كيف يمكن بصوت أن يختزل في جماله الإعجازي كل ذلك التاريخ لشعب دشن معناه بعد ليل استعماري طويل كل ذلك السحر الجذاب، وتلك الفتنة الهادئة المولودة لعشق تتلاقى في دلالاته معاين الإنسان الصبور والمقاوم، والمتحدي لصانع قيوده؟ ذلك هو الإحساس المتسائل الذي يجتاحني كلما تقدمت بي السنون وأنا أعيد الإنصات لأغاني وردة الجزائرية.. لم تكن هاته التي مزجت حبها للجزائر مسقط أسلافها بحب للقاهرة مسقط ميلادها الفني كمطربة صانعة للأشجان الجميلة ولجمالية الأشجان الدالة على خصوبة القدرة الفائقة على صهر الحب بمعناه التعددي ضمن بوتقة الحب الشامل كأنشودة شاملة في سبيل الدلالة الحية والخلاقة للإنسان.. كنت لازلت أقترب بقليل من سن المراهقة عندما اكتشفت صوت وردة.. كان مصدر افتخاري وافتخار جيلي أن تكون هذه الجزائرية ضمن القامات الباسقة تحت قبة كانت تشكل المرجعية الفنية لعالم عربي وقتذاك، عالم عربي طموح، فياض وتواق إلى التأسيس المجدد للحرية بمعناها الطوباوي والشامل.. كنا الجيل الذي تألم مع عبد الحليم حافظ، وتأسى وشجن مع فريد الأطرش ووقف على عتبة أم كلثوم وعلى أبواب اسمهان.. كان صوت وردة يتأرجح بين ذلك الهدير لعالم عربي يحلم وحدة ما، وبقوة ما، وطوباوية ما وبانبعاث ما من تحت الرماد ومن صميم المعاناة من أجل الانجاز التام والمبدع للذات الوطنية والقومية، وكانت بهجتنا تزداد سطوعا كلما كانت وردة تزور الجزائر لتغني حبها وارتباطها بتربتها وجذورها كلما أحلت ذكرى الثورة والاستقلال... وردة ظلت وفية لتلك الجزائر التي ظلت تحملها في قلبها ووجدانها ولم يعرف التنكر إلى قلبها سبيلا.. لم يكن تشبثها بالوجدان الجزائري مع مر السنوات وصعودها إلى القمة من باب الواجب، بل من باب المحبة الجذرية ذات الأفق المفتوح... وحتى عندما دخلت الجزائر نفقها المظلم والحالك، ظهرت وردة في كامل وفائها وعطائها وكرمها لجزائر أضحت يتيمة، ممزقة بحرب أهلية شمطها وجريمة بأبنائها الذين اعتراهم داء السلطة والتشبث بها ولو على حساب المغمورين الذين وقفوا في صمت لكن بشجاعة أمام تيار الجنون الذي كاد أن يعصف ببلد كاتب ياسين والشيخة الجنية ومعطوب.. واليوم وبعد غيابها الأبدي ألا يحق لنا استعادة وردة التى ظلت تحملنا كوشم في تلافيف صوتها الساطع كرمز، لكن أيضا كأنشودة ولادة للوفاء الجميل والخلق المستمر والمتجدد؟! ألا يحق لنا تخليدها من جديد رمزا وذكرا ومثالا؟!!