- قد تجاوزت ذلك الحلم الصغير لتمتد جذورها إلى 72 دولة إسلامية “عربية" وغيرها.. وأضحت تتحكم في مصائر عدد من شعوب المنطقة العربية والإسلامية، من مصر إلى تركيا، إلى تونس، إلى المغرب وفي غيرها من البلدان، تمثل التنظيم الأكثر تأثيراً على المستوى القاعدي، كالأردن وفلسطين، الكويت وغيرها من البلدان. وبالرغم من أن “البنا" قد وضع ما يسمى ب “الأصول العشرين" التي ينبغي على التنظيمات الإخوانية في العالم فهم الإسلام ضمنها، فإن اختلاف التجارب السياسية والأوضاع الاجتماعية والثقافة من بلد لآخر قد جعل من تلك الأصول بمثابة “أهداف" ينبغي على الأحزاب والتنظيمات الإخوانية بذل الجهود لتحقيق ما تيسر منها. لذلك يمكن ملاحظة التباينات القائمة اليوم بين تجارب الإخوان في كل من الكويت، تونس، مصر، المغرب، السودان، فلسطين (غزة)، الجزائر وغيرها من الأقطار العربية والإسلامية، فلكل تنظيم وتجربة سياسية، خصوصية تختلف وفق ظروفه المكانية والزمانية، وإن كانت كل تلك التنظيمات في نهاية المطاف، تسعى إلى تحقيق هدف أسمى يتمثل في بعث “الخلافة الإسلامية" من جديد وذلك من خلال: “إصلاح وتكوين الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، ثم الحكومة الإسلامية، فالدولة فأستاذية العالم وفقاً للأسس الحضارية للإسلام" حسب ما تنص رسالة البنا مؤسس الجماعة. وسواء اختلفت أولويات الجماعة/ الجماعات، الإخوانية الآن أو بقت في حالها، فإن من المؤكد أن “الإخوان" يعيشون اليوم إحدى أسعد وأهم المراحل التاريخية لتنظيمهم الذي ظل بعيداً عن السلط في الغالب لأكثر من 80 عاماً مضت، في مصر، تونس، ليبيا، المغرب.. وغيرها من البلدان التي إما تحظر الجماعة، أو تعترف بها على استحياء كجزء من القوى المعارضة، باستثناء السودان الذي حكمه هذا التيار منذ عام 1989 والجزائر التي شاركت بعض الأحزاب المحسوبة على الجماعة في السلطة لأكثر من عقد ونيف. إلا أن الجماعة التي عاشت في الظل أو تحت الأرض، “وفق التعريف الشعبي" لثمانية عقود خاصة في كل من مصر وتونس، وفجأة وجدت نفسها أمام استحقاق سياسي غير محسوب، بعد انفجار ربيع الثورات العربية، بدت أنها غير محررة من أغلال الماضي، وأنها لا تزال تعمل بمبدأ “الولاء والطاعة" لقيادتها العليا المتمثلة في مجلس الإرشاد، حتى لو أصبح لديها “ذراعاً سياسية" كما في حالة مصر (حزب الحرية والعدالة). كما أن العامين الماضيين قد كشفا للرأي العام المصري والتونسي، بشكل واضح أن “الجماعة التي توصف بالأكثر تنظيماً وشعبية" لم تعد تهتم بالخدمات التي ظلت تقدمها للبسطاء من الشعب، بقدر اهتمامها بجني ثمار السلطة، وأضحت بشكل فج تدافع عن كل الممارسات والانتهاكات الفظيعة الموروثة من الأنظمة السابقة، عوض اجتثاث تلك الممارسات لصالح ممارسات منتمية للثورة والحرية. ولعل الحادثة الأخيرة في مصر والمتمثلة في “سحل المواطن حمادة صابر" أمام القصر الرئاسي كانت كاشفة تماما لسلوك الإخوان، ففي حين سارعت وزارة الداخلية للإعتذار ومحاسبة عناصر الشرطة المتورطين في حادثة السحل، راح أقطاب جماعة الإخوان يدافعون عن الفعل غير القانوني والأخلاقي، في مشهد يكشف عدم تحررهم من فعل الأحزاب الفاشيستية الحاكمة، “تماما كما كان يفعل الحزب الوطني المحل" وهو ما دفع البعض للإشارة إلى الآثار السيكولوجية والنفسية التي يعيشها المضطهد، وما أن يتجاوز التجربة حتى يعيد إنتاجها بطريقة أخرى، وهو تماماً ما يحدث الآن في مصر سواء على مستوى إدارة الدولة، وازدواج السلطة، فضلا عن تهديد المعارضين بالتصفية أو تغليب دولة الجماعة على دولة القانون. ولعل تصفية المعارض التونسي شكري بلعيد في ظل حكم حركة النهضة الإخوانية، أيضا ينذر بمستقبل مشوب بالخطر والتحديات. تبقى الفوارق الموضوعية مهمة في قراءة وإعادة تفكيك العلاقات القائمة بين التنظيم الأم وبقية الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تتبع منهج الإخوان في أكثر من دولة، كما لا يمكن تعميم الحالة على كل التنظيمات، حيث لكل تجرية خصوصية مختلفة، وظروف متباينة عن الأخرى.