أرخ أجدادنا، بعبقرية وحكمة، لأخبار الحمقى والمغفلين والمجانين والأذكياء والشعراء والحكماء والبخلاء وغيرهم، وهي سمة دالة على فهم متقدم للحياة وللأدب. أما نحن فما زلنا نعيش على منتوجهم الذي يعود إلى آلاف السنين، دون أن نقدر على تدوين حكاياتنا وحكايات حمقانا وبخلائنا من الساسة والمسؤولين، وهم كثيرون. وإذا حدث أن تمّ تسجيلها في يوم ما، فإنها ستحل محل المرجع القديم، أو تسهم في تقويته، بالمشابهة والمشاكلة والتجاوز. لا يمكن الزعم أبدا بأننا تخطينا العصور الشفهية من حيث إننا نضيع على الأجيال ما قد يحتاجون إليه لتقويم الذات، أو للإحاطة ببعض المسكوت عنه الذي ظل ينتقل من مرحلة إلى أخرى إلى الورق. لم ننتقل بعد إلى تدوين هذا الإرث، مكتفين بالشعر والسرد، نافين الأجناس الأخرى التي تتواتر على الألسن، من غير أن نجد لها مكانا ضمن كتاباتنا السردية والشعرية. لا بدّ أن جدنا الجاحظ كان واثقا من مقصدية كتاب البخلاء وجدواه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما اهتم هذا البلاغي الجليل بجرد أخبار هؤلاء على تلويناتها، مقدما عشرات الأمثلة التي لم تأت مصادفة، كما فعل الشيخ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي في مؤلفه الموسوم أخبار الحمقى والمغفلين. ليست النوادر والفكاهات مجرد ترف لتزجية الوقت، كما يمكن الاعتقاد خطأ، بقدر ما هي دروس وعبر لا يمكن الاستهانة بقيمتها، وتأريخ لحقب لها كيان مركب، وقد تعكس مستويات عدة متشابكة تدخل فيها الجوانب الاجتماعية والنفسية والدينية والسياسية والفلسفية، وهي، إذن، ضرورية لفهم نفوسنا وتقويمها بالنقد غير المباشر الذي يمكن أن يتجلى في أشكال مختلفة، ومتعددة الآثار والمصادر. ثمة اليوم ما يشبه الخلاء، سكوت يشبه الصحراء، رغم توفر المناخ المناسب لتتبع هذه الأخبار التي تعتبر قسما مهما من عصرنا المضحك، العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وتماهت فيه الحدود والمسافات، وأصبحت فيه اللغة غريبة، والوقائع سريالية، والثقافة ضررا. لا يوجد، من منظوري، عصر أتعس من هذا الذي نحن فيه، وهو يمدنا، دون أدنى شك، بالمواد الكافية لجعله مرجعا مهمّا، إمّا للحمق أو للتأتأة والبخل والعوج والتحايل والمنطق المقلوب كالبصل. كان هؤلاء الأجداد الميامين يقتفون الحياة وعلاماتها، وقد يجعلون من الحبة قبة لغاية تعليمية، أو لهدف لا علاقة له بالخبر في حدّ ذاته، لفرادته أو لغرابته، وفي إنيته، بل لفائدة ما، اجتماعية أو لغوية أو إصلاحية، مع ما يمكن أن تحمله من مضمرات سياسية وثقافية نستنبطها من الحكاية. قد يكون الخطأ دليلا على الضعف، على انعدام الكفاءة والمهارة، وهو مكلف في مقامات، ما يدلّ، في حالات كثيرة، على أن من يتولى شؤون الأمة ملزم بالمعرفة، وبالتفاصيل الضرورية التي تعكس صورة الحاكم الكفء. وليس من باب العبث أن يعزل حكام بسبب أخطاء، أو أن يصبحوا موضوع نوادر يتهافت عليها القاصي والداني، لأنها مثيرة وهادفة، ولأنها تحمل مغزى وعبرة. ومنها على سبيل التمثيل ما ورد في كتاب ابن الجوزي: قال المدائني: “كان عبد الله بن أبي ثور والي المدينة، فخاطب الرعية قائلا: أيها الناس، اتقوا الله وارجوا التوبة، فإنه أهلك قوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم. وأصبح منذ ذلك الوقت حديث الناس، وقد سموه مقوّم الناقة، وعزله الزبير من منصبه بسبب ذلك". يمكننا، على سبيل المشابهة، إيراد ما يتفق دلاليا، في جزء منه، دون الجزء المتعلق بالتنحية من المنصب، لأن ذلك أمر يحتاج إلى قرون أخرى. حدث ذات سنة أن نظمت إحدى ولاياتنا ملتقى أدبيا حضرته النخبة، وقد افتتح راعي النشاط الثقافي الجلسة بقوله في خطاب جاء في مقدمته العصماء التي صفق لها الحاضرون، تقربا واستهجانا: مرحبا بكل من هبّ ودبّ (يقصد مرحبا بالجميع). وليس بعيدا عنه، ما ورد على لسان أحد المنشطين في مؤتمر لحظة دخول الوالي ومرافقيه إلى القاعة: وقد زاد الطين بلة حضور الوالي (يقصد زاد الجلسة قيمة ومتعة). وهناك سؤال غريب عجيب طرحه علينا أحد الولاة في ملتقى وطني للشعر: ماذا تفعلون بالثقافة والشعر؟ لو حدثت طرائف من هذا النوع في الأزمنة القديمة لغدت مراجع، ولغذتها الذاكرة الجمعية عبر الوقت وخلقت منها شخصيات مرجعية مثيرة، كما حدث مع جحا وأشعب وعرقوب وقيس وعنترة. ليس لاستثمار ظرفي، بل لتشكيل صورة مكتملة عن عصر ما، وللتأكيد على قوة المتخيل في صناعة الحكايات انطلاقا من تفصيل، أو تأسيسا على حدث جزئي له امتداداته الوظيفية، إضافة إلى الجانب النفعي المرحلي بطبيعة الحال، لكنه، مهما كان، فسيظل عارضا. أخبار الحمقى والمغفلين تعكس أحيانا ثقافة العصر واهتماماته، وقد تصبح، بالنسبة إلينا، نموذجا لا يمكن محاكاته بسهولة، إذ يبدو أرقى وأكثر تحكما في ملكة القول. كما يعكس ثقافة الراعي والرعية وأهمية المعرفة في السلوك اليومي لذلك الوقت البعيد عن العيون والإدراك. يحكى عن ابن أعرابي أنه قال: خاصم أبو دلامة رجلا إلى القاضي عافية الذي ولاه المهدي القضاء على بغداد، فقال: “لقد خاصمتني غواة الرجال/ وخاصمتهم سنة وافية/ فما أدحض الله لي حجة/ وما خيب الله لي قافية/ فمن كنت من جوره خائفا/ فلست أخافك يا عافيه/" فقال له القاضي عافية: لأشكونّك لأمير المؤمنين، قال: لم تشكوني؟ قال: لأنك هجوتني. قال: والله لئن شكوتني إليه ليعزلنّك، قال: لم؟ قال: لأنك لا تعرف الهجاء من المدح". يمكننا مقارنة ذلك العصر البعيد بعصرنا “الذهبي" الذي بمقدوره تدوين ملايين النوادر من هذا القبيل، بالنظر إلى طبيعة المرحلة التي لم تصل إلى عتبة النطق السليم، أما التمييز بين الهجو والمدح فتلك مسألة تحتاج بدورها إلى تحف أخرى لن تنتهي أبدا. وما يمكن استنتاجه من الطرفة فيكمن في التلميح إلى ثقافة الحاكم الذي تفاداه القاضي لسبب، يبدو لنا اليوم، متواترا وعاما وقاعدة وحجة. لن تكفي الأجناس الأدبية الحالية للإحاطة بعصر صاخب يتجاوز القدرات السردية والشعرية والمسرحية، وما له علاقة بالجانب غير اللغوي كذلك. ولا يمكن الاعتقاد بأن القصة القصيرة والرواية والقصيدة هي المراكز الوحيدة المؤهلة للنظر إلى المجتمعات، أو لنقد السلطة، كيفما كان نوعها ولونها. لذا قد تكون الأخبار مكملة، وأكثر تأثيرا في بعض الأحيان لأنها أكثر عمقا، بصيغتها الموجزة التي لا تحتاج إلى وصف ممطط وعقدة وحبكة مشحوذتين، كما لا تحتاج إلى وقت طويل لقراءتها، إضافة إلى طابعها الساخر، رغم واقعيته. قد ينتبه عصرنا، بعد سنين، إلى هذا النوع من التأليف الذي يدخل في صميم حياتنا المعقدة التي تحتاج إلى تنويعات أخرى، أقل تكلفة في أجزاء منها. ويمكننا، آنذاك، تدوين ما علق من نوادر في حياة الكتاب والساسة، إيجابا أو سلبا. ثمّة دائما، في السير الذاتية ما يحتاج إلى نسخ، وإلى حفظ لأنه يدخل في شخصية الواقع والناس. وأتصوّر أنّ للكتّاب حكايات واقعية لا حدّ لها. وهي تشبه، في جوهرها، أخبار الحمقى والمغفلين، بتفاوت يحدده السياق. لا أتصور أيضا جامعات ومخابر لا تهتم بأشكال القول جميعها، لأنها جزء من المعرفة ومن مكونات الذات. إنّ مجتمعا يغيب عن أدبه جحاه الخاص وأشعبه وقيسه وليلاه وحلاجه وحجاجه هو مجتمع بحاجة إلى مراجعة قدراته العقلية والإبداعية. كيف أنتجت العصور العربية القديمة عشرات المراجع وآلاف النوادر المدوّنة وظللنا نقتات على إنجازاتها، دون أدنى إضافة فعلية؟ ألا يوجد أشعب واحد بيننا؟ وكم من حجّاج في هذا العالم، أقلّ ثقافة من الحجاج وأشد ظلما وفتكا؟ يبدو أن ميلنا إلى الأنواع ليس سويا تماما، فكما للرواية مكانتها، يجب أن يكون للأدب الشعبي بأنواعه مكانته، وهذي إحدى وظائف المخابر إن أرادت توسيع اهتماماتها الأكاديمية. أتصور إنشاء فرق بحث تهتم بالجمع والتدوين، ثمّ بتصنيف الأخبار ودراستها باعتماد مناهج مختلفة. إنّ اجتهادا من هذا القبيل هو حفظ للذاكرة وإضاءة لموروث شفهي له وزنه في المجتمعات العربية المعنية بالسؤال. ما عدا إن أردنا محو جانب منّا، وقد يكون هذا الجانب هو عين الحقيقة وأداة نقلها، صافية، دون تدخل “النفايات السردية"، إن نحن استعرنا مصطلح الروائي الجزائري الحبيب السائح. الاهتمام بالأخبار والنوادر، في جانبها الهادف، هو حفظ لما يشبه البطاقات الدلالية الموجودة في هامش الأدب، في تلك اللحظة التي تعجز فيها الرواية والقصة والقصيدة والخطبة عن التبليغ والتأثير. في هذه اللحظة بالذات تصبح النادرة منقذا، لأنها مكثفة ونتاج تجربة حقة، وذات سمك دلالي رغم أنها مختصرة شكلا. إنها مثل نقل تجربة قرون في جملة أو مقطع قصير ذي حضور لافت. ثمّ إنها تفضح هذا وذاك، دون أن تتحايل بالاختفاء خلف الرموز والنصوص المفتوحة والاستعارات والتنميقات. وهي ساخرة وحادة، ولكنها ضرورية. قد تختزل الطرفة كتابا كاملا في عبارات قليلة، وهذي إحدى ميزاتها ومنافعها، وقد تعلمك الأخبار ما لا يمكن أن تجده في دراسة مليئة بالمصطلحات والنظريات التي تهم ناسا في مجرات بعيدة. خاتمتها: كان رجل كثير المخاصمة لامرأته، وله جار يعاتبه على ذلك، فلما كان في بعض الليالي خاصمها خصومة شديدة وضربها، فاطلع عليه جاره، فقال: يا هذا، اعمل معها كما قال الله تعالى: “إما إمساك إيش اسمه أو تسريح ما أدري إيش".