تحتفظ الحاجة اللاجئة جميلة سليم استيتي في مخيم جنين بمفاتيح منزل عائلتها التي شردها الاحتلال من قرية المنسي في نكبة عام 1948 وتوزعت بين مخيم جنين والناصرة والأردن وسوريا ولبنان والعراق، وعلى جدران منزلها في مخيم جنين حرصت على إبراز تلك المفاتيح لتبقى تذكر أبناءها وأحفادها الذين ولد غالبيتهم في المخيم بحقهم الذي لا تنازل عنه وهو كما تقول العودة، فهي مفاتيح العودة وإن تغيرت الخارطة وتفاصيلها ومسحت مدنا وبلدات وقرى، فإن شكلها واحد لحدود الوطن التي لن تتغير تعبر عنه تلك المفاتيح مضافا إليها القواشين والأوراق التي تؤكد أننا سنعود يوما مهما طال الزمن فلن يضيع حق وراءه مطالب. رغم مرور 65 عاما على النكبة، وصور الألم المريرة التي رافقت مسيرة حياتها وزوجها وأبنائها، فإن الحاجة استيتي لا زالت تحفظ كل تفاصيل تاريخ الحياة وأسماء المواقع والأوراق الرسمية التي تعزز لديها روح الأمل وهي تنتظر كما تقول تحقيق أمل العودة، وتضيف وهي تستعيد بعضا من شريط الأيام في ذاكرتها التي تربى الأجيال عليها ككل اللاجئين “في تلك الأيام قالوا لنا إن العصابات الصهيونية تشن هجوما علينا لإبادتنا، وطلبوا منا الخروج لأسبوع حتى تنتهي الحرب والهجمة، لأن جيش الانقاذ سيخلصنا، وصدقنا ولكن بكل حسرة مرت عشرات السنوات ولم ينته الأسبوع، تذوقنا مر العذاب وبؤس الحياة ومعاناة اللجوء ولم ينته الأسبوع، وأصلي لله ليل نهار أن يمنحني القوة والحياة حتى أرى نهاية النكبة". في تلك الأيام، قادت النكبة عائلة استيتي مع مئات العائلات إلى مأساة اللجوء الأولى إلى جنين وهناك تأسس أول مخيم وأقربه على الأراضي التي استهدفتها النكبة، لذلك هي حرصت ولازالت على تربية أبنائها وأحفادها على التمسك بحق العودة، وتقول “الاحتفاظ بمفاتيح منزل عائلتي في قريتنا التي شردنا منها في النكبة هي رسالة عهد ووفاء لكل أبناء شعبنا على التمسك بالعودة، فلن ننسى ودوما أتذكر الشهداء من قريتي وأفراد أسرتي التي تشتت شملها، فبعضهم استقر في مدينة الناصرة والبعض الآخر كان نصيبه أكبر بؤسا وشقاء، فقد انتهت بهم رحلة العذاب واللجوء في منافي الشتات، حيث يصعب الاتصال بهم أو معرفة أخبارهم وهذه نكبة أخرى"، كما تضيف. وتتمتع الحاجة جميلة التي تجاوزت العقد الثامن بمعنويات عالية وإيمان كبير بالعودة إلى المنسي التي عاشت بها، كما تقول أجمل أيام العمر “أنا انتظر هذه اللحظة وهي السر الذي يمنحني القوة والعزيمة التي زرعتها في أبنائي وأحفادي فلن ننسى أرضنا وخيراتنا وحقنا حتى بعد 65 عاما، فقد رحل زوجي ابو حلمي رحمة الله عليه وهو يوصينا بالثبات والصبر والتمسك بحقنا الذي لن ننساه جيلا بعد جيل". ورغم معاناتها من المرض وتقدم العمر بها، فإنها لا زالت تحتفظ بذكريات الحياة الأجمل في المنسي رغم البؤس والمعاناة وتقول “هناك نمتلك مساحات شاسعة من الأراضي التي شيدنا عليها المنازل الجميلة وكنا نعيش بهناء وصفاء ومحبة، فحياتنا لم يكن لها مثيل ولا أحلى منها في ظل الخيرات التي حبانا الله بها، كنا نملك عمارات وبيارات وبساتين زرعناها بالزيتون والتين والخوخ والإجاص وكل الثمار الشهية ولم يكن ينقصنا سوى رحمة الله والسعادة التي ستعود يوما". ولا زالت أم حلمي تتذكر أدق التفاصيل عن حياة أسرتها بالمنسي، فتقول “مهما مارس الاحتلال لن يمسح من ذاكرتنا حلم العودة، قد يكون نجح في مسح أراضينا وتدمير منازلنا وتشريدنا ولكننا لن ننسى منازلنا التي كانت رائعة وعشنا في أراض ومنطقة لا يوجد أحسن وأرقى منها، سأبقى أعيش الحزن لأنه لا يوجد شيء يعوضنا عنها، إنها بلاد الخيرات كل خيرات ربنا"، وتضيف بلهجة ممزوجة بالحسرة “كيف أنسى فرحة زراعة الأرض وقطف المحاصيل، فزوجي كان فلاحا يعمل في أرضنا ولم يكن ينقصنا أي شيء؟ كيف أنسى نبعة الماء التي كانت جذور المزروعات تمتد فيها؟ وكل ذلك ضاع بلحظة ولكن لن ننساه". وبين الذكرى والواقع، تعود الذاكرة بالحاجة جميلة إلى تلك اللحظات التي حلت بها النكبة بالبلاد وأصحابها، وتقول “في الوقت الذي كانت تعيش فيه قريتها لحظات الهدوء والسكينة التي تتميز بترابط العلاقات بين الأهالي وتلاحمهم وتوحدهم في لحظات الحزن والفرح، فوجئنا بالهجمة الصهيونية التي سبقتها وعود من الجيش العربي بحمايتنا والدفاع عن أرضنا وصد الغزاة والعصابات"، وتضيف “ابلغنا من الجيش العربي بأن العصابات قادمة لارتكاب المجازر بعد اقتحامها لعدد من المناطق، وقبل أن نأخذ أي إجراء للاحتياط بدأ الهجوم فاستشهد شابان من القرية مما أثار حالة من الخوف مع انتشار الشائعات حول المذابح التي ترتكب في المدن والقرى التي وصلت إليها العصابات، سمعنا الكثير عن قصص القتل والتدمير والحرق، فاضطررنا للخروج مرغمين"، وتضيف “عندما بدأ الهجوم لم نتمكن من حمل أي شيء من منازلنا وخرجنا بملابسنا، والحمل بالنسبة لي كان أشد صعوبة فقد كان لدي طفلان هما حلمي وشوقي اللذين أنجبتهما في المنسي فوضعتهما في عربة وهربنا مسرعين لننجو بحياتنا". تمسح الحاجة جميلة دموعها وهي تواصل الحديث عن لحظات الشتات واللجوء الأولى، فتقول “طاردتنا العصابات من موقع لآخر وشاهدنا في الطريق جثت القتلى نساء وأطفال وعمليات الهدم، وعشت لحظات شاهدت فيها الموت ألف مرة وأنا أبحث عن النجاة لأطفالي، وهكذا بدأت رحلة الشتات تفرق شمل أبناء أسرتي فلم نكن نعلم إلى أين المصير تحت النار وبين الجبال، فاستشهد عدد من أقاربي والأهل والأصدقاء والجيران ولكننا واصلنا التنقل حتى وصلنا لقرية رمانة الواقعة غرب جنين على الحدود مباشرة". لم تنته الحكاية، فالقادم كان أصعب، تقول الحاجة اللاجئة والمصير المجهول حوّل حياتنا لجحيم، بعد أن فقدنا بلحظة بعضا من الأحبة ومنازلنا وخيراتنا وأصبحنا لاجئين، وقرب مقبرة رمانة أقيمت أول الخيام للاجئين، وتحملنا كل العذاب بانتظار العودة بعد أسبوع، ولكن لم يتغير شيء العصابات استولت على أرضنا، فشعرنا بألم كبير وفقدنا عقولنا من هول الصدمة، فكيف سنعيش بدون المنسي التي تركنا فيها بيوتنا ورزقنا وكل تعبنا وشقانا كل شيء خسرناه حتى عمي وخالي وابنه وابن عمي استشهدوا، وبعد شهرين انتقلنا إلى قرية “كفردان" وأقمنا لمدة 8 سنوات وانتهى بنا المطاف في مخيم جنين، ولكن رغم كل شيء فإننا لم ننس المنسي، إنها حياتنا وتسكن أعماقنا. بعد استقرار عائلتها بانتظار الحل الذي لم يأت والتحرير الذي تحول إلى نكبة، تقول أم حلمي “بدأت رحلة البحث عن باقي أفراد الأسرة وكانت الصدمة كبيرة ونكبتنا الثانية عندما علمنا بأن مصير العائلة هو الشتات، فالجزء المقيم في سوريا ولبنان أصبح معزولا بشكل كامل عنا، وطوال السنوات الماضية لم نتمكن من الاتصال بهم أو معرفة مصيرهم وكل ما نعلمه أن هناك نفرا من عائلة استيتي يقيم هناك، أما الجزء المقيم في العراق فكانت هناك بيننا وبينهم مراسلات ورسائل رغم أننا لم نلتق بهم طوال السنوات الماضية ولكن نكبة جديدة حلت بهم عندما احتلت أمريكا العراق فقد شردوا مرة ثانية وانقطعت جميع أخبارهم، ونحن نعيش قلقا على مصيرهم في ظل ما يتعرض له أبناء شعبنا في العراق من جرائم وحرب إبادة بشعة تذكرنا بالنكبة الأولى وتقول لنا إن النكبة لا زالت تلاحق شعبنا من منفى لآخر، فلا نملك سوى الصلاة والدعاء لله ليرفع عنا هذه المآسي. وتنفست أم حلمي وعائلتها الصعداء عندما تحقق حلم التواصل مع أقاربهم من أبناء عائلتها في الناصرة والأردن، وتقول فرحنا كثيرا بتمكننا من التواصل مع باقي أقاربنا ولكن الاحتلال حرمنا فرحة التواصل مع أهلنا في الناصرة بعدما فرض الحصار على الأراضي المحتلة وأصبحت صلة الوصل الوحيدة الهاتف، أما أقاربنا في الأردن فقمنا بزيارتهم أحيانا ولكن بسبب الظروف الصعبة والقاسية فإن زيارتنا لهم محدودة علما أنهم ممنوعون من زيارة الأراضي المحتلة بشكل نهائي، وتضيف “ما نتعرض له هو النكبة الحقيقية، فقد توفي ابن عمي في الأردن ولم أتمكن من الحضور، وأنا حزينة لأني لا أعرف غالبية أقاربي وكذلك أبنائي وأحفادي الذين لا زالوا يدفعون ثمن النكبة التي تثير الحزن وذكراها تأتي ولا زلنا مشردين ولاجئين على مرأى ومسمع من عالم يتباكى من أجل الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، ولكن الواضح أن الشعب الفلسطيني هو الاستثناء منها، لذلك ستبقى قضيتي شتاتنا ولجوئنا وصمة عار في جبين المجتمع الدولي الذي لازال عاجزا عن تطبيق قرار العودة لديارنا. في منزلها لا تتوقف عن الحديث عن ذكريات لن تنساها أبدا، ويوميا تروي حكايات، فإن مفاتيح منازل عائلتها القديمة في المنسي والتي تبعث فيها الطمأنينة والأمان والأمل، وتقول “وزعتها في أرجاء المنزل لتبعث الذكرى لدى أبنائي وأحفادي وتبقيهم على تواصل مع حقنا، فقد اغلقت منزلنا بمفاتيحه وحملتها معي واحتفظت بها طوال السنوات الماضية لأننا على قناعة أننا سنعود إليها حتى لو هدمت ودمرت سنعيد بناءها وحتى لو عشنا في خيم لن نتخلى عن أرضنا"، وتضيف “حافظت على المفاتيح ولم افرط فيها وسأسلمها لأبنائي وأحفادي لتبقى المنسي روح الحياة التي نتنفسها، فقد توفي زوجي وهو ينتظر العودة وحتى لو مت لن تذهب المنسي". الحاجة جميلة التي زوجت أبناءها ورزقت بعشرات الأحفاد تقول في ذكرى النكبة: “رغم أننا نعيش حياة جميلة بالمخيم لكن لا يوجد مثل الحياة في المنسي، حياتنا هناك أحسن مليون مرة ولو أعطوني كل الدنيا لن أقبل عن المنسي بديلا، التوطين مرفوض والتعويض مرفوض، نريد العودة ولن نعيش إلى الأبد لاجئين".