ذلك الفتى لم يكن يتجاوز الواحد والعشرين من عمره.. يلمع من عينيه ذكاء شيطاني.. كان يجمع في شخصه كل التناقضات الخفية.. كان يبدو في لحظات ملاكا بريئا ويتحول في لحظات أخرى إلى وحش كاسر.. في البداية لم تعرف مريم العباسية الوحش الكاسر.. فقط الملاك.. فقط الملاك الذي سكنها حتى النخاع، حتى العظم، حتى الأعماق.. كان يبدو صامتا، ساكنا، ضاحكا، مطيعا، صادقا وفيا برغم خيانته للحاج، الرجل المسن، وفي لحظات الشك تتساءل، وتلح في السؤال، هل تحبني؟! هل تحبني؟! وكان ينظر إلي بعينيه المراوغتين، وهو يقول أحبك، أحبك يا مريم.. وثمة شيء بداخلي كان يثير فيّ قلقا شديدا، وأنا كنت أتجنب الالتفات إلى ذلك الشيء المثير للقلق بداخلي، كنت أتحاشاه، أصد سمعي عنه، أركنه كاللامبالية، كاللامصدقة.. وكان عندما يغط زوجي المسن في النوم، يتسلل إليّ، أشير إليه أن يصمت قليلا.. لكنه يظل يضحك بخبث وكأنه يتحدى ذلك الزوج المسن الذي يغط في سباته، يقوم، إنه نائم.. وماذا بوسعه أن يفعل غير النوم.. ويشير ساخرا إلى الجثة الغارقة في الكرى.. وهل هذا رجل حي؟! إنه مجرد هيكل.. لا شيء فيه يتحرك، انظري، فحتى عضوه، فهو ساكن، هامد وميت، وأنا أحاول أن أنهره وأحثه أن يقبض لسانه السيء عن الرجل الذي يحبه ويضع فيه كل ثقته، يقول، طز، أنا لا أحبه، إنه مجرد عجوز شرير، طماع، لو لم يكن كذلك لما اشتراك من أهلك بماله، هؤلاء الأشرار يسرقون منا حياتنا، إنهم في كل مكان، يملكون المال والسلطة والجاه، ولذلك فهم يعتقدون أنهم يمكنهم بسط يدهم على كل شيء.. كل شيء عندهم يشترى بالمال، أليس كذلك؟! لولا ماله هل كنت بين يديه، قلت لك.. إنه نائم، لا تكن شريرا هكذا.. هيا لنخرج، لنخرج، لنغادر الغرفة، يغادران الغرفة حيث ذلك الجسد المنهك مسجى.. يدخلان الصالة، تصرخ في وجهه، انتظر، انتظر، ما بك.. يجرجرها، يعريها، أنت لي، أليس كذلك؟! أنت لي.. ذلك الوغد أكرهه، لا أريد أن تمتد يداه المقرفتان إليك، هل فهمت؟! هل فهمت؟! يسقطان من الكنبة على الأرض.. عاريان مثلما ولدتهما أمهما يلهثان، يلحسها من أذنها، يعض أذنها..أي..أي.. انتظر، لا تعض، لا تعضها، يتلاعب لسانه الشيطاني بحلمتيها.. لون جسدها مالح، مالح جدا.. لا ترد، كانت ترتعش، قطة بين يدي وحش، يستيقظ فجأة من نومه العميق.. انتظر، انتظر، لماذا تعضني بهذا الشكل؟! أريد أن ألتهمك، هل فهمت، أنا الذي التهمك، لا ذلك الرجل المسن الخاوي.. صاحب العضو الميت..لا..لا.. ليس من الخلف، فقط انتظري، انتظري، أشعر باللذة وأنا أركبك يا كلبة من الخلف، لست كلبة، ما هذا الكلام؟! أسكتي، أسكتي، أنت كلبة، كلبة مكلوبة، لكن لا، لا، ليس من الخلف.. أووف..أووف... والآن، تمددي أيتها الكلبة.. انبحي أيتها الكلبة... أريدك أن تنبحي.. أنا لم أقل أعوي.. بل انبحي.. انبحي.. انظري، انظري،.. إفعلي، مثلي، ها أنا أنبح.. أحب أن أشعر برائحتك والنباح، أنا وأنت كلبان.. هكذا، هكذا، كلبان.. شدي، يا كلبتي، شديه بقوة... اووف...أووف... ماذا تفعلين، ماذا تفعلين.. إنه، في دبري..أصبعك في دبري يا كلبتي المكلوبة.. نباح عميق، نباح في غياهب الصمت الصاخب، والليل الشريد.. نباح، نباح.. مزيج من النباح والتأوه الشديد.. تصرخ، يصرخ، ينتهي الصراخ الهادر والحاد إلى أنين عميق، وأما الشخير، شخير الرجل المنهوك والمخدوع فيأتي من هناك.. صراخ وأنين وشخير.. من ذا الذي يسمع؟! يستيقظ المخدوع، ينادي، يضيع النداء في غياهب الظلام... يتحرك في فراشي، أين أنت؟! أين أنت؟! هل سمعت؟! لقد استيقظ، إنه ينادي إنه يبحث عني.. دعنا منه. دعيه ينادي، ارفعي رجليك، ارفعيهما عاليا.. وووف..اووف اووف.. إرفعيهما، ارفعيهما، إلى أعلى، إلى أعلى يا منصورة.. إذن كنت منصورة قبل أن تصبحي مريم.. وكانت تحكي.. تتهاطل الحكاية، متناثرة ككريات الثلج الذي يندف في صمت وخشوع.. كنت منهكة.. كان يقف أمام السرير.. أين أنت؟! أين أنت يا منصورة.. ثم، ثم، أنا هنا.. واختفى هو في الظلام.. أين كنت، أين كنت يا منصورة، أنا هنا، أنا هنا.. عنقيني يا منصورة.. لا، ضعي يدك على صدري.. نم، أنت متعب، أنزليها.. أنزلي يدك يا منصورة.. أنت متعب.. نم.. نم.. لا.. لا أريدك أن تدعكيه.. ادعكيه يا منصورة.. إنه ميت، ميت يا منصوره، حركيه، ايقظيه يا منصورة من موته، أما هو فلقد كان ينصت إلى هشرجات سيد منصورة بقرف.. ألا يخجل من نفسه هذا الوغد، كان يردد بينه وبين نفسه.. بل تجاوز الكلام حدود الهمس والتأفف ليرتفع قليلا ويحول في بحر ذلك الصمت المريب.. من؟! من هنا. يا منصورة.. اووف، نم، نم، لا أحد.. إنك تهذي، لا أحد، لا أحد.. وفي الصباح شعرت بالقرف من نفسها وبندم شديد، لكن سرعان ما تلاشى الندم بعد أسبوع وراحت الخيانات تتكرر كل ليلة.. ولم تعد تأبه به.. أصبحت أسيرته، سيطر عليّ شعور غريب، هل كان ذلك هو شعور الحب.. وكان يهددني أن يتخلى عني لو لم أزوده بالمال.. ما هذا الوجه؟! أين الحب؟! وكنت أصمت وأنا خاضعة، وأبكي وأنا خاضعة... ما الذي جرى، يا إلهي؟! ما الذي يحدث لي..؟! شيء كالقدر القاتل استولى عليها، سرق منها كل إرادتها.. أصبحت مسلوبة الإرادة.. وكان يهددني ويضربني.. وكنت أركض خلفه.. اتبعه مثل كلبة.. ابتعدي عني أيتها الكلبة.. أيتها الخائنة.. لكنني كلبتك.. كلبتك.. لا أريدك أيتها الكلبة، لا أريدك أيتها الخائنة.. وذات مساء استيقظ فتش عنها فلم يجدها، نهض من فراشه.. راح يتتبع مصدر الكلام الفاسق المليء بالفجور الداعر... كانا هناك مستلقين على الأرض، عاريين.. أجل عاريين.. كان يركبها كالحصان، وهما يلهثان ويتصرفان ويلوكان الكلمات النزقة الداعرة! صرخ.. لم يأبها به... صرخ، تلاشى الصراخ.. عوى بلوعة.. ارتفع الدم إلى رأسه ورأت الأشياء تتراقص من حوله... برودة تسري في مفاصله، زبد يصعد من فمه... سقط كالخشبة على الأرض وهو يهذي ويرتعش... وفي ذات المساء لفظ آخر أنفاسه في المشفى على إثر الصدمة القلبية...