أكثر الورقات الرحيمة، الجسورة، العامرة بالتذكار، تأتي عنهما، كانا اثنين في الغار بلا صاحب، أو مؤونة، أو سلوى حال، بختي وعمار، بختي بن عودة وعمار بلحسن، عبرا، امتزجا في الاشتغال وانصهرا، تشكلا من عجائن المعرفة وصلوات اليقين وأبحرا غرقا في المحبة والتحنان لا الانفصال والهذر والظلمات.. أكثر الورقات الرحيمة، الجسورة، العامرة بالتذكار، تأتي عنهما، كانا اثنين في الغار بلا صاحب، أو مؤونة، أو سلوى حال، بختي وعمار، بختي بن عودة وعمار بلحسن، عبرا، امتزجا في الاشتغال وانصهرا، تشكلا من عجائن المعرفة وصلوات اليقين وأبحرا غرقا في المحبة والتحنان لا الانفصال والهذر والظلمات... ما ظل يعلمنا إياه بختي وعمار، عروة وثقى لا انفصام لها فما انفصمت معرفة عن كنهها ولا وجود عن كائناته ولا شجرة تكابرت، امتدت في السيقان والفروع حتى ما لا نهاية... عروة وثقى من البحث النظري والتطبيقي في الفلسفة والابستمولوجيات، الأدب ونظريات القراءة، التحليل والتركيب والتفكير، فضلا عن الشعر والقصة والرسم والموسيقى والترجمة. لا يتقدم بختي وعمار على الخرائط إلا وهما يتوالان، يتتابعان، يتسابقان هكذا في الاسم وفي السديم، في النداء وفي الأفق، في القبلة والتكوين، في البسيكولوجيا وفي السوسيولوجيا، وفي وهران ومحبتها والتزين بلغتها ومفرداتها الصادحة، ثنائي منخرط في الديوان السري للمدينة المأهولة، الغارية، المتعاركة، غرب الغربة المأفون وهو يقف على سنان الحبر وأسئلة التفلسف... باء مثل بختي وعين مثل عمار، هو ما يؤجج شوق اللغة لاقتناص روحية بختي وشبق عمار، الروحية والشبق هما العنوان والصفة التلاق والتناسب. إن كثرة الترادفات بينهما حملني على أن أكتب نصا بإشراكهما معا، الاغتراف من معين اللغة الواحد والنبض الجمالي المسترسل، الوهرنة في الشعر والقص، تدامج الحقول ووفرة أبارها ثم آلية الموت التي نهشت جسم بختي ولم تترك لعمار النفس والمزاج الحياتي، موت شباني، عنفواني، أسطوري وعلى أرض دأبت على الاحتراق والظلمات وخطاب الجهلانية في تسعينية مجنونة، هالكة، حرثت نسل العالم والجزائر، أحالتهما إلى جمر، إلى رماد، إلى رفات... جاء الدخول إلى الفكر البختي من هذه الأحاسيس الغامرة بفقدانات التسعينية وبؤس مرحلتها في الشعار والخطاب، في المؤسسات التي كانت تعمل بمبدأ التضليل والتهافت وفي الفخاخ والمشانق التي نصبها المتحالفون مع الموت للصوت الحر، النقدي، غير العضوي، وعلى الخط المستقيم الواحد وقف عمار بلحسن مستزيدا من فكره السوسيولوجي، مجترحا الراهن المجتمعي موضوعة مركزية وهي على تمام الالتصاق بالسياسي والثقافي، العقائدي والحضاري... أخرج بختي بن عودة المفكر، الصغير، اللاعب الرشيق بالمعنى والمفهوم، أخرج الفكر من ساحة الممارسة الكلاسيكية الصدئة، من ألعوبة التصنيف ومن فراغات المسودة الرسمية إلى ساحة متمرنة على نفسها، كثيرة السؤال ومتوثبة، متطلعة، ناهضة من يقين ومفككة لهذا اليقين "المثقف الجذري يحمله اختلافه الجذري وسؤاله المعرفي، لا يملك جواز السفر قد يجد نفسه في حقل أو في بستان... وقد يقتل" هي المقولة الرامزة، الميثية لبختي التي سرعان ما رحنا جميعنا نستقبلها، نكتوي بلهيبها، نتغطى بطبقاتها ونرتوي من خصوبتها، كان من العسر أن نعثر على بختي، إلا في القصاصات، نصوص وتفكيرات وحوارات، كنا نحس بهذا الذي أدركناه ولم يدركنا، لم يظل بيننا ليس هو إلا الجيل بين البرزخين، اللحظة المتوازنة في ألف وياء المنظومة، لا عروبي هو، ولا بعثي، ولا فرانكو فيلي، لا امتثالي ولا تروتسكي، لا بربري ولا يساري، لا سلفي ولا إخواني، لا خرافي مسحور ولا هو تكريسي، اقنومي، حارس المعبد القديم والقائم على هيكله، لم يكن بختي وعمار على هذه الشاكلات بل إن عمار مبتكر الحداثة المعطوبة رغم الفاصلة والفاصل الذي يحده عن الأول فلكان الواحد فيما بعد سيكتشف كم كانا على النسق والمدرسة الموحدة نفسها، إنه الأدب الوطني المتنوع، العابر لجهات المعرفة الأربع، الموصول بفنون عدة والمصاغ كأسئلة محتومة، مرتقبة، وغير ناجزة، "انتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر"، ستكون هذه الورقة مفصلية، جريئة، وتواظب على نفسها وتتجدد، إنها استيعادية، تتنكب في البحث عن مواقع جديدة للمثقفين ضمن الحراك والصيرورات، هذا الميلان إلى نقد المدونات القديمة للفكر الجزائري واستنهاص النصوص المجروحة ونقد الشيفرات الدالة، القامعة ميلان كهذا مثل بصمات حقيقية وصية لكاتبي وهران "بختي" و«عمار"، إن الانحسار الذي أصاب الثقافة الجزائرية وأمثلتها دامغ، لقد نشطت حركة تأليف غير مدروسة وجهنية وتراجعت مؤسسة الاختلاف من هامش مؤثر إلى أشباه هوامش، ندر الكتاب النقديون، انقطع التفكير الجماعي والانهمام بالتغيير، ولم يقف احدنا عند أسئلة الترجمة ومطالبها، عاد المسكوت عنه على النحو الأكثر ضراوة فلا يقرأ أحدنا في الصفحات الثقافية اليومية مقالات وكتابات عن نقد المرجعيات ونقد المؤسسة الاجتماعية وطقوسها، نقد الاجتماع الوطني الزائف وقيامه على أساسات البطلان من الجهوية الى العشائرية والزبائنية. إنه من باب الشوق والوصال مع زمن مجهض، متعثر، مقتلع حلمنا بدوامه وسيادته، بعودته وحضوره المتكرر، زمن ثقافي، زمن رمزي كما كان يحب أن يقول بختي عن نفسه، أنا زمان رمزي، لكن ذلك فات وانقضى وعدنا إلى الاستيلابات والعدمية الثقافية والعماء والأمية الممأسسة وثقافة الوفيات والإفراغ. تمنحنا كتابة عمار بلحسن الحس والحلم والتمرين الجسور على المساءلات، لذلك نحن متأثرون بافتقادنا لهذا السوسيولوجي الجوال من القصة والأقصوصة والنص المفتوح إلى التنظير والتفلسف وأعمال الذهن اليقظ في التحولات وأنماط العيش وميكانزمات البقاء، لقد نشأ عمار في غمة النزاعات وما كان يصلنا من إنتاجه الأخير قبل رحيله في نهاية أوت من عام 1993 م، كان يشي فعلا بغمته، مرضه الدامي حمل إلينا الإعراب الوشيك عن مكنونات صدره، جزائر مريضة من نخبتها، الأوجاع تمتد من المفاصل وتستشري والقلم يلهث بأنفاسه السرية وصوتياته كي يلاحق ويصادر بعض ما يمكن للذاكرة أن تديمة، تسجله، تحفظه في أرشيفاتنا، إن ورقة عمار بلحسن عن مشروعية التوترات الاجتماعية ملزمة بالقراءة البدئية لكل من أراد البحث في حالتنا وتفسيرات إصابتنا المزمنة وإعاقتنا عن النهوض، ورقة في السطر المضاد للتنويم المغناطيسي الذي يجري اليوم ترويج حبوبه في الصحف والخطابات والحصص والشاشات، كان عمار يدأب على كل مرحلة، يشرح مفرداتها وعناوينها، ويفجر ألغامها وأسئلتها المعتمة، انطلاقا من جهده الهام عن المثقفين والانتلجاسيا إلى نظريته في تسييس الثقافي وتثقيف السياسي إلى الحداثة المعطوبة التي قرأ من خلالها آخر زلازل الصعود الإسلامي وهبوطه والعوامل المتضافرة في انهيار سلطة الدولة ثم مكامن التعفن في جدرانها وهياكلها التي أدت إلى الانهيار، في ورقته عن البربارية المجتمعية وهي من أواخر أوراقه استبسل عمار بلحسن في غمته، كان مريضا جدا، عمار آنذاك وهو يكتب ويتأمل ويصف بؤسنا المطبق علينا من كل جانب، من كل صوب وهجرى، "بربارية" وتوحش وافتراس في المجتمع، بعد التلاشي، الفلتان، السقوط في بئر الكارثة، في الهاوية، وفي المسخ "الآن بدأت اكتب المسخ.. المسخ الذي مارسته وتمارسه علينا نحن القرويون.. ذوي الأصول الفلاحية هذه المدينة.. إنها مجمع بشري.. بلا مفهوم حضاري.. يا لوعة مخلوقات تجيء من كل ركن، تضرب خيامها من الحجارة في شكل فيلات وعمارات.. وهي هكذا تبدو لي ونحن فيها نضيع ونغرق ما بين إشارات المرور ورائحة جوارب البوليس والخيانات الرفاقية والهاويات هي هكذا". كتابة عن المسخ شرحها هكذا أيضا المثقف الزاوي الأمين لبختي بن عودة في إحدى الصحف كيما يمكن للواحد أن يستذكر الأجواء الاندفاعية التي أدت إلى مقال الكارثة والكاوس والبختية..