1 - كيف يمكن تحديد العلاقة بين اليوتوبيا والتاريخ؟ ومَن مِنَ التاريخ أو اليوتوبيا أكثر حلُما بالآخر؟ وهل يمكن اعتبار اليوتوبيا مقدمة سابقة للفعل التاريخي وهو آخذ طريقه إلى التحقق في الواقع، ولكنها تُكتب في آخر هذا الفعل؟ أم أن التاريخ هو السابق في رسمه لملامح اليوتوبيا بالنظر إلى ما لم يستطع رجالاته تحقيقه على أرض الواقع، ومن ثمة يكون هو المؤسس الأول لطموحات من تلعب برؤوسهم مكائد التاريخ جراء خذلان معرفي، أو نزوة جسدية، أو نعرة قبلية، فتؤدي بهم إلى استباق الواقع بناء على ما يفرضه عليهم من دروس يعتقد هؤلاء الطموحون أنه من اللازم أخذ الاحتياط في احترام دفتر شروطها اتقاءً لقدرته على تحويل دروسه إلى مكائد، وعِبَرِه إلى مصائد، وأحداثه إلى روايات مأساوية عظيمة يتلقفها المبدعون المحاذون للسلاطين فيجبرون القراء على الإيمان المسبق بجدوى تحقق الحلم النابض في جوف الثورات القادمة؟ ثنائية تبدو متضاربة في ما يؤسس لوجود طرفيها تماما كما التضارب بين الحلم والواقع. كل محاولة للدمج النهائي بينهما تبدو وكأنها خيانة لهذه الأسس التي بُنيت عليها نظرا لاستحالة التوحيد بينهما. وكل فصل نهائيّ بينهما لا يمكن أن يتحقق نظرا لإيغاله في مثالية تتجاوز ما يمكن أن تحمله كلمة (اليوتوبيا) من معان لم تقطع علاقتها النهائية بالواقع نظرا لاستحالة التفريق بينهما، حتى ليبدو أن التاريخ لا يمكن أن يكون إلا يوتوبيا غير مكتملة، وأن اليوتوبيا لا يمكن أن تكون إلا تاريخا غير مكتمل هو الآخر. غيرُ مكتمل (ة) تعني في ما تعنيه كذلك مشوّه (ة) في الأصل، أي مشوه بالصورة التي لا يجب أن يتحقق بها سواء أكان تاريخا طامحا إلى الكمال أم يوتوبيا حالمة في رؤية نفسها تتجوّل في شوارع مدن الملح المأسورة بين ماسورة بندقية وكاميرا حراسة في شارع من شوارعها يحمل اسم زعيم ثوري سابق. 2 - لقد تحولت الكثير من أحلام اليقظة في يد الحكام عبر العصور إلى دكتاتوريات اختلطت فيها فكرة الحلم كما تحمله اليوتوبيا نظريا بوصفها (لا مكان) بما يحمله المكان من ثقل واقعي يسيطر على خيط الحلم العابر للذات الحالمة ويُخضعها إلى مقاسات الواقع من أجل صناعة تاريخ على المقاس. ولعله لذلك، يحمل التاريخ في رواياته المتخفية، الشفوية غير المروية، والمرويّة غير المكتوبة، والمكتوبة غير المحققة، والمحققة غير المطبوعة، والمطبوعة غير الموزعة توزيعا شاملا، العديد من اليوتوبيات التي أودعها صانعوها في حَرَجِ اللحظة التاريخية وهي تخضع تحت مشرط أفكارهم المثالية إلى عمليات جراحية حوّلت التاريخ إلى مجرد أكاذيب مُرَسّمة تردّدها الأجيال في فناءات المدارس كما لو أنها حقائق حدثت فعلا في يوم ما على أرض الواقع بالطريقة التي يرونها بها. هل يمكن لليوتوبيات أن تولد في غير أذهان الكتاب والمبدعين عبر العصور؟ وهل لها أن تبقى (يوتوبيا) فعلا إذا ما أعيد كتابتها من طرف من يعتقدون من الكتاب والفلاسفة والمفكرين أنهم أحق بالتنظير لها في حين أنهم لم يكونوا في كل ما كتبوه عنها غير رواة مخلصين، إما لما حققه صنّاع التاريخ بوجهة نظرهم من ذوي أحلام اليقظة من شرخ حالم في الواقع، أو لما توهموا أنه الحلم الطوباوي الواجب تحقيقه من خلال المرور القسري بالدهاليز المظلمة التي تفصل حقيقة اليوتوبيا عن أكاذيب التاريخ. فهل لها أن تتحقق في غير ما يدل عليه معناها؟ وهل يمكن للتاريخ أن يتطهر مما لحق به من دنس جرّاء إصرار الحالمين الكبار على تشكيله وفق إراداتهم الممزوجة بأمزجة اللحظة المتغيرة وبخلفيات المصلحة المتخفية بعناية في ثنايا الحلم الهارب من بين أيدي الفقراء إلى السلطة، سلطة التكريس السرمدي في مدونة التاريخ وهو يخبر بعد مرور هالة الانتصار على الحقيقة، عن صدأ ما خبّأه للأجيال القادمة من أحلام غير منجزة، وعن رتابة ما دبجه لهم من أناشيد لا يستسيغ سماعها الضوء؟ فهل كان كل هذا الحشد الكبير من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين بمختلف اتجاهاتهم مخطئين عندما أرادوا أن يجعلوا من (اللامكان) فضاء لتحقيق أحلامهم وتحويلها إلى واقع ملموس؟ وهل كانوا فعلا واقعيين عندما أرادوا أن يتخلوا عن الواقع بكل ما يحمل من ثقل وجودي، نظرا لعدم قدرتهم على تصور علاقة حقيقية بين الحلم بوصفه يوتوبيا مجنحة وبين الواقع بوصفه مكابدة بائسة؟ وهل يمكننا أن نتصور مسافة فاصلة، أو "منطقة وسطى" على حد تعبير الشاعر العربي نزار قباني، بين جنة الحلم ونار الواقع؟ 3 - ربما نكاية بها ومكرا وتنكيلا، لا يمكن أن نتصور التاريخ وهو يقدم ورودا حقيقية أو حتى بلاستيكية لتهنئة (اليوتوبيا) على ما قدّمته له من خدمات عبر كل العصور التي مرا بها متلازمين غير متباعدين في احترامهما للمسافة الرابطة بين مفهوميهما والفاصلة بين ما يخفيانه من تناقضات كأنهما خطا سيْرٍ لا يلتقيان. كما لا يمكننا أن نتصور، نحن الغافلين عن فهم طبيعة ما يمكن أن يعتلج داخلهما من غيرة وجودية ناتجة عن قصة عشق سرية بينهما، أن التاريخ قد كان فعلا (يوتوبيا) ذات يوم، وأن الكتبة، كلّ الكتبة بمن فيهم كتبة الرواية - رواية التاريخ طبعا - قد رسّموه واقعا على الورق الأبيض الناصع بأمر من أولي الأمر والنهي، صانعيهما معا. ألم يستنجد أبطال اليونان بالسماء لكثرة ما تحطمت أحلامهم الكبرى في السيطرة على قلعة (طراودة) الحصينة ثم نكران ردّ الانتصار أو جزء منه إلى الآلهة اليونانية مما أدى ب (أوليس) فيما بعد إلى دفع ضريبة استحواذ المفاهيم الأرضية على أخواتها السماوية فمارس جرّاء ذلك يوتوبْيَاهُ الوجودية في بحر المغامرة الحالمة المتحدية للعراقيل الأرضية المتمثلة في ما سلطته عليه الآلهة الغاضبة من عذابات بحرية؟ وماذا لو لم تكن (اليوتوبيا) بالمختصر المفيد غير مجموعة من الجنود المختبئين في جوف حصانٍ خشبيٍّ ينقلبون فجأة على مجريات التاريخ كما خطط لها من سبقهم، ويجبرون الشعوب بعد ذلك على الاقتناع بأحقية تصحيح المسارات الثورية المائلة إلى ما يشبه الفيوضات الشخصية لمؤسسيها الأوائل؟ ألا يحدث هذا كلّ يوم في جمهوريات الموز؟ ألم يكن مصرع (أخيل) في كعبه؟ ألم يقلب الأبناء على آبائهم؟ ألم يسقط الملوك بمكائد المنحدرين من سلالاتهم؟ وماذا لو لم يحرق نيرون روما؟ ماذا لو لم تسقط بغداد تحت قصف افتراضيّ عنيف صُوّر على حين غفلة في استوديوهات هوليوود العربية؟ وماذا لو لم ترضخ طرابلس لحيلة صبيانية مشابهة؟ وماذا لو لم تكن دمشق تحترق بنيران الإخوة الأعداء جراء حلم سيتبين بعد انتهاء المعركة وانتهاء حلم الحالمين، أنها لم تكن أكثر من حلم بائس حاول تحقيقه من تراودهم أحلام اليقظة بصورة مرَضيّة دامسة؟ ربما وُلدت الأيديولوجيات أصلا في أذهان من نظّروا لها يوتوبياتٍ سرعان ما تحولت إلى أحلام يقظة ثم إلى واقع رابض في منتصف الطريق. وربما كان التاريخ، في حراكه العويص لتطويع البشر الخارجين عن طاعته والراغبين في إخضاعه إلى طاعتهم، وفي أحد أوجهه، مجرد رأسمال ماركسي مستخلص من تراكم فائض الاستغلال الذي خلد عائلة الملوك الانجليز. وربما كان التاريخ مجرد مقدمة خلدونية كُتبت بعد كتابة التاريخ نفسه. ألم يخطئ ماركس في التنبؤ بتحقُّق يوتوبِيَاهُ في انجلترا فَعُوِّض عن ذلك بما حمله له لينين من نبوءة كان قد سبقه إليها عرّاف القيصر (راسبوتين) قبل ذلك بكثير من التفاصيل الخيالية المحبوكة روائيا، وبقليل من الحيلة المتروكة للمؤرخين ليبتّوا في صحتها، فأدت إلى هلاكه مقتولا سنة واحدة قبيل هلاك آخر القياصرة الروس وانتصار الثورة البلشفية؟ ألم يكن ماكسيم غوركي عرافا راسبوتينيّ التوجّه في الفترة نفسها؟ ألم تكن رواية (الأم) وهي تأخذ طابع المباركة من لينين نفسه مجرد تعويذة متأخرة لما سيلحق بالظلم القيصري منْ ظُلْمٍ شيوعيٍّ أظلم منه أدى بالوجه الآخر لليوتوبيا، ألكسندر سولينيتسين إلى امتطاء روايته الكبرى (العجلة الحمراء) من أجل الفرار بجلده خوفا من المصير الذي انتهى إليه (راسبوتين)؟ ألم يجعل ابن خلدون (مقدمته) التي كتبها في آخر مشواره في البحث عن (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) خلاصة نظرية حالمة لما يجب أن يتجنبه الحاكم المستقبلي الحالم بِلَيِّ عنق التاريخ لأن أحداث التاريخ سبق وأن لوت عنق أجداده في المجلد (كذا..) مما يحمله هذا العنوان الطويل الدّال على أسبقية الفعل على الحلم، وكذلك على أحقيته في صياغة اليوتوبيات المستقبلية صياغة مرجعية تستأثر بدافع العبرة الكامنة في الدرس الخلدوني، كما رواه هو الشاهد العابر للفضاء المغاربي عبورا مأساويا كاد أن يودي بحياته غير ما مرّة جرّاء تهالك ملوك اللحظة من غرناطة إلى فاس إلى تاهرت إلى القاهرة إلى دمشق، على مطاردة هذا الحالم العظيم وهو يعبر صغائر أحلامهم الكبيرة، فدون بحرقة وبمرارة مَا جرى لقبائل (كتامة) و(لواتة) و(مكناسة) و(زناتة) وغيرها مما لم يعد يطلّ عليه القارئ المعاصر من حراك حاول زعماؤه العابرون الحالمون هم كذلك أن يجدوا لهم مكانا في معترك أحداثه كما دوّنها ابن خلدون في تاريخه، ومكانة في منتجع يُوتُوبْيَاهُ كما حدّد استراتيجياتها في مقدمته النظرية المشهورة؟ 4 - كثيرا ما حذّر المُحذِّرون، بناءً على تجارب سابقة مريرة، ممن تراودهم أحلام اليقظة لأنها أقرب إلى التحقق من طرف هؤلاء الحالمين اليقظين المرابطين على تخوم التاريخ والساهرين على ترصد ما يحدث من متغيرات على خطوط التماس الفاصلة بين أحلامهم وبين حراكِه التارك أمره لحالمين سابقين يعيثون في تفاصليه ما شاء لهم عمقُ خنادق المعارك المملوءة بالجثث البريئة التي لم تكن في بداية الأمر، وفي نهاية الأمر كذلك، غير لحم مدافع وعجين منجنيقات متأهبة لتسليط جام غضبها على الأحياء الفقيرة من مدن الملح التي لا تذوب حتى تُذِيبَ كلّ حلم قابل للتحقق فيها، التي يختبئ فيها عادة، نظرا لصلة الثائرين الوطيدة بالفقر، من كانوا وسيبقون دوما خطرا على خطر ما تحمله اليوتوبيا من وعود لا تتحقق إلا بتقديم نُذُر الدماء إلى المعلم الأول الذي هو التاريخ. مرحبا باليوتوبيات إذن، إذا كانت تؤدي دائما إلى النتيجة نفسها. مرحبا بها في قصرها المبنيI في باحة التاريخ من طموح الحالمين ودماء الملايين من أتباعهم من الجند المدكوك في مُبردات الوطن الكبرى لحوم مدافع تستنفر عند الضرورة. إنها في هذه الحالة بالذات، تعيد شحذ الوعي الضامر على مرأى من الأَسِرّة المنتشرة في المستشفى الكبير، لتهيئتها لخوض دورة أخرى من الدورات التي تحترمها الطبيعة احتراما دقيقا، وذلك بإعادة ما يمكن للتاريخ أن يعيده على التلاميذ غير النجباء من درس مكرر، لعلهم ينجحون في دورة استدراكية تؤهلهم للدخول في منظومة التصور الجاهز الذي تفرضه الرواية الرسمية وترفضه أوجهها الأخرى المخفية بعناية في الباحة الخلفية للحلم الوطني الجميل.