طرح بختي بن عودة بنوع من الدراماتيكية سؤال المثقف في وقت كان المجتمع الجزائري قد دخل مرحلة دموية وخطيرة في مسار تطوره التاريخي، وعلى الرغم من اختلاف السياق الذي ناقش فيه علاقة المثقف بمقولات تأسيسية للوجود الثقافي في الجزائر، إلا أن قيمة السؤال وراهنيته مازالت تتقد بتوهّج كبير. كان بختي وهو يصوغ السؤال ينظر بعين ثاقبة إلى الآتي، حيث السؤال الفلسفي هو من حيث الجوهر ممتد في الزمن، بل كان يأمل أن يكون النقاش حول مدلولات الدوال التأسيسية لنمط الوجود الجزائري يمر من عتبة الفلسفة، لأنها تضمن لها الديمومة، وتفتح لها مسارب جديدة نحو منظورات جديدة تساير روح العصر، في حين أن النقاش من المنظور العاطفي والانفعالي لا يعدو أن يكون مجرد ردات فعل إزاء المشكلات، وهو أسلوب يتحاشى المساس بثبات المنظومات القارة للفكر. من المهم، في هذا السياق العربي الذي يتسم بالحركة والارتياب والتفكك واللايقين والقلق أن يخلق مناخا للنقاش الفلسفي، وستكون عتبة النقاش هي إعادة مفهمة المقولات الفكرية على ضوء الواقع الجديد (إذا سلّمنا بوجود واقع جديد)، والذي يكشف عن إمكانية الاستغناء النهائي عن المثقف النخبوي - الأنتلجنسي الذي كان بمثابة المحرّك الديناميكي للواقع العربي في فترات المدّ القومي، ليتم تعويضه بنوع جديد من المثقف الميدياتيكي. إن تحوّل الوسيلة الثقافية، أي الانتقال من مرحلة القلم والكتاب والجريدة الورقية إلى مرحلة الهاتف النقال والكمبيوتر المحمول والآيباد، أحدث زلزالا قويا في طبيعة الثقافة، وفي الفاعل الثقافي الذي تنصّل كلية لكل صفات المثقف التقليدي، إنّه المتحكم في الآلة الإلكترونية، الواعي بخفايا تكنولوجيات التواصل الاجتماعي، والأهم من ذلك الذي يعيش المأساة الاجتماعية لا من خلال الكتب والروايات بل من خلال التجربة الملموسة. قد لا يكون لهذا النمط من المثقفين أية علاقة بالكتاب / الخطاب الثقافي المكتوب، إلا أنه من حيث مقدرته على التحكم في الوسيلة التكنولوجية استطاع أن يبدع خطابه الخاص، العابر لكل أنماط الخطابات، التي تزاوج بين الصورة والموسيقى والكتابة الشذرية وتفجير طاقة الجسد التعبيرية. أعود إلى النقاش الذي كان قد خاضه المرحوم (بن عودة) في عزّ المحنة الوطنية، والأكيد أن هذا المثقف قد عايش مرحلة التحوّل التي عاشتها الجزائر بعد أكتوبر 88، وهي نتاج هذا القلق الذي اتخذ أكثر من اسم، قلق الترقّب وقلق التأمّل في الانهيارات التي طالت مفاهيم كبرى تأسيسية كمفهوم الدولة الوطنية، الثقافة، المثقف، الحداثة، الإسلام... إلخ. إشتغل بختي في كتاباته الفكرية على إشكالية الديموقراطية من منظور فلسفي، فطرح الأسئلة الأكثر حرجا محاولا فهم مسارات تطور هذا المفهوم في الخطاب الفكري في الجزائر، وداخل الفضاء الاجتماعي العام، بعدما تبيّن له من خلال قراءاته ومعايشته للانتقال القسري من نظام الحكم الواحد إلى الأفق المرتبك للتعددية في جزائر التسعينيات أن ما تعانيه النخبة الجزائرية في معركتها الفكرية من أجل مشروع الحداثة الاجتماعية والسياسية والفكرية هو هذا المناخ الموبوء بنزعة عدائية إزاء ما هو فكري ونقدي، وهو ما جعلها تدخل في صراع مرير ذي جبهتين: صراع ضد النظام السياسي الذي لم ينضج وعيه بمفهوم الديموقراطية كممارسة تكفل التعددية واحترام الآخر والغيرية، وصراع ضد المد الكاسح للأصوليات الدينية التي دخلت اللعبة السياسية بقوة، مستغلة الوتر الديني لاستمالة الجماهير العريضة التي كفرت بالدولة الحديثة ووجدت في النموذج الإسلامي في الحكم الحلّ السحري للفوز بالدارين: الدنيا والآخرة. في هذا السياق، تكون الحاجة الأساسية، حسب بن عودة دائما، هي الانخراط في مشروع لم يختلف عن مشروع التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، والذي قاده الفلاسفة التنويريون، أمثال فولتير، وكانط، ولايبنتز، وروسو و مونتين...إلخ يتمثّل في إعادة بناء الكائن الجزائري، كما كان مشروع التنوير الأوروبي هو بناء الإنسان الأوروبي. قد يكون السؤال البديهي هنا هو: بأيّ أداة يتم هذا البناء؟ كتب بختي يقول: “إن مجتمعا لم يتعلّم فيه الخطاب (أي خطاب) كيف يُنصت لما حوله من طيات وفتوحات، من انبثاقات واستثناءات، سيظل دون العتبة المستلهمة للنشاط الحر والنقدي كفكر وكسؤال، ولضرورات واقتضاءات [...] التراث الفلسفي واستطيقا وقطيعة، هو مجتمع وفي ما وراء حاجاته النفعية والآنية، مضطر لأن يعيد النظر في البنيات الأسطورية والسحرية والعجائبية المتحكمة في ردود أفعاله وفي تصوراته للعالم. ستظل هذه الحقائق كموجودات تترقب انفجار المنعطف العقلاني [...] لتتأكد أن إعادة بناء الكائن هي طاقة اجتماعية على جعل الرهان الفلسفي في مقدمة القرارات، أي استدعاء غير تكتيكي للهامش كي يراقب ويوجه ويعيد التفكير في التجربة". ستكون مهمة الفلسفة إنتاج مقاربة ابستيمولوجية لمؤسِّسات الخطاب العام، وإخراج الكائن من حالة الغياب كحالة لا تاريخية، إلى رحابة التاريخ والوجود، أي إلى مرحلة التدبّر والتأمل الفلسفيين في البناءات الثابتة لهذا المجتمع، من أجل تخليص الكائن الجزائري من سلطة الخرافي والأسطوري التي شكّلت وعيه على شكل من أشكال الصمت، واللافعالية. وتظهر الغاية التنويرية للفلسفة في إعادة الثقة بالعقل كأداة لممارسة الفكر وإنتاج المعرفة النقدية بالواقع، ومن هنا يكون رهانها الصحيح هي التأكيد على محورية الإنسان، كقيمة تعضدها الحاجة إلى إقامة نظام سياسي يجعل من صوت هذا الإنسان قيمة مضافة ومؤثرة في اتخاذ القرارات المصيرية. إن الديموقراطية - إذن - كنتيجة لما قلناه سابقا “هي نتاج ثقافي يتربى في وسط يزدان بالألفة والعقل والإنصات والأنوار، نتاج لا يتفوق فيه السياسي على الإبداعي مهما ظل منزع الدولة - الأمة هو صاحب السيادة وصاحب المطلقية [...] إذ لا تعني الديموقراطية كفضاء يشتغل فيه وعليه المجتمع المدني سوى هذه الإمكانية على تحويل الفرداني إلى جمعوي من داخل الشعور بضرورة الآخر والغيرية".. بختي بن عودة. ما الديموقراطية؟ يجيب بختي بأنها ثقافة الاعتراف بالآخر وبالغيرية، التي تدرّب الإنسان على تعلّم أبجديات مغايرة غير تلك التي تلقاها في حضن المؤسسة، تلك التي تقترن بالعقل وبالألفة والأنوار. دال الأنوار يحظى بامتياز خاص في معجمية بختي، لأنه الأساس الأنطولوجي لمفهوم الحداثة. هنا تتجلى الفلسفة كأصل إنساني، طالما أن فكر الأنوار هو الذي أنتج وعيا جديدا وعميقا بالإنسان، فليس غريبا أن تنبثق النزعة الإنسانية في خضم المعركة الكبرى ضد قوى الظلام التي توارت خلف أردية الدين ومقولاته المتعالية. بين الفلسفة والديموقراطية أكثر من مسار تلاقي، من هنا فإن الاستبداد هو ميتافيزيقا العماء، والديموقراطية ميتافيزيقا البصيرة والتبصّر طالما أنها منتوج نور العقل. وبأي ثمن؟ هذا سؤال آخر، يقول عبد الرزاق بلعقروز في كتابه “السؤال الفلسفي ومسارات الانفتاح": “إن مهمة الفيلسوف اليوم تتحدد لا باعتباره معايشا لقيم عصره أو مجرد شاهد عليها، بل ينخرط بقوة في نقدها وأن يكون الضمير السيء لقيم هذا العصر، وأن يبدأ التفكير بطريقة مختلفة". أي لابد أن نقرأ الصورة المؤثرة لتدخلات الفلسفة في الشأن العام من زاوية نظر حماة الواقع، ودعاة استمرار النظام في اجترار نفسه والتناسل ذاتيا والتوالد مثل الخلايا السرطانية التي ترفض الاستسلام لأي شكل من أشكال المضادات الحيوية، الفلسفة هاهنا تتحوّل إلى الضمير السلبي للمجتمع بالنسبة لحراس المعبد، لأنها تحرّض باستمرار على البحث عن أشكال جديدة وآليات مغايرة للتفكير. وقد حاول بلعقروز أن يطرح سؤالا مهما حول الحاجة إلى الفلسفة بين الضرورة البيداغوجية والضرورة الحياتية، صحيح أن الجامعات في الجزائر وحتى في الوطن العربي تتوافر على أقسام للفلسفة، ويتم تلقين التلاميذ والطلبة مبادئ الفلسفة وتاريخها وأعلامها الذين أنتجوا الثورات الكبرى التي غيّرت من وجه التاريخ البشري، والذين أحدثوا القطائع المعرفية الكبرى، وصحيح أيضا أن المكتبات تعجّ بكتب الفلسفة، لكن ما علاقة الفكر الفلسفي بالواقع العربي أو الجزائري، هل استطاعت المؤسسات الجامعية أن تدرّب الطالب مثلا على امتلاك وعي متحرر يجعله يفكر لا في المقولات الفلسفية المتعالية، لكن أيضا أن يعلّمه كيف يحوّل المعرفة الفلسفية إلى أدوات لقراءة الواقع الذي يعيش فيه. وإن كان بختي قد تدارك القضية وهو يطرح السؤال التالي: “في ظل (دولة العسكر) كما يسميها الباحث المغربي كمال عبد اللطيف، ماذا يعني يا ترى هذا المطلب؟ ألا ينبغي الشروع (المبنين والعالم المحتوم واللاانتظاري) في تحليل نقدي صارم لهذه الدولة، لهذه المؤسسة كعقلية واستراتيجية وآمال، تحليل يستمر لا محالة في التشكيك بكل ما أنتجته وترمز إليه وتحيل عليه، أي بتلك المقولات والكليات والتعميمات التي تضمن لها مزيدا من الوقت لفرض الهيمنة وتقسيم الأدوار وضبط الفضاءات. هذه مهمة ابستيمولوجية محضة تتطور من خلالها أفكار مغايرة ونماذج جديدة تؤطرها الكتابة وأشكال التأريخ الحديثة..". أن يشير إلى دولة العسكر فهذا يعني أن بختي وعى جيدا أن الفضاء الحقيقي للفلسفة لن يكون مسيّجا بأسوار الدوغمائيات حيث يقف عند عتبة كل عقل رجل أمن يراقب حركة الأفكار. السؤال الفلسفي هو سليل الفضاء الديموقراطي، وهذا الأخير - باعتباره مشروعا - لن يتحقق ما لم يتم مساءلة الدولة لا كجهاز بل كمنظومة رمزية من القيم، كثقافة. لابد أن ننتبه هنا إلى ضرورة اللجوء إلى ميشال فوكو لنتعلّم كيف أن الثقافة كما المعرفة قد تتواطأ مع السلطة فتسدي لها خدمات جليلة من خلال إيجاد آليات متقنعة بهالة الفن والثقافة يكون غايتها تدجين الإنسان... أين هذا المشروع الذي يستلهم من أمثال فوكو جرأة الحفر في مجهول الدوال التي تأسست عليها الدولة في الجزائر، في الوقت الذي تعود الأسئلة نفسها لتطفو على السطح المتحرك والقلق دون أن يجرأ أحد على الاقتراب منها؟ هو السؤال الذي ربما لم يسعف الموت بختي ليجيب عنه، لأن الرهان على السؤال الفلسفي هو في سياقنا كالسير على أرض ملغمة... ذهاب في اتجاه الخراب. (الخراب بالمعنى الحقيقي لا المجازي). بن علي لونيس*أستاذ النقد الأدبي والأدب