المغرب الأوسط والذي هو الجزائر، يحز في نفوسنا نحن الجزائريين أبناءه، عندما نسمع كلمة تتردد في المشرق العربي وتتكرر أننا لا نحسن العربية، بل يذهب البعض من إخواننا هناك إلى الاعتقاد بأننا لا نحسن ولا نتخاطب الا باللغة الفرنسية، هذا الجهل بتاريخ الجزائر الثقافي وركائزها من الأعلام الذين ساهموا في تأسيس وتطوير الحضارة العربية من القمة إلى القاعدة، يعود ليس إلى نقص المصادر والمراجع التي ملأت الخزائن والمكتبات، وإنما إلى بعض الظن الذي تحول رجما بالغيب، فالجزائر بأعلامها وأقلامها، مازالت على مر العصور تثري الثقافة العربية وتضيف إليها الكثير من الإنجازات بدءا من بكر بن حماد وأحمد بن أبي داود بن أغروم الصنهاجي المشهور بالمقدمة الصنهاجية المعروفة بالأجرومية، والجزائر تصنع الحد ث الثقافي والعلمي، ومن بين أعلامها وأقلامها العلامة عبد الكريم الفكون القسنطيني. سبق أن تناولنا في الأعلام السابقة علما من أعلام قسنطينة، وهو العلامة ابن قنفذ القسنطيني، وها هي قسنطينة مرة أخرى تكشف لنا عن عالم من أعلامها حاز الإمامة والخطابة والكتابة والإمارة، إنه العلامة عبد الكريم الفكون. الثقافة في الجزائر ليست متقطعة، بل هي سلسلة متواصلة الحلقات أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكثير من الأسر الجزائرية التي تعاطت العلم وعملت به قرونا وأصبح من مهنها وحرفها، والبيوت العلمية في الجزائر كثيرة ومازالت تتعاطى المعرفة وتعمل على نشرها، كما أن هذه الأسر العلمية تحتفظ بالكثير من خزائن الكتب النادرة، سواء تلك التي كانت من تصنيف أبنائها أم تلك التي جلبتها من أماكن بعيدة أو قيضت لها النساخ فنسخوها بخط مغربي جميل. عائلة الفكون بقسنطينة عائلة علمية شهد لها القاصي والداني، ورثت السيادة العلمية أبا عن جد، فعالمنا عبد الكريم الفكون من مواليد قسنطينة، ولد سنة 988 هجرية 1580ميلادية بهذه المدينة العريقة التي تصبح فيما بعد من أكبر حواضر المغرب العربي العلمية، السنة التي ولد بها عبد الكريم، شاء لها القدر أن تكون نفس السنة التي توفي فيها جده عبد الكريم الفكون فيسمى باسمه، فمن هو عبد الكريم الفكون الحفيد؟ ينتمي عبد الكريم الفكون بن محمد بن عبد الكريم بن قاسم بن يحيى الفكون، إلى بيت علمي عريق من أكبر بيوت قسنطينة، أما أصل العائلة حسب بعض المصادر، فإنه يعود إلى قبيلة تيم العربية، بينما ترى مصادر أخرى أنها تعود إلى فكونة وهي قرية بالأوراس، وأصبح يطلق على هذه العائلة في القرون الأخيرة عائلة سيدي الشيخ. كما سبق وذكرنا، فإن عائلة الفكون من العائلات العلمية المؤسسة، فقد أسست زاوية وهي الزاوية الفكونية نسبة إلى العائلة، وإلى جانب دورها العلمي الذي كانت تقوم به، كانت تستقبل الوافدين عليها من الغرباء والفقراء و إيواء العلماء والطلاب. ومما اشتهرت به عائلة الفكون، توليها منصب الإمامة، فعبد الكريم الفكون الجد، أول من تولى منصب الإمامة والخطابة من العائلة بالجامع الكبير بقسنطينة خلال التواجد العثماني بالجزائر، وذلك بعد سنة 975 هجرية. عبد الكريم الفكون الجد اشتغل بالتدريس وإمامة الجامع الأعظم وخطيبه، وكان يرجع إليه العامة والخاصة في النوازل والأحكام، وقد اشتهر بالورع والتقوى مواظبا على قيام الليل والأذكار إلى أن انتقل إلى رحمة ربه تعالى. أما والد عالمنا عبد الكريم الحفيد، فقد تولى هو الآخر الإمامة والخطابة بجامع قسنطينة الأعظم وكان أميرا للحج، وقد توفي رحمه الله أثناء رجوعه من الحج بين الحجاز ومصر سنة 1045 هجرية، وقد ذكره المقري فقال عنه: "العالم الذي ورث المجد لا عن كلالة، وتحقق الكل أن بيته شهير الجلالة، بيت بني الفكون، هضاب العلم والوقار والسكون، لا زال الخلف يحيون منهم مآثر السلف " . ومما قال في عبد الكريم قوله : (ودام عبد الكريم فرد في العلم والزهد والولاية فهو الذي حاز فضل سبق وصار في الزمان آية). تعلم عبد الكريم الفكون الحفيد على يد والده الذي كان أول شيوخه، على يديه حفظ القرآن الكريم وتلقى المبادئ الأولية للعلوم في زاوية العائلة، وتفرغ للتحصيل في مختلف العلوم الشرعية واللغوية. ومن شيوخ عبد الكريم الفكون: الشيخ سليمان القشي من بلدة نقاوس، الشيخ عبد العزيز النفاتي الذي أخذ على يديه الحساب وبعض الفرائض، الشيخ أبو عبد الله محمد الفاسي المغربي، الشيخ محمد التواتي المغربي والشيخ محمد بن راشد الزواوي. ومن أهم الوظائف التي اشتغل بها، التدريس بالجامع الكبير بقسنطينة في حياة والده، كما درس في زاوية العائلة وفي المدرسة التي أسستها العائلة، حيث كان يدرس التفسير والحديث النبوي الشريف والفقه ورسالة أبي زيد القيرواني والنحو. خلف والده في إمامة وخطبة الجمع والأعياد وإدارة أوقاف الجامع الكبير وتقلد إمارة الحج وحصل على لقب شيخ الإسلام. لم يبق عبد الكريم الفكون متقوقعا في الزاوية أو خدمة التدريس والخطابة، بل كانت له علاقات تربطه مع علماء عصره، كانت تربطه بالإمام العلامة سعيد قدورة علاقة متميزة، كانت بينهما مراسلات، كما كانت له علاقة مماثلة مع بلغيث القشاشي وإبراهيم الغرياني والمقري صاحب نفح الطيب والعلامة المصري عبد الرحمن الاجهوري والسوسي المغربي. العلامة عبد الكريم الفكون ترك آثاره بارزة سواء من حيث الكتب التي صنفها أو من حيث التلاميذ الذين أخذوا عنه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ أبو مهدي عيسى الثعالبي، أبو سالم العياشي المغربي، يحيى الشاوي، بركات بن باديس، أحمد بن سيدي عمار، محمد وارث الهاروني، محمد البهلولي، أحمد بن ثلجون والعلى بن عثمان الشريف. بعد هذه الحياة الحافة بالعلم والخطابة والتدريس وخدمة شؤون الناس، انتقل الإمام العلامة إلى رحمة ربه بعلة الطاعون في ال27 من شهر الله ذي الحجة سنة 1073من الهجرة النبوية الشريفة الموافق ل 03 أوت 1663من ميلاد المسيح عليه وعلى رسولنا السلام. حياة هذا العلامة الزاخرة بالعمل والعلم والمشهود لها بالخير والتقى والصلاح، لو هذه الحياة دارت رحاها في أرض غير هذه الأرض، لأصبح هذا العالم الجليل على ألسنة الناس ولحولت سيرة حياته إلى قدوة يقتدي بها الخلف عن السلف، فما أحوجنا إلى تسجيل سير هؤلاء الأعلام وتخليد ذكراهم ونشر هداهم وتبين طريقهم، إنهم أبناء الجزائر.