المفارقات، من منظور جينيت، لها ارتباط وثيق بالمقاطع الزمنية، وبالجانب المنطقي الذي يفترض أن تتأسس وفقه، وهي، من جهة ثانية، ذات صلة بالعلاقات السببية الافتراضية، كما أشار إليها تودوروف في سياق آخر، لذا لا يمكن فهمها خارج هذه العلاقة. أمّا في حالة عدم الأخذ بعنصر السببية الداخلية، كمرتكز قاعدي لفهم ما أسس عليه جينيت، من الناحية التقنية، فإنّ الأمر قد يؤدي إلى تداخلات مفهومية. ذلك أنّ هذه المفارقات المنتمية للحقل البنائي ستفقد خاصيتها، لتصبح قابلة لتغيّر الأحكام. إذ إنّ الزمن الأحادي قد يصبح مفارقا في حالة انحساره لفترة زمنية معينة، ثمّ ظهوره من جديد كخاصية فنية. المفارقة في التحليل السردي لا تتعلق بإمكانية عودة الزمن الأحادي، بل بالشكل العام للبنية الزمنية، كما هي، أو كما تتجلّى للقارئ، في بنيتها الكبرى وفي بناها الصغرى. وعليه فإنّ التحليل الواصف لا يهتمّ سوى بالشكل، دون أيّ تدخل في اللمية، لأنّ طبيعة المنهج تحدّ من إمكانات القراءة إلاّ في الحدود المرسومة لها. ومن ثمّ يكون الكشف عن العلاقة بين المفارقة والموضوع، خرقا لضوابط التحليل السردي. لا يمكن، انطلاقا من هذا المنهج، الحديث عن سبب استعمال الزمن المركب، ولا عن مجموع العلاقات التي تربطه بالخطاب ونفسية الشخصيات والساردين والرؤى. وبالمقابل، يمكن تفكيك مكوّناته إلى مجموعة من العناصر القائمة على العرض، ليس إلاّ. أماّ المفارقة فتتوقف عند التشظي الذي يسم البنينة الزمنية في علاقتها الحيادية بترتيب الأحداث وفق نظام معيّن. اللاحقة: استعير هذا المصطلح من الإغريقية القديمة، وهو مؤلّف من السابقة ana(إلى الوراء) والمصدر lepsis (الأخذ)، وستكون ترجمته الحرفية: الأخذ من الوراء. أمّا معناه فمتغيّر من تخصص إلى آخر. لهذا لا يمكن تحديده إلاّ في سياقه، ومن ثمّ ضرورة التمييز بين السياقات تفاديا لأيّ لبس يبعده عن الدلالة. مع الإشارة إلى اللبس الحاصل في الترجمات العربية، إذ إنّ اللاحقة قد تعني كذلك suffixe، وقد جيء بالكلمة من اللاتينية (suffixus: التثبيت تحت)، أو ما يضاف من حروف في آخر الكلمة للتدليل على النسبة أو النوع أو العرق أو العلم أو المهنة، سواء باللغة المعيارية: (عربي، شيوعي، أصولي، ميكانيكي)، أو بالعامية التي تداخلت مع ألسن أخرى، كاستقدام اللاحقة (لي) من التركية العثمانية: (زميرلي، نسبة إلى مدينة أزمير). في حين تدلّ كلمة سابقة في التحليل السردي على النقيض، أي على ما سيأتي لاحقا، وليس على ما جاء في البداية، أو قبل الكلمة، كما يمكن أن يوهم بذلك الاستعمال السابق، برغم إقراره في المجامع العربية وفي القواميس. أما اللاحقة التي قصدها التحليل السردي فتتمثل في إيقاف القصة في نقطة ما والعودة إلى الوراء. وقد يستعمل بعضهم الاسترجاع كمرادف للاحقة. وقد نجده في الحقل الطبي ببعض المتغيرات: (analepsie)، ويعني استرجاع القوى بعد مرض، ومنه: (le traitement analeptique) الذي يقصد به العلاج الذي يعيد... وفي الحالتين نكون أمام عودة الشيء ثانية، أي تكراره مجددا، أو الرجوع إلى الحالة الأولى بعد فقدان. اللاحقة السردية: يتعامل التحليل السردي مع مفهوم آخر غير الذي ذكر سابقا، وذلك لتركيزه على الحكاية والأحداث، وليس على مكوّنات الجملة وصيّغها، ولو أنّه لا يغفل ذلك في بعض مستويات التحليل. ويفهم من وراء استعمال اللاحقة، العودة إلى الماضي وإيقاف سير الحكاية، مع أنّها لا تتوقف من حيث إنّها تسير بشكل مقلوب، أي إلى الخلف. ويقصد بالعودة إلى الوراء استحضار وقائع حصلت من قبل ولم تذكر في حينها، وإذ ينقل المحور الزمني السابق إلى غير موضعه فإنّه يفيد الإضاءة، مع أنّه يكسر الخطية المنطقية التي يفترض أن تكون عليها الحكاية، كما حصلت. وقد ذكر جينيت أنواعا من اللواحق: اللواحق الداخلية، اللواحق الخارجية، اللواحق التذكارية، اللواحق المضمّنة، اللواحق غير المضمّنة، اللواحق المختلطة، اللواحق الجزئية، وتدخل هذه التفاصيل في إطار المقاربة التجزيئية للدراسة التي تميّز ما بين العودة إلى الشخصية والحكاية وما بين العودة إلى الحواشي التي لها علاقة غير مباشرة بالعناصر المبأرة. الإضمار: وظفت الكلمة في سياقات متباينة، ومتجاورة في أغلب الأحيان، إذ إنّها تحيل على الحذف، مع وجود فروق ما بين المناهج في كيفية التعامل معها، فقد نجد بعض المسافات الفاصلة التي تشبه التنويعات على الأصل ذاته. أصل الكلمة إغريقي:(elléipsis)، ومعناها النقص والفقدان، وقد تحيل على عدة مفاهيم ذات قرابة جزئية أو كلية، وهي متداولة في علوم الأرض وفي الأسلوبية والبلاغة وعلم العلامات والنحو والسرد. يعرف باتريك باكري الإضمار كما يلي: إنه يساعد في مهمّة حذف بعض عناصر الجملة على خلق حيوية الجملة وإيجازها، ويصب هذا الحذف في الإيجاز الإضماري، أي في اقتصاد الخطاب والأسلوب، كما هو شائع في الفهم الإغريقي القديم: (brakhus: بمعنى قصير). يمكننا، مبدئيا، الإشارة إلى بعض الاستثمارات التي وردت في التداول الأدبي والمنهجي والشفهي، مع ما يميزها من فروق قياسا إلى ما قصده علم السرد في تناوله الجديد للبنية الزمنية وتمفصلاتها. في الخطاب الصحفي: تؤسس بعض الخطابات الصحفية المحترفة على الاقتصاد والتلميح، لذا لا يقدّم الخبر في صيغته التفصيلية، بل يعنى بالحفاظ على الدلالة بالاستنتاج، ومن ثمّ حذف بعض عناصر الجملة غير المؤثرة. وقد عالج هذه الظاهرة التواصلية الناقد أندري نيال في كتابه: تحليل محكي صحفي، معتمدا، في جزء منه، على يومية لوموند. قد ينقل الخبر كالتالي: مطر. البناء الهش. حذار. أو بهذه الصيغة: البناء الهش. مطر. حذار. أو: حذار. مطر. الهش... إلى غير ذلك من الخيارات. أمّا الفراغات فتنتمي لحقل الإضمار الذي يمكن أن يملأ وفق ثقافة القارئ وأسلوبه، ومهما كانت طرائق ملء البياض فإنها ستحافظ على الأنوية الدلالية ذاتها، سواء طال الخبر أم قصر. في الخطاب الإشهاري: لهذا النوع من الخطابات سمة اختزالية لعدّة اعتبارات، كالإثارة ولفت الانتباه وجودة البلاغ وتوجيه المتلقي نحو الهدف، والتركيز على الكلمات المفتاحية، وقد يتعدّى الأمر قضايا التبليغ إلى الجانب التجاري أو المادّي، باعتبار أنّ التكلفة المالية تفرض ذلك في سياسات إعلامية. وكعيّنة على المغالاة في تركيم الإضمارات، هذا المثال المأخوذ من شاشة أوربية: "ماذا تقول؟ الصقيع؟ أنا؟ لا." من الواضح أنّ الصور ستحلّ محلّ الكلمات، وسيشاهد المتلقي شخصا ما مرتديا معطفا ما، ثمّ سيفهم لماذا لم يكن الطرف الثاني معنيّا بالبرد. لقد قال بطريقته: عليك باقتناء ملابس من هذا النوع، تلك التي صنعتها الشركة "س"، أو تلك التي تباع في المحل "ع". وفي هذه الحال ستكون القراءة البصرية أولى من العلامات اللغوية. لذا يتعذّر ضبط الملفوظ نهائيا، أي حصره في عدد من الكلمات المتفق عليها. في الرسوم المتحركة: يتأسس هذا النوع على الإضمار. ويعد هذا التأليف بمثابة انفتاح على الممكن، وذلك بملء الفجوات القائمة بين خانة وأخرى، وبين الصورة الأولى والثانية. ما يفرض إقامة علاقة بين العناصر، ومن ثمّ الإسهام في تركيب الخطاب من أجل الحصول على مقطوعات مكتملة. أمّا وظيفة القارئ فتتمثل في ملء الفراغات، وهنا يتحقق مقصد صاحب الرسم: المشاركة في التأليف. في الخطاب الشفهي: يحتكم هذا النوع من الخطابات إلى إخفاء أجزاء معتبرة لاتسامه بالسرعة وميله إلى التركيز. وهذه إحدى ركائزه القاعدية التي تميّزه عن كثير من الخطابات المكتوبة أو المسموعة: الخطاب السياسي، الديني، الوعظي، التعليمي. ذلك أنّ هذه الأنواع تمرّر البلاغ بتبذير الكلمات والحروف والأفعال لإضاءة الملفوظات والمقاصد، الأمر الذي يقوم به الخطاب الشفوي بصيغته الاختزالية، وخاصة في الخطاب الآمر: هناك مطر. ألعابكم. إلى البيت. الإضمار النحوي: يقصد به إسقاط كلمة أو فعل من أجل الاقتصاد أو من أجل تفادي التكرار في السرد، على أن لا يتسبّب في الإخلال بالمعنى: لا أفعل شيئا ذا فائدة في هذه الأيام: أفلام، أفلام، كلمات متقاطعة، القهوة، الحارة، الجريدة، القيلولة، القهوة وبعض الأصدقاء، ثمّ الليل. الملاحظ أنّه تمّ إسقاط عدّة ألفاظ وأفعال للتدليل على الرتابة، لكنّ المقطع المشكل من إضمارات كثيرة بقيّ محافظا على معناه، كما أنّه بمقدور المتلقي إضافة حروف الربط للحصول على المقطوعة كاملة، وبالأسلوب الذي يريده. سيتشكل المقطع في هذه الحال بتباينات أسلوبية ومعجمية وبنائية، إلاّ أنّ النواة الدلالية ستبقى القاسم المشترك بين مختلف المقاربات، مهما تباعدت طرائق إنتاج السرد، أو إعادة إنتاجه، إن نحن تعاملنا مع فرضية وجود سرد مضمر تم اختزاله في كلمات وحروف غير مترابطة. الإضمار السردي: وهو النوع الذي قصده جينيت، لكنه، بعكس الأنواع الأخرى، لا يرتبط بالاسم والحرف والفعل والكلمة، قدر ارتباطه باختفاء مقاطع زمنية يفترض أن تأتي في وقتها، في حين تمّ تأخيرها أو حذفها لغايات: التعليق، عدم أهمية الأحداث التي حصلت في تلك الفترة، بلبلة الخطية لمقاصد جمالية أو وظيفية معينة. لذا نعثر على فراغ مؤقت أو دائم. وقد يعود السارد لملء المقطع المغيّب، كما يمكن أن يبقى كذلك إلى نهاية الحكاية، وفي الحالتين سنكشف عن المسوّغات من خلال القراءة السياقية. نشير إلى أنّ في الإضمار أنواعا، ومنه الحجب (la paralipse): وهذا النوع له علاقة بالزمن والصيغة. وإذا كان الإضمار مرتبطا بالمقطع الزمني فإنّ "الحجب لا يعني الثغرات ذات الطابع الزمني، وإنّما يعني تلك الثغرات التي تتصل بمعلومة لها علاقة بالحكاية لا تعلن عنها القصّة إلاّ لاحقا، من ذلك مثلا ذكر أحدهم طفولته، وإخفاؤه أنّ له أخا." السابقة: عرفت السابقة قبل المفهوم الحالي الذي ألبسها إياه التحليل السردي، وهي متداولة في بعض الاستعمالات الإدارية والقانونية: السوابق القضائية (في المحاكم)، السوابق التاريخية المتعلّقة بجهود الأوّلين (في الفقه)، بيد أنّ الكلمة انزاحت عن معناها لتكتسب دلالات مغايرة في علوم اللسان وفي بعض التخصصات. أخذ المصطلح من اليونانية (من الفعل: prolambanein)، ومعناه الأخذ من الأمام، أو التنبؤ، أو الحكم المسبق، ولذا يشير جينيت إلى السابقة المحققة والسابقة غير المحققة، بالنظر إلى فرضية عدم تحقق التنبؤ أو التسويف، مع ضرورة التمييز بين السابقة في علم السرد والسابقة في العلوم اللغوية.