قد تعاشر أمرأً سنوات عديدة، فلا تعرف عنه إلاّ ما ظهر، ويمكن أن تعرفه بتفاصيله (..) في يوم واحد.. إنّما هذا مشروط برحلة خارج البلد. بهذا المنطق تعرّفتُ على مناقب الكاتب الراحل عمّار بلحسن، ذي القامة الفارهة، والهندام البهيّ.. كان ذلك في العام 1988 ببغداد، حين شاركنا معاً ضمن وفد ثقافي في مهرجان المربد السنوي.. وهناك خبرتُ الكاتب والأديب والإنسان. كان عميقا في ثقافته، واضحا في أفكاره، عنيدا إزاء من يكرهه على ما لا يقبل، مرحا في المجالس الحميمية.. كنتُ أحيانا أنبّهه إلى أنه يشبه المدخنة، كونه يستبدل سيجارة بأخرى، فيقول لي ضاحكا ''لو جرّبتَ ذلك ما قلت لي هذا..''. وفي جولة قادتنا إلى مجمّع الشهداء ببغداد، كانت لنا جلسة مع الراحل يوسف إدريس، وهناك أدركت قيمة عمّار، حين راح يحدّثه عن أعماله بتفصيل جعل الروائي المصري يقول له ''يبدو أنك قرأتني أكثر مما أعرف عن نفسي..''، ويقيم عمار، مقاربات بين كتابات إدريس وغيره، فشعرت أنّه استحوذ على اهتمام صاحب ''الندّاهة'' الذي عُرف عنه استعلاؤه في علاقاته بالناس، وأسعدني كثيرا، أن هذا الناقد والقاص القادم من وهران، يعطي صورة المثقف المقتدر، الذي يكتب كثيرا، يقرأ كثيرا، ولا يتحدث إلاّ قليلا.. فكلّ وقته للإبداع والإمتاع. لم يكن عمّار من المداهنين في قول الحقيقة، بل إنه أحيانا، يصدم محدّثه، دون أن يجرح مشاعره، فهو يدرك تماما أن الإفراط في المجاملات، يفقد الأدب قيمته، والإبداع نكهته، والكتابة وظيفتها. لهذا عندما كان يشرف على الملحق الثقافي لجريدة ''الجمهورية''، كان يثير الأسئلة الأعمق، ويفتح الملفات التي تغطي قضايا تزيد من شهية المشتغلين بالكتابة، وتدفعهم إلى البحث عن أجوبة لهواجسهم، وتمنحهم فسحة من التأمل لقراءة مختلفة للسائد.. عمار كان العرّاب الحقيقي لمرحلة اقترب فيها المثقفون من الأسئلة المسكوت عنها، وكان إلى جانبه بختي بن عودة المسكون بالحداثة والنص الجديد، والرؤية التي لا تأبه بالإيديولوجيا، ولا بالفكر المعلّب.. هكذا كان التأسيس لثقافة بلا حدود، وهكذا كان عمار الإنسان الذي كان يقف من الجميع مسافة واحدة، ويحتفظ لنفسه بهامشه الخاص.. وحين رحل لم تتغيّر تلك الصورة التي تركها وراءه، ذلك المثقف العنيد في الحق، الصادق في المشاعر، العامر بالإنسان وحده.