"جبل نابليون الحزين"،عنوان روائي مستفزّ، ضمن ريبيرتوار الرواية الجزائرية الصادرة لهذا العام.رواية سيتمّ عرضها ضمن منشورات فسيرا بمعرض الكتاب الدولي،والذي تمّ أيضا تأهيلها إلى جائزة البوكر العالمية للرواية العربية 2010\1011. رواية، تصدر لكم رفقة مجموعة من الأعمال الأدبية والفنية والفكرية و"الترجمات" التي رأت النور داخل الوطن وخارجه. أجرى الحوار : سليم بوزيدي رواية مستفزّة عبر عنوانها أولا، وعبر مضمونها السردي والشعري والتاريخي والأسئلة المجترحة لمرحلة دامية بجنونها،بعفويتها، بجهالتها، بدسائسها، بمستقبلها الذي أفرزَته وقد خلّفت في الذاكرة الجزائرية الكثير من النُّدب ومن المعالم الكليمة التي لا زلنا حتى الساعة نتجرّع ما تبقى في كأس مرارتها.
- هل الرواية، وفق هذا، هي استحضارٌ للماضي،أم خلقٌ جديد للحاضر، أم آتي حكمةٍ فنية ما؛ تختلف بحسب درجة وعي الكاتب طبعا؟ - لا يمكنني أن أحصُر مبتغى أيَّ عمل فني، مهما كان نوعه ضمن (إجبارية) الأخذ بأيِّ زمن كان. زمن الإيديولوجيات انتهى أمره، والإبيستيمي العالمي عامة فيما يخص الذهنية الفنية، لم يعد ينبني على التقوقع تحت أيّ فضاءٍ كان. تم اغتيال المرجعيات المتعالية، ثم السماوية، ثم الدينية، ثم المعرفية المتطرّفة؛ أي الباترياركية عموما، من أجل رفع حجُب الوصايا كلية. من هذا المنطلق، سوف يبدو الأمر انغماسا مطلقا في نوع من السديم أو العدمية أو العبثية، ومن هذا المنطلق، سوف أؤكد بأن الأمر هو فعلا كذلك ! - هل يعني هذا بان الأديب ليس محكوما بأي رسالة تجاه مجتمعه والإنسانية ؟ - نعم ..هل يبدو لك الأمر غريبا ؟ - بالطبع.. !! - لا عليك ، فسياط المنع والبتر والتوجيه والأدلجة ورسم السّعادة الإجبارية، رغم كل هذا،لا تزال سارية المفعول،وبشكل عميق ومؤثر بعنف على الرؤية الفنية، التي نادرا فقط، ما تجد لها مجالا حقيقيا، بلا وهم، نحو الإبداع الحرّ الأصيل. لذلك، فأنت تجد الكثير من يمارس الكتابة، ولكنك تعثر على القليل جدّا من الكُتّاب الذين يحفرون حجَرة الزّمن العصية بإبداعهم. رغم هذا، فإنني سأكون نوستالجيا بعض الشيء،وسوف أتعمّدُ مرغما التقليل من حدّة هذه – الحقيقة النهائية في "ديانة الشاعر"-، مثلما يقول طاغور، كي أنزل عند بعض الوضعيات الخاصة بمجتمعنا المتخلّف جدّا جدا تجاه (الواقعة الأدبية)،والذي مازال يدعو بإيمانه نحو إثقالِ تلك الواقعة برُزَمِ الرّسائل والدعاوي والمرجعيات التي تجعل من العمل الأدبي نوعا من التميمة التي يستعين بها المشعوذون لفكّ الطلاسم.لا زال الكاتب عندنا، والقارئ خاصة، يعتاشون فيما بينهم على منطق المشعوذ والمريض الذي هو بحاجة إلى تمائم تقيه خطر اللاطمأنينة والشكوك والهلع والمخاوف الناجمة عن فلسفة الترهيب التي تربى عليها وربى وفقها ذائقته ومن هم تحت ولائه. الحرية، قبل أن تستمر في مفهومنا المغالَط، في كونها فوضى وانغماس في العبث،هي مسؤولية تجاه حقوقنا وواجباتنا المختلفة. هي مطَالبة مستمرة بالحقوق التي تمتهن آلات القمع الدينية والسياسية منعها عنّا. لذلك فإن "اللامسؤولية" التي قد نستشفها من كلامي أعلاه،هي في حقيقة الأمر مطلب ابتدائي لا يمكن الحصول عليه، ولكنه يعدّ بمثابة الفلسفة الوحيدة التي بإمكانها أن تجابه تلك الآلة القمعية التي تحدثتُ عنها. فالوسط هو حتما، منطلقنا. والمجتمع أو الإنسان،هو حتما مبتغانا. ولكننا بالمقابل، نرفض أن نتقمّص أدوار الرّسل أو الآلهة أو المحرّرين مثلما يفعل في لاوعيهم المتأدلجون. ولذلك فإن التنصّل الباتريركي، يعني التنصل من كل أنواع الهيمنة التي تشكل بنية وعي الكاتب، بما في ذلك هيمنة النصّ في حدّ ذاته.وهنا ينفتح مجال آخر للحديث. منطلق روايتي إذن، كان واقعا جزائريا معينا نكش البلاد في العمق ولا يزال. الإنسان كائن تراكمي حتما، ولكن ليس كل إنسان يحسن قراءة تلك التراكمات. ولكنّ هذا لا يعني بتاتا أيضا، بأن عملي الروائي ذلك هو تأسيس كرونولوجي لحلول معنوية ما من أجل مبتغى مادي ما. أولا، لأن الواقعة الأدبية في عالمنا المتخلّف،لا يمكن لها أن تؤسس لأكثر من كونها حبكة لغوية مربوطة إلى سماء الظروف المعدمة في الغالب. ثانيا،لأن الأبطال الذين سأعيرهم - مثلما يكتب جورج طرابيشي- للتاريخ، هم أبطال يؤسسون واقعتهم الأدبية وفق منهاج تحريري ينبثق من الألم والحزن والتّعب من الأوضاع المزرية والموت(أي من بهارات الكتابة)...هم أبطال ينبغي نسيانهم،لا الإقتداء بهم، أبطال لا يحملون حلولا سحرية لهذا الكون ولا يبشرون بغد أفضل في أرض القمع والخوف. وهذا أيضا هدف روايتي: فهي تترك للقارئ إمكانية الحلم بحلول ما، إمكانية تأسيس مستقبل معين متروك للدروس التي نستشفها من قراءة التاريخ، وليس من رسائل الكاتب. بكلّ تواضع سأقول لك، بأن البطل عندي،هو مشروع نسيان. لا يهمني كم من القارئين سيتذكرونه، ويهمني، كم من القارئين سيتحررون منه ! . - نفهم من خلال هذا،بأن العمل الروائي لديكم،هو قبل كل شيء تأسيس لوعي معيّن،أي لفلسفة حياة ؟ - لا أعرف لماذا تصرّ على تجريمي بهذه الأعباء التهديفية !! ولكي أريحك، سوف أقول لك من باب طاغور ذاته الذي تحدثت عنه آنفا:"الحقيقة اللانهائية، هي الحقيقة النهائية "،بأن "الرسالة النهائية، للرواية عندي، هي اللارسالة النهائية".وطبعا، سوف تتم حبكة العمل عندي على هذا المنوال، من خلال الاشتغال على رسم منحنى لا منتهي للوعي في عملي، وإن شئتَ أن تسمي هذا بما يُعرف ب "الرواية العالمة" مثلما سماها بعض المتتبعين، فلتفعل هذا بكل أريحية. لا أريد أن أرتكب حمق تكميم أفواه شخوص روايتي،وجعلهم ينطقون بمكبوت مكنوني، ولكنني صارعتُ هذه المكنونات بقدر الإمكان كي امنح العديد من الجهات صوتا حرًّا. ورغم هذا، أعترف بأن التناقض والأنانية الإنسانية لعبا دورهما كما ينبغي في عملي. للنقاد بعد هذا أن ينصّبوا مشانقهم كما يشاءون،فالعمل الأدبي حرٌّ من قيودهم ومن مآربي حالما يخرج إلى الضوء.ووحده التاريخ يمتلك سيف التقييم والقويم. الكثير من الروائيين، يعشقون لعبة تصفيف الأحداث، ويتغاضون عن جماليات النّسج اللغوي.يعتقدون بأن كثرة الأحداث التي تتضخّم كالبواه كفيلة باجتذاب انبهار القارئ وبالتعالي عليه وبتعجيزه عن الهروب من عصرة عضلاتها المميتة. لا أحب ثعبان البُواه، أفضّل الحسُّون الذي يعتلي غصن شجرة الجمال،ويسترسل في الألحان وقد تماهى مع المعنى اللامحدود وأفقد سامعه مصدر ذلك الصوت الجميل، فلم يعد يكترث للجهات، بقدر اكتراثه بضياعه وانفتاحه على المدى. للرواية في حضرتي، دور الندّاهات في الأنتولوجيا الإغريقية، لا مصدر لأصواتهنّ. كل الجهات جهاتهنّ. من يجازف من القرّاء بالبحث عنهن يضيع. من يسكر ويفقد (الوعي) لا يعود إلى أهله، وهو هالك لا محالة. لذلك سعيت من خلال دراستي لأعمال مالك حداد مثلا،عبر: الحياة هي دائما موت أحد ما"، إلى التخلّص من سطوة النص الروائي لدى مالك، وعدم الانسياق الجارف نحو لذّة النص عنده، وأسست لمشانق تعليق جماليات النص المالكي،بعد أن تزوّدت بتقنيات القتل عند دريدا وأنطونان أرتو.
- وهل نجحتَ في التخلص فعلا من تأثير نص مالك حداد في روايتك؟ - - في المنهج الأركيولوجي،لا تتشابه المنطوقات كثنائيات أبدا. لا تتشابه الألوان. لا تتشابه النصوص.لا تتشابه الجماليات. لا تتشابه تصوّراتنا لجهات المصادر أيا كانت. فالعقل البشري مركّب بشكل مختلف تماما بين البشر،ولا يمكن له أن يتشابه تجاه أي شيء.عالم المطابقات انتهى منذ قرون عدّة، إلا في عالم التوائم الشبيهة،لأن أصلها الجيني واضح. وحتى في هذا العالم الأخير، فإن المؤثرات الخارجية ستلعب دورها بما يكفي لخلق بعض الاختلافات الدقيقة جدا التي يدركها الإنسان الذكي بسهولة. لن أنكر فضل مالك على تكوين رؤيتي. وأنا فخور بذلك وممتنٌّ لصاحب "التلميذ" الذي لا يمكن له أبدا أن يحفظ "درس" الحياة. ممتنٌ له لأنه كتب ذات كتابة عالية، بأنه هو الوحيد الذي يملك الحقّ بمحاكمة قصيدته، وأنه لن يمنح هذا الحقّ لأي كان". وهذا في نظري، أكبر محرّر لي من طغيان جماليات النص عند مالك حداد.لأن الكاتب العظيم،حسب اعتقادي،هو الكاتب الذي يحرّر،لا الكاتب الذي يأسِر.ومنذ بداية عملي الروائي،كان هدفي أنا أيضا،هو هذا. الكُتاب الكبار،يحررون بعضهم بعض.الكُتاب الصغار،يأسرون بعضهم بعض،ويزرعون حبوب التبعية في أرض بعضهم بعض. - هل يعني هذا بأنك تعتبر نفسك كاتبا كبيرا؟ - بل كاتبا منتهيا، يقرُ قبل خروجه إلى القارئ المستهلك، بضرورة جعل خانة انتهاء صلاحيته مباحة، دون السماح له بالمساس بجوهر النصّ.فهذا الأخير،هو ملكية خالصة للكاتب، ولا يمكن لأي كان أن يعتدي عليها. أليس هذا ما يقال عنه: الحرية؟ هنا مثال حي، حسب اعتقادي، للحرية في مفهومها الأدبي. - لم تجب عن سؤالي : هل يعني هذا بأنك تعتبر نفسك كاتبا كبيرا؟ - وهل تستطيع أن تبخل عني أنت، اعتبار نفسي كاتبا كبيرا؟. إن الخيال هو السلاح الخالص الذي يمتلكه الكاتب. فأنا أستطيع أن أعتبر نفسي ملِكا أو إمبراطورا أو جنرالا ! ما المانع في ذلك؟ ولكن مهمّة الواقع حينها، هي صفعي من اجل إعادتي إلى رشدي. وأخشى ما أخشاه، أن يكون الواقع ظالما حدّ قتل الحالم حين صفعه!. ففي البلدان التي لا تحترم الحلم، تتمّ تعبئة قوة الصفع بالمحسوبية، إلى درجة انه يتم أحيانا قتل الحلم نهائيا، ودفع الإنسان إلى مواجهة عراء الواقع الجاف، دون ادني شعور حميمي، يُبقى على نبض قلبك ساري المفعول. إذا أردتُ أن أحلم بأنني كاتبٌ عظيم، فهذا من حقي.ولكنني لن أكون ساذجا إلى درجة أنني سأجهر بذلك عاليا أمام الواقع الظلوم، حتى لا أتلقى صفعة الصّعق النهائي. سأكون كذلك، أمام مرآتي وأنا أتسلى بالتحدث إلى شخوصي.سأكون كذلك أمام حبيبتي وهي تضحك في قرارة نفسها من طفولة الكاتب فيّ. لن أجرؤ بأن أبوح بذلك لولدي حتى،حتّى لا ينمو في غفلة عن حقيقة الزمن.حقيقة الزمن التي تقول بأننا بؤساء دوما أمام وجودنا المؤجّل. - جمل كثيرة تخيط روايتك حول فلسفة الموت والنهاية والحياة والصدفة خاصة...أإلي هذا الحدّ يشكل قاموس الشقاء متن روايتك؟ - - هل تسمح لي باعتبار سؤالك، سؤالا عبثيا ؟ - - .. طبعا نعم !!. لماذا نابليون ؟ - أولا ،نابليون (الثالث) كان هو قائد الّسان سيمونيين الذين تكفلوا بتعبيد طريق جسر القنطرة الحجري العظيم بولاية بسكرة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر،والذي يفصل بين الجنوب والشرق،بين الصحراء والاخضرار. هو اسم علم ليس إلاّ. مرجع تاريخي عتيد. ستتشكل حوله كل حلقة الرواية التي تتأرجح تفاصيلها دوما بين حدّين فاصلين في تناقضهما، وتطرفهما. ثنائيات جدلية تتصارع فيما بينها، تأكيدا على انتهاء سيطرة أي معنى على الآخر. لذلك قلت بأن روايتي هي عمل تحرير، لا سيطرة فيه حتى على المعنى داخل الرواية. ستُعطى كل الجهات المتقاتلة أيضا فرصة لقول بعض من حقيقتها. فلا انحياز للحياة على حساب الموت. لا انحياز للخضرة على حساب الصحراء.لا انحياز للجنوب على حساب الشرق. كل شيء يحمل بدايتَه ونهايته في نفسه.
- وهل تعتقد بأنك عثرت على القارئ الخاص لروايتك؟ - - تبلغني الكثير من الأصداء الحميدة التي تستريح للعمل، ولكنها تطالبني دوما برغبتها في تمديدي لعمر العمل، وتدعوني إلى الانتباه إلى إمكانية منح أعمالي الروائية القادمة فرصة أطولَ للعيش.هناك من الأصدقاء حتى من سمى "جبل نابليون بال "رويّة"، مثلما أنعتتها بكل حبّ الدكتورة زينب الأعوج. ولكنني سأكون بسيطا جدا في الإجابة على آراء أصدقائي وأقول: شكرا لكم، هذا عملي الروائي الأول.وأعدكم بأنني سأعمل بنصائحكم مستقبلا.
- شكري كلمة أخيرة..
- أتمنى أن أجدك ذات أمسية في جبل نابيلون الحزين..وتحية لكل قراء الأيام.