إننا لم نلاحظ مواقف واضحة لدى الإخوان ولا العلماء الذين وجدوا أنفسهم اليوم ضمن لعبة السياسة، وضمن لعبة القوى العظمى حيال ما يحدث على الساحة العربية عموما، وعلى الساحة السورية خصوصا.. مقتل محمد السعيد البوطي، طبعا، لما يكن صدفة بحكم تواجده مع مصلين داخل المسجد الإيمان.. بل كان اغتيالا سياسيا.. وتكاد الجهة التي استهدفته تكون معروفة، أولا لأن هذه الجهة المنتمية إلى السلفية الجهادية سبق وأن كفرته، ثانيا لأن الشيخ البوطي حُسبت خطبه أثناء الحرب الأهلية السورية على النظام الحاكم، وثالثا لأن عالم الدين اختار معسكره ليس فقط الديني والسياسي، بل الوجودي ضمن حالة معقدة لا يحكمها المنطق ولا الحكمة، بل تحكمها نوازع الانتماء والإحتماء الطائفي وموازين القوة التي يصنعها حاملو السلاح وأصحاب القوة الفعلية على الأرض.. لكن في كل هذه الأحوال هل كان البوطي يستحق هذه النهاية، وهو الذي طالما كان من المرجعيات التي اعتمدتها ليست الجماعات والتيارات الإسلامية فقط، بل المراكز والجهات الدينية الرسمية منها وغير الرسمية؟! شكّل البوطي علامة فارقة في مسار الفكري الإسلامي، والفكر العربي على العموم، وذلك من خلال كتاباته التأملية حينا، والسجالية حينا آخر، والايديولوجية النضالية الداعية إلى الحوار في أكثر الأحايين.. في لحظة من مساره كان فكر البوطي قريبا من المتشددين الذين ابتعد عنهم وابتعدوا عنه.. وأتذكر كيف جرى سجال حول بعض فتاوى البوطي بين زمر الجماعة الإسلامية، والتي انفصل تيار منها عن الجماعة الأم، وهو تيار الجماعة السلفية للدعوة والقتال حيال مسألة “قتل أقارب ونساء الطواغيت". ويكون البوطي في لحظة من لحظات عمره تورط في مثل هذه الفتوى الفظيعة خلال لحظة عصيبة من صراع الإسلاميين مع السلطة في سوريا. لكن المثير في عملية اغتيال البوطي هو الموقف من عملية الاغتيال لدى الإسلاميين، خاصة إسلاميي الربيع العربي وشيوخهم.. إننا لم نلاحظ مواقف واضحة لدى الإخوان ولا العلماء الذين وجدوا أنفسهم اليوم ضمن لعبة السياسة، وضمن لعبة القوى العظمى حيال ما يحدث على الساحة العربية عموما، وعلى الساحة السورية خصوصا.. والمثير كذلك هو الطريقة التي تعاطت بها القنوات الفضائية العربية وغير العربية تجاه عملية الاغتيال التي تعرض لها عالم الدين محمد سعيد البوطي، فالجزيرة والعربية تحدثتا عن مقتل محمد سعيد البوطي دون التشديد على مكانته العلمية والفكرية والدينية، ولم يشكل الصدارة في نشراتها الإخبارية رغم الاشارة إلى كلمة “عاجل".. كما لم نلاحظ أنها أعطت الكلمة لعلماء أو مثقفين لينددوا بعملية الاغتيال.. بل أعطت قناة الجزيرة الكلمة لأحد نشطاء المعارضة الذي اعتبر أن خبر اغتيال محمد سعيد البوطي قد يكون إشاعة يروج لها نظام بشار الأسد.. وناشط آخر اعتمد على مصدر إعلامي، ليقول أن مقتل محمد سعيد البوطي هو نتيجة قذائف الهاون التي ألقتها القوات النظامية.. أما قناة المغاربية، المنسوبة إلى أحد أبناء عباسي مدني، وإلى جهات قطرية، وإلى نافذين في الجبهة الاسلامية للإنقاذ الجزائرية المحظورة، فقد اكتفت بإيراد خبر بارد وباهت، يتحدث عن مقتل البوطي دون الإشارة إلى مكانته العلمية الدينية أو الرمزية، وهذا يبين سيطرة وهيمنة التموقع السياسي في خندق ليس الثوار في الجوهر، بل في خندق القوى الراعية للمعارضات المسلحة في الحرب الأهلية الجارية رحاها في سوريا.. قد يبدو الأمر طبيعيا ومقبولا باعتبار أن البوطي لم يأخذ المسافة المطلوبة منه كعالم دين من النظام.. وقد أوافق على ذلك من حيث اتخاذ المسافة، لكن كانت المعارضة أيضا تقبل أن يتخذ منها عالم الدين البوطي ذات المساحة؟! وهذا ما يعتبر مستحيلا وصعبا.. فمثلما اتخذ نظام بشار طريقا بشعا وقذرا في التعاطي مع مطالب شعبه، تحولت المعارضة إلى طريق، هو في الحقيقة غير طريقها، وهنا أقصد المعارضة الأصلية الحقيقية التي ووجهت بالعنف والقوة، ويكون هذا الجزء المهم من المعارضة قد تعرض في أتون الحرب وبروز رعاة جدد للثورة التي تحولت إلى حرب أهلية معقدة، إلى الصمت والانسحاب المكشوف وغير المكشوف.. بحيث أصبحت القرارات بين أيدي حفنة تمكنت من الاستيلاء على الثورة، ومن إسكات الأصوات النقدية لتنتظم الغالبية ضمن طريق غير واضح، معالمه غير واضحة، وخريطة ترسم في الظلام.. وهنا تكمن تراجيديا الثورة، وتراجيديا عالم دين وربما علماء دين ومثقفين آخرين لم يكن لهم في نهاية المطاف الهامش الفعلي والحقيقي للإدلاء بآرائهم وأصواتهم.. الحديث عن حرب عادلة هو وهم، فأكثر الحروب العادلة قد تكون ظالمة لأبنائها الساعين إلى الاحتفاظ بأصوات معتدلة وعادلة.. إن الجنون هو الحكمة الوحيدة لفعل الحرب.. وإن القوة هي الحقيقة الفعلية التي يرفع رايتها المتحاربون، وما على أصحاب الحكمة أو الكلمة إلا وضع كلماتهم أو حكمتهم في الميزان الوحيد، وهو ميزان القوة، قوة السلاح، قوة المال، قوة الرعاة، وقوة وجهة الريح والزمن.. وبعيدا عن كل القوى، ألا يمكن النظر إلى اغتيال عالم دين لم يرفع السلاح في وجه أحد، على أنه جريمة وبشاعة؟! ذلك ما يجب على المثقف الحقيقي المستقل، وعلى عالم الدين الحقيقي والمستقل، قوله.. الحقيقة يجب أن تقال، حتى وإن كان صوت الرصاص متعاليا، وأصوات التخندق والأحقاد طاغية ومتعالية..