النص: ذاكرةُ المكان مرزوقي صلاح الدين عجوزٌ يحفرُ ذاكرةَ المكانِ يُخرجُ من بطنهِ حكاياَ بلونِ الماءِ يُكورُ من طينهِ وجوهًا بيضاءَ يبدو عليهاَ الوقارُ ... أسمعُ صهيلاً وضحكاتِ النساءِ وكأنهّنَ يغازلنَ الهلالَ ... الهلالُ رجلٌ قرأتُ هذا في دفاترِ القبورِ القديمةِ... ....صوتٌ يصلني صداهُ من ظلِ العجوزِ تخنقنيِ أصابعهُ الشفافةُ أخبرنيِ من قتلَ المكانَ؟ وما هذا الكتابُ الذي في قلبكَ؛ ؟ ولماذ ا لستُ أسمراً مثل هذه النخلةَ. هل تكتبونَ أيامكُمْ بحبرٍ أحمرَ وزيتُ الزيتونِ يعصرهُ المغضوبُ عليهمْ ....أخبرنيِ لماذا تحجُّونَ كل يومٍ وتموتونَ كل يومٍ ؟ هل هذه صلاتكمْ ؟ كانت تُعطي غيثهَا .....أشعرُ ببردٍ أقسىَ من موتٍ تنزعُ روحَ الموتِ . تُغادرنيِ الأصابعُ وصوتُ ينسحبُ كثعبانٍ على جسدِي .....قتلتُمُ المكانَ. يُوسفُ يسبحُ في جُبِّهِ، تمتزِجُ في طفولتهِ البراءةُ والسحرُ ، تنبتُ شجرةٌ يسقيها دمهُ ....في منتصفِ الليلِ يتشكَّلُ وجهُهمْ القبيحُ ...ينطفئُ نجمناَ الوحيدُ ..في منتصفِ الطريقِ يبنونَ جدارهمْ الهشُّ يصلبوننا مع مشكاة الرحمة والوفاء والوئام، ومن هنا يتبدى لنا سؤال ضمني يطرحه الشاعر لكن دون أن يشير إليه، وهو سؤال جدوى الصراع التاريخي إن كان ديننا واحد وأبونا واحد، فلما نتصادم من أجل ترتيب المكان، وتنظيم الجغرافيا، وهذا بعينه يطرحه الشاعر حين يعنون نصه بذاكرة المكان، فالذاكرة تعني التراث بكل زخمه التاريخي والحضاري والمخيالي الذي يجمعنا مع الآخر القريب يهودا كانوا أو نصارى، فقلد جمعتنا الجغرافيا والتاريخ لآماد طويلة، فلم تفرقنا اليوم هذه الجغرافيا المزيفة ؟وهذا التاريخ؟ بعد ذاكرة المكان المقدس ووجع الزمان ¯كثافة الرمز: تكاد تكون كتابات صلاح الدين حبلى بلغة رامزة، لن تجد معناها في مبناها حتى تفك شفراتها أو تقشر طبقاتها لتبحث عن خيط المعنى المتواري خلف جُدُر اللغة المستخدمة في المتن الإبداعي عنده. يستدعي الشاعر في هذا النص الثالوث الديني الإسلام»الهلال«، النصارى»المغضوب عليهم«، واليهود » يبكون تحت جدارهم«، كما يستحضر مشكلة صراع الحضارات أو بالأحرى صراع الأديان التاريخي. كما يستحضر العناصر الطبيعية لتكون دوال تعبيرية عن مشاريع ثقافية في ذاكرة المكان المقدس، فالنخلة رمز الخصوبة والصمود والعروبة »صمود العرب«، والثعبان والذئب في الثقافة العربية دليل الخداع المتسلل من اللامكان اليهود ، أما الشاعر في ذلك خلق قصيدة كونية تتناغم وحركية الكون العجيبة والمنتظمة. ينطلق الشاعر من رمزية »الهلال« ليعبر به عن المسلمين، وأنهم يغيبون ليعودوا كما يعود الهلال، وأنهم يتضاءلون كما يتضاءل الهلال، ويكبرون حتى يصيرون بدرا كبيرا وكلما كبروا أضاؤا دروب العالمين. ومرة أخرى يستدعي الشاعر »الليل« بوصفه رمز الهم العربي، وأيقونة للدياجير التي نعيشها في صراعنا مع الإسرائيليين، والليل هو السكون، لكنه سكون الخوف، وهو الهدوء، لكنه هدوء العواصف.. الذئبِ على ظهرهِ ... ويشنقونَ كلَّ قصائدِنَا العربيةَ ... يحرقونَ رغيفناَ بزيتناَ ويحاصرونَ ما تبقىَ من صلاتنَا ....وحين يكتملُ الهلالُ في وجههمْ يبكونَ تحتَ جدارهمْ .... تغيَّرَ شكل الهلالِ والبيتُ أغلقَ أبوابهُ لقد وجدوا هيكلَ سليمانَ.... غرسُوا في كل قبرٍ صليباً وفي كل قلبٍ جُرحاً.... من يحرسُ قٌبتنَا ...رَجلٌ أبكمُ وكلُّ أطفالنا لا يطيرونَ كالفراشاتِ كمَا كنَّا نَطيرُ- ¯ زحام الأنماط: تنفتح اللغة الإبداعية في المشروع الشعري عند صلاح الدّين على زخم متراكب من الدلالات النفسية والثقافية والإيديولوجية، حتى لكأن شاعرنا حين يلج نفق الكتابة يستجمع الأشكال الشعرية والأنماط السردية ليعجن من طينها صرحا فنيا جديدا. فالقارئ للمتن الإبداعي عند الشاعر سيجد مساحات كثيرة للحدائق الشعرية متاخمة لمساحات كبيرة لغابات السرد متناغمة بطريقة الفوضى المنسجمة. : فأما الدفق الشعري فنتلمس أثره في قوله يُخرجُ من بطنهِ حكاياَ بلونِ الماءِ يُكورُ من طينهِ وجوهًا بيضاءَ وأما فضاءات السرد فنجدها حين يستعرض الصراع التاريخي بين الأديان السماوية الثلاث، فيقول: النصارى فقد رمز إليهم ب »الحبر الأحمر« ليدل بذلك على ثقافة الدم التي درجوا عليها عبر تاريخهم الاحتلالي الطويل. ثم هو أيضا يقتنص الإشارات القرآنية كي تكون دليلا دامغا على قداسة المكان وتكالب الأعداء عليه» المغضوب عليهم/ النصارى« و»السحر« هو مؤشر آخر على القوة والتمكين في الأرض مثلما تمكن موسى عليه السلام من فرعونه. ¯ حضور الشخوص المقدسة: لا معنى للمكان إلا بما فيه من فعل الإنسان وتجاربه فيه، والشاعر في»ذاكرة المكان« لا يستحضر المكان إلا مقرونا بمدى فاعلية الإنسان في ذاك المكان الوقور والمحفوف بهالات قدسية. يحاول الشاعر في استدعاءه للشخوص المقدسة إلى خلق وشائج وجدانية بين الإنسان وبين مكانه الذي صنع في ابتهالاته ومارس فيه تعبده، لذا افتتح نصه بمفردة »عجوز« ليدل به على الوقار والخبرة الحياتية التي حبكتها السنون، والعجوز هنا يعجن من طين أيامه معالم حكاياه الخبيئة والمتوارية في سراديب المكان المقدس، ثم يخلق لها شخوصا »وجوها«، ويحبك منها أحداثا»يحفر وهذا يوسف في جبه يصارع طفولته، ويبكي براءته، ويضمد جراحاته من فعل القريب والغريب، بل يحول الجب بما فيه من معاني الظلمة والغياهب إلى حديقة تنبت الزهر وأحلى الشجر ويسقيها إيمانه »تنبتُ شجرةٌ يسقيها دمهُ « بهذه التقنية السردية وبهذه الفضاءات المكانية التي يخلقها الشاعر يتحول الجب إلى حديقة غناء، وليست الحديقة هنا إلا حدائق الإيمان التي تحولها الشخوص المقدسة من أمكنة معادية الليل هو الظلام القادم على دولة بني إسرائيل، والعاصفة التي ستزحف ليلا على كيانها فتمحقه وتجعله قاعا صفصفا. وفي شيء من لمح البصر نجد أنفسنا أمام عنصر كوني آخر يستدعيه الشاعر وهو »النجم« ليعبر به عن الضوء الساطع الآت من غياهب الكون، هو الأمل المتحدر من قمم الظلام، هو النجم الذي لاح في ربوع الوطن العربي ليكون سهيلا جديدا يبشرهم أن نصرهم قادم، فبعد ليل سرمدي سيكون هناك ضوء في آخر النفق. »...الهلالُ رجلٌ قرأتُ هذا في دفاترِ القبورِ القديمةِ ....صوتٌ يصلني صداهُ يُوسفُ يسبحُ في جُبِّهِ، تمتزِجُ في طفولتهِ البراءةُ والسحرُ، تنبتُ شجرةٌ يسقيها دمهُ ....في منتصفِ الليلِ يتشكَّلُ وجهُهمْ القبيحُ ...ينطفئُ نجمنا الوحيدُ ..في منتصفِ الطريقِ يبنونَ جدارهمْ الهش يصلبوننا مع الذئبِ على ظهره« بهذا تتماهى لغة السرد مع لغة الشعر في بوتقة إبداعية، فتصبح زشعرية السردس أو »سردية الشعر« هي الأنموذج الأمثل للكتابة ¯بوح المكان المقدس: يتحول المكان عند الشاعر من حيز جغرافي وصورة طوبوغرافية إلى مخزون قيم ونسق معرفي يستعرض التاريخ في إيماءات خاطفة وإشارات تكاد تكون كلمح البصر، فهو لا يستحضر التاريخي إلا مقرونا بالقيمي، وليس غرض الشاعر في كل هذا إلا أن يلامس حبات القلوب ويستثير الضمير الإنساني في كل ما تعانيه أرض المقدس من فوضى الجغرافيا، وتصحيف التاريخ، فيصبح حينها المكان المقدس إنسانا مقدسا قداسة يوسف الصديق، والنبي سليمان. إن استدعاء المخزون الديني في نصوص الشاعر ما هو إلا راية بيضاء لاستدعاء الضمير الإنساني، وبرهان آخر من أن كل الأديان لها مرجعية واحدة وتبزغ من إلى أمكنة معتادة. وذاك سليمان مع هيكله المزعوم حين راح جمع من يهود اليوم ينبشون التراب وينحتون الجبال علّهم يعثرون على هيكل مزعوم قد حدثهم عنه تلمودهم القديم ¯ رمزية الألوان في ذاكرة المكان: ليس غريبا حين يستحضر الشاعر الأنساق الثقافية والدينية المشكلة للوعي الإنساني من أن يستدعي الألوان كي تكون رافد دالا على مجموع القيم المُشَكلة للبناء الثقافي لدى الإنسان الكوني. إن تداعي الألوان في »ذاكرة المكان« يحيل إلى ثقافة تكثيف الدلالة عند الشاعر وترميزها بكل الأيقونات اللغوية و الإشارية وحتى اللونية رغبة في إغناء المكان المقدس بكل الثيمات التاريخية والدينية والعرقية. ولمّا كانت الألوان المنتشرة على جسد النص و الموظفة بطريقة ساحرة تفضى إلى مدلولات قيميّة لها وثيق الارتباط بموضوع قدسية المكان، كانت معها اختيارات الشاعر موفقة إلى حد يجعلنا نتلمس تقنية التدرج اللوني عبر مساحات النص، فالشاعر يختار البياض ليعبر به عن طهر الأديان، ثم يستحضر لون الماء الشفاف ليحيل إلى وضوح المكان المقدس ونقاء أرجاءه من كل الأرجاس، ليواصل برشيته تطويع هذه الأصباغ والألوان، فيختار السمرة بوصفه رمزا للعروبة المشردة في تلافيف الجغرافيا والتاريخ، لينتهي إلى اللون الأحمر رمز الدم المباح بين أولئك المتصارعين على قداسة المكان حمولات العناصر الكونية في ذاكرة المكان: إن المتمعن في المتن النصي ل»ذاكرة المكان« سيجد ازدحاما للعناصر الكونية، تتقارب وتتنافر كلما تقاربت دلالتها وابتعدت حمولاتها، وغاية بعد هذه الإطلالة السريعة في المتن النصي ل »ذاكرة المكان« نجد أن صناعة النص عند صلاح الدين حبلى بتراكمات تاريخية ومعرفية وثقافية، وعلى القارئ أن يكون مدججا بثقافة نقدية حتى يتاح له الولوج في أنفاق النص عند الشاعر الجزائري صلاح الدين مرزوقي.