تكاد الساحة السياسية في بلادنا في عمومها تخلو من وجود قيادات حزبية كاريزمية تنتمي إلى ما يمكن وصفها بالأنتلجانسيا ومن وجود نخبة وصفوة مثقفة تظم كبار الأكاديميين والأساتذة الجامعيين والباحثين في شتى التخصصات العلمية والمعرفية وفي الفنون والآداب والثقافة بأشكالها المختلفة بما في ذلك علم المستقبليات والاستشراف وكذا التكنولوجيات المعاصرة. وفي مقابل هذا يُلاَحَظ تهافتٌ كبير على الحياة السياسية وتموقعٌ مغشوش من قبل أصحاب المال الفاسد ومن الأميين ومحدودي المستويات التعليمية والدهماء عموما داخل مختلف الأحزاب بما فيها تلك الأحزاب المجهرية التي لا تظهر إلا مع الحملات الانتخابية مثلها مثل الخفافيش التي لا تظهر إلا في الليل وتختفي بمجرد انتهاء تلك الحملات، ثم إن أغلب هؤلاء القوم من مجتمع الدهماء أغلبهم أميون سياسيا كذلك ومنقطعون عن النضال وعن الحقائق الوطنية والوقائع اليومية للشعب وعن الأحداث والتطورات الإقليمية والدولية. إن ما يُصْطَلح عليهم بالدهماء أو السوقة وبالتعبير الشعبي "الغاشي" يكاد يصنع اليوم المشهد السياسي العام في البلاد ويخلق فسيفساء سياسية رديئة بعد عزوف جل الرجال والنساء المنتمين للطبقة المثقفة عن الانخراط في عموم الأحزاب السياسية وامتناعهم عن ممارسة السياسة، الأمر الذي أثر سلبا على المردود السياسي وعلى فعالية الأحزاب ونشاطها وجعل برامجها السياسية والاقتصادية والثقافية ضعيفة وترك خطابها السياسي هزيلا إن لم يكن منعدم القيمة وغير مقنع للناخب خصوصا وللشعب عموما. وأكثر من هذا فإن الصحافة المستقلة ووسائل التواصل الاجتماعي باتت تصنع من الخطاب السياسي لبعض قادة ومؤطري جل الأحزاب الناشطة في بلادنا وسيلة للتهكم والتندر والإثارة، بل إنها جعلت منه مبعثا للسخرية اللاذعة والاستهزاء، فعمقت بذلك من نفور الناس من السياسة وممارسيها ، وهي صورة عاكسة لما كان يتمناه الشارع وخاصة إذا ما أعدنا للأذهان الخطاب السياسي الذي ساد في عهد الحزب الواحد وحتى في بداية التعددية حيث كان ذلك الخطاب السياسي لقادة جبهة التحرير الوطني والمنظمات الجماهيرية والتنظيمات العلمية والثقافية التي كانت روافد تابعة لها وخصوصا خطابات مساعدية ومهري بالأخص ذات تأثير بالغ على غالبية المتلقين، إذ كان الخطاب عميقا في محتواه ومضامينه، مقنعا في عمومه مرتكزا على أدبيات الجبهة والحركة الوطنية عموما ويحمل معه رسائل عن طموحات الدولة الوطنية المنشودة، كما أنه كان يتضمن أفكارا هامة ويدافع عن برنامج اجتماعي واضح رغم ما فيه من مبالغة وتهويل وحتى من ديماغوجية في بعض الأحيان، وهو ربما ما كانت تقتضيه مرحلة التحول في تلك الفترة من تاريخ الجزائر. إن مصطلح الدهماء ليس جديدا على علم السياسة وعلى الممارسة السياسية عموما، ويعود أصلا إلى الفلاسفة اليونانيين القدماء خصوصا "أناسيكلوسيس" ومن تلاهم من سقراط وأرسطو وأفلاطون وانتهاء بفلاسفة العصر الحديث والعديد من علماء السياسة والاجتماع من أمثال غوستاف لوبون وماكس فيبر وغيرهم. ويرى لوبون بهذا الصدد أن الجماهير أو الدهماء عموما لا تعقل وترفض الأفكار ومنطق العقل، وأنها إما هي ترفض تلك الأفكار أو تقبلها دون تمحيص ونقاش ودون استخدام للعقل. بل يذهب إلى وصف مبالغ فيه وهو أن الجماهير على حد تعبيره تتصف بالغباء والعاطفة وأنها هي التي تتسبب في الفوضى والثورات. في حين أن النخبة المثقفة تعبر عن شريحة منتقاة ترمي إلى التأثير إيجابيا في المجتمع بما يؤدي إلى التطور والبناء، ولكنه لا ينفي في نفس الوقت وجود ما يسميه بنخبة الدهماء في العصر الحديث التي لا تحتكم إلى العقل والمنطق، ولكنها مع ذلك تؤثر حقيقة في الجماهير. إن ما يُلاحظ في بلادنا خصوصا في الوقت الراهن هو تقوقع جل المثقفين على أنفسهم وابتعادهم عن المشاركة في السياسة وفي تسيير شؤون الدولة باستثناء قلة قليلة منهم ليس لها تأثير كبير، وهو عكس ما حدث في الستينيات والسبعينيات حيث شارك عدد من الكفاءات وأصحاب الفكر والثقافة في الحياة السياسية وحتى في القرار السياسي والاقتصادي على غرار مصطفى الأشرف، مولود قاسم وعبد الحميد مهري ورضا مالك ومحي الدين عميمور، وعبد اللطيف بن آشنو وعبد الله شريط وعبد الله الركيبي وبشير خلدون ومحمد بلقاسم خمار وزهور ونيسي ومصطفى كاتب والطاهر وطار ومالك حداد ولمين بشيشي والعربي الزبيري وغيرهم. فقد كانت معظم اللجان التابعة للحزب وكذاعمليات التخطيط الحكومية تُسْند رئاستها وعضويتها إلى كفاءات عالية لإعداد الدراسات والخطط والبرامج، في حين أنه يلاحظ انكفاء الكفاءات الجامعية والنخبة عموما على نفسها منذ فترة وخاصة منذ مطلع التسعينيات وخصوصا بعد العمليات الإرهابية الشنيعة التي طالت عددا من الكفاءات والأسماء اللامعة في عالم الفكر والفن والثقافة، ومن بين تلك الأسماء البروفيسور الجيلالي اليابس عالم الاجتماع المعروف ورئيس معهد الدراسات العليا والاستراتيجيات في التسعينيات، والممثلان المسرحيان عبد القادر علولة وعز الدين مجوبي وأبوبكر بلقايد والشاعر يوسف السبتي وغيرهم. واللافت للنظر أنه منذ دخول الجزائر عهد التعددية الحزبية منذ 1989 فإن جل الأحزاب بما فيها حزب جبهة التحرير الوطني والأرندي وحركة مجتمع السلم لم تعد ترشح للانتخابات المختلفة التشريعية منها والمحلية الأسماء اللامعة في عالم الفكر والثقافة والمعرفة باستثناء قلة قليلة، وهذا الترشيح يكاد يتقلص من عهدة لأخرى، وقد يعود هذا إلى القيادات المؤثرة في قرار هذه الأحزاب، إذ صارت تقدم على إقصاء هذه الكفاءات التي تنافسها في الأفكار وربما تحول بينها وبين ما تنوي تطبيقه في الميدان وما تريده من نصوص قانونية تتماشى مع أهدافها لاكتساب النفوذ والثروة. كما يُلاَحظ أن بعض الكفاءات التي يتم تعويمها في المسؤوليات تسند لها مجرد مهام ثانوية. وقد سُئِلتُ مؤخرا في لقاء مع إحدى القنوات التلفزيونية عن هذه الظاهرة فلاحظتُ أن الأمر يرجع إلى مجموعة من العوامل يمكن أن أوضحها في الأسباب التالية: أسباب ترجع إلى الأحزاب نفسها التي سيطرت عليها بعض القيادات التي لا تؤمن أصلا بدور الفكر والإبداع والرأي الآخر، وبالتالي فإن هذه القيادات نجد أنها محسوبة على الدهماء أو أنها واقعة تحت تأثيرها المباشر. يلاحظ أن عددا من قيادات هذه الأحزاب تهاب من الآراء الجريئة لبعض المثقفين والنخبة التي قد تحرج بطرحها لبعض القضايا السلطات القائمة في اعتقادها. وإذا كان البعض قد مارس في عهد الحزب الواحد ما عُرف بالرقابة الذاتية فإن عددا من قيادات الأحزاب الناشطة في الساحة السياسية صارت تتحرج من الأفكار التي تراها جريئة من قبل المثقفين، ولذا لا تسند لهم بعد أن أصبحوا أقلية غير مؤثرة وغير فعالة في مختلف الأحزاب سوى مجرد كتابة تقارير لا يُعْمَلُ بها أصلا، وقد ذهب الأمر ببعض المتزلفين والوصوليين المتقلبين مع كل عهد أن قال بأن المثقفين لا يَصلحون سوى لكتابة التقارير ؟!!؟. وهكذا تحول هؤلاء المثقفون في أغلب الحالات إلى ممارسة الدور الذي كان يقوم به بعض المستشارين في السابق، حيث كان المستشار على حد تعبير أحد الصحافيين القدامى لا يُسْأَلُ عنه إنْ غاب ولا يُسْتَشَار إنْ حَضَر ؟!!؟ أسباب تعود إلى النخبة والمثقفين أنفسهم الذين صاروا خصوصا بعد الدخول في التعددية بعيدين عن ممارسة اللعبة السياسية، ومرد ذلك في اعتقادي يكمن في عدة عوامل: 1/ قيام بعض القيادات الحزبية على المستوى المحلي خصوصا بغلق الأبواب في وجه المثقفين خوفا من قوة أفكارهم ومنافستهم لهم في مختلف الاستحقاقات والمواقع. 2/ تسرع عدد من المثقفين وعدم صبرهم وانسحابهم من النضال الحزبي بعد أن فشلوا في محاولة التموقع السريع في مختلف الاستحقاقات بمجرد تسلمهم لبطاقات النضال دون أن ينجحوا في ذلك من التمكين لبعض الأفكار والبرامج الأمر الذي لم يسمح لهم باكتساب التجربة والحنكة السياسية، ومن ثمة العجز في فرض أنفسهم على منافسيهم الشرسين من الدهماء دون أن يشكلوا بذلك قوة ضاغطة على هذه الدهماء المهيمنة على قيادات جل الأحزاب وتؤثر عليها عدديا ومعنويا وماليا. ويمكن أن نظيف لهذه العناصر المنافسة غير الشريفة والمبكرة بين بعض هؤلاء المثقفين أنفسهم والتي أدت إلى تشتيتهم وإضعاف قوتهم الفكرية والمعنوية في ظل تماسك طبقة الدهماء وتحالفها ضد مجموعة المثقفين والكفاءات المبعثرة. وعلى ضوء ما سبق فإنه يمكن القول بأن الحياة السياسية في بلادنا مقبلة على خواء فكري رهيب إذا ظل المثقفون والجامعيون عموما يتأففون عن النضال داخل الأحزاب مع احتقارهم للنضال الذي باتت تتحكم فيه طبقة من الدهماء تنتهج سياسة إقصاء متعمدة ضد كل من تشتم فيه مظاهر القدرة والكفاءة وتبدو عليه العفة ونظافة اليد والأخلاق في ممارسة العمل السياسي. ومن أجل هذه الغاية تتحالف الدهماء اليوم مع أصحاب المال الفاسد ومع كل الساعين للمؤامرة سعيا إلى تحقيق ما من شأنه أن يجعل الحياة السياسية في المستقبل المنظور تحت حكم الدهماء الجديدة المتعطشة للسيطرة على الحكم واكتساب المزيد من الثروات الطائلة دون حدود. إن بقاء المثقفين والكفاءات بعيدين عن النضال الحزبي اليومي في مختلف الأحزاب الفاعلة من شأنه أن يسيء إلى الفعل السياسي مستقبلا ويجعل الديمقراطية تتأخر عشريات أخرى في هذا الوطن ويساهم في تكريس رداءة سياسية ترعاها الدهماء الجديدة على امتداد عدة عقود قادمة. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته