في تضاريس المتاهات الممتدة بتفاصيل المستجدات، يعود سؤال ملح، سؤال عن المثقف النقدي، ذلك الذي يتموضع متوهجا بضمير يقظ يقتبس مما تنقدح به مكابدة المعاناة نورا تنفتح به البصيرة... ذلك هو السؤال الذي يحضرنا ونحن نستعيد ذكرى رحيل بختي بن عودة، بختي الذي كتب عن “اختبار الزوابع" وعن “الأسئلة الصعبة أوضياع العلامة" وعن “الجزائر: من وهم الدولنة إلى رج الكبوتات".. وكتب بيانا ضد القبيلة.. بختي الذي تكثف مساره رغم مشوار العمر القصير وكان رحيله برصاصات الغدر بيانا كثف الرمز، فصار مسمى الاسم ساريا، ففي بن عودة العودة، عودة التوهج البرموثيوسي وفي بختي البخت أو ثقف اللحظة بفطنة تبدع حظها ولا ترثه. في ثمانينيات القرن الماضي التي بدأ فيها مشوار بختي بن عودة، كانت إرهاصات ما امتد إلى يومنا هذا من رجات متتابعة، وكانت هواجس بختي التي كتبها بلغة المتاهة التي تتهندس بغواية ثقف ظل الدال فلكل دال ظله كما قال بارت ، هواجس حملتها نصوصا، عندما نعود إليها نجد فيها ما يحضر راهنا، وهو ما يمنحها قوتها كتخطيطات أرهصت لمشروع لم يتح له القدر التبلور، لكنه تشكل كأيقونة. مرجعيات بختي تحيل لفلاسفة الاختلاف الذين طبعوا بحضورهم المدونة الفكرية طيلة الفترة التي تلت ثورة ماي 1968 في فرنسا، الثورة التي مثلت منعرجا محوريا وانبثقت عنها المقولات والأطروحات التي عرت وحفرت وفككت وزعزعت المتعاليات، وواصلت تحقيق دور المثقف كفاعل حاضر مجتمعيا، حاضر في التاريخ، حضورا صانعا بالموقف، موقفا منزاحا عن النسق المغلق، انزياح المتشرد الذي يكابد معاناة السفر المستمر لبلوغ ما لا يبلغه، بلوغ المستحيل، وذلك الهاجس هو الذي يسكن في بؤرة الذات، يسكنها كشعلة متوهجة، توهجا محركا، حراكا لا يتوقف، يظل بنبض لتحقق المستحيل، ولعل ذلك ما جعل الراحل بختي بن عودة يخطط في إطار جمعية أفاق لإصدار مجلة عنوانها “أوقيانوس". وبدأ بختي يتشكل في رحم جدل ونقاشات الثمانينيات، عبر منابر إعلامية وفضاءات ثقافية، حول مواضيع متصلة بالذات التي تكابد مغامرات الانفلات عن الصهر القسري في البوتقة الصاهرة للشعبوية والأحادية، متصلة بإشكالات التاريخ والهوية واللغة والديمقراطية والحداثة.. وكان التواصل يتسع ليمتد إلى أفاق أرحب وتمكن بختي من نسج شبكة علاقات جعلته مهتما باشتغالات الخطيبي، اهتماما جعله يخصص أطروحة الماجستير للخطيبي.. وعرف أسماء كبنيس وأدونيس وراسل هشام شرابي وجاك ديريدا. وكان بختي يبدأ المشوار باحتكاك مثمر ومنضج له مع ما كانت تنبض به وهران فكريا وثقافيا، من خلال أسماء لها وزنها وثقلها كجغول وعدي هواري، بن أعمر مدين، حفيظ قفايطي، ملياني الحاج، محمد سحابة، البخاري حمانة، صالح نقاوي، عمار بلحسن، عمار يزلي، أمين الزاوي، امحمد جليد وعبد القادر علولة... واتسع الاحتكاك مع ما تبنض به بقية المدن آنذاك.. وكانت لبختي ميزة استثنائية في الجمع والتجميع، ميزة جعلته دينامو الحراك. في كل فترة تتشكل منظومة علامات وأفكار، منظومة تنتظم في داخلها تفاعلات ما انصهر من الإرث ومن العلاقات التثاقفية ومن إفرازات المتغيرات.. وأنظمة الخطاب كما بلورها ميشال فوكو مشحونة بالحمولات المحيلة والمتحولة وأيضا المتحللة لتحل في بنينة أخرى قد تظل تعود لتعيد ما انمحى.. يقول فوكو: “أفترض أن إنتاج الخطاب، في كل مجتمع، هو في الوقت نفسه إنتاج مراقب، ومنتقى، ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة". ويشير إلى لعبة الاستبعاد.. انطلاقا من طرح فوكو نقرأ إشكالية الخطاب وما يتفرع عنه من تسمية ومن تيمات ومن أسس البناء. وانطلاقا من الطرح الفوكوي نقرأ ما كتبه بختي بتلك اللغة التي سكنها الشغف بكتابة تنتصر للكتابة، كتابة تتشظى وتتبعثر، كتابة تتلولب، تتهندس متاهات وتمتد لتقول الحالة بكل تجلياتها واحتجاباتها. حالة تفرض علينا بلورة كتاباتها، متنها، بلاغتها... لقد سبق للكاتب احميدة عياشي، أن كتب منذ سنوات عن ضرورة رأسملة ما عرفناه في سنين المحنة، وكتب الباحث حسين الزاوي: “لقد شهدت الجزائر عبر مسارها التاريخي الممتد سلسلة كبيرة من الأحداث الجسيمة والوقائع الخطيرة، لكنها لم تعرف بالمقابل قراءات رصينة قادرة على تحويل ألم المعاناة إلى إشراق معرفي يضيىء عتمة الدروب الملتوية، وكأنه قدر لنا أن نبقى مسرحا فسيحا لعنت التاريخ وحسابات الأقوياء". منذ بداية الحراك العربي طرح بإلحاح السؤال عن دور المثقف وموقعه من الإعراب.. وتجدد الطرح بإلحاح، في ظل انفعالية عمت وأفقدت القدرة على صياغة مبدعة للتسمية وللبيان والتبيين،، الشارع سبق وأبدع مقولاته.. في سياق مشحون بالانزلاق الرهيب، كتب بختي بن عودة: “قد نقول ما معنى أن تكون مثقفا وسط الجحيم التالي: (الشفوية، قوى الماضي، الغموض، الأقنعة، الصراخ، الاستحالة، القتل، الانكسار، النكوص...إلخ) وما معنى أن يظل المعنى هو نفسه غائبا ما دام المثقف هو الباحث عن المعنى والمنتج له: ألسنا أمام إشكال آخر لا نتوفر على لغة جديدة لتسميته، كيف نسمي وكيف يكون الفكر حاضرا في صميم التسمية؟" كيف نبدع التسمية التي تؤسس وهي تتأسس على رأسملة ما تراكم وعلى استيعاب ما يتحول ويضاف؟ كيف نبدع في ظل التدفقات الشبكية التي صاغت وضعية لها خصوصياتها؟.. منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأ التصدع والتفكك فضمرت أطروحات وتصدرت أخرى، تصدرت مقولات تتعنون بالنهايات، نهايات افتتحت بدايات تكتب الحالة.. حالة لخصها ببلاغته المكثفة الكاتب الصحفي الصافي سعيد قائلا: “إن دخول البشرية إلى القرن الجديد ربما قد بدأ منذ أكثر من عقدين من حيث الزمن، ومع ذلك فهو لا يزال مرفوضا من عامة الناس. فهؤلاء يحبون الاعتقاد بأنهم لا زالوا يعيشون في الماضي الواقعي ولا يرغبون في الانتقال إلى العيش في داخل المستقبل الافتراضي.. داخل الأنساق الخيالية أو الأنسجة اللامادية. إن هذا عادة ما يسمى بالتقدم.. ولكن من النادر أن يكون التقدم مرفوضا نفسيا على هذا النحو مثلما يحدث اليوم، فحتى سنوات السبعين أو الثمانين من القرن الماضي، كان التقدم يحظى برؤية إيجابية، أما اليوم فهو ينزع ليكون شيئا سلبيا". الصورة هيمنت ونجوم الفضائيات تكرسوا كمرجعيات بتسويق رسخ للخطاب التلفزيوني بعبوره الذي يفصل عن اختراق يصل بالجوهر.. عبور بتدفق تفاصيل يفلت معنها المعنى.. والنجوم يحكمهم منطق الممول للبرامج وتسكنهم غواية النجومية التي تدفع نحو ما يحدث من شغف بلعبة التهييج الذي يحقق حضور القطيع وينفي تشكل الرأي العام. ومع هيمنة الصورة صاغت الشبكة العنكبوتية ما يستدعي منا وقفات أخرى.