تعتبر إشكالية قديمة الطرح، كثر الخوض فيها، إلا أنها في كل مرة تجدد حسب الظروف والمستجدات التي تطرأ على الساحتين الثقافية والسياسية، اختلف في إحصاء تعقيداتها رجالات من الجانبين، كما توافقت حول تبعاتها والظلال التي تلقي بها على الحياة الاجتماعية أسماء كثيرة. ارتأت "السلام" اليوم إلقاء الضوء على جانب من هذه الإشكالية واستقراء الآراء الثقافية حول مدى تأثير توترات الساحة السياسية الجزائرية وحراكها، على الحياة الثقافية ونشاطاتها. لونيس بن علي: "المجالان السياسي والثقافي يعانيان تبعات طلاقهما بالثلاث" أكد لونيس بن علي، أن الحراك السياسي في الغالب يُعنى بتجديد استراتيجيات الإدارة بما يتناسب مع مستجدات طرأت في العالم على نحو مفاجئ، في عملية تكيّف مع الظرف الجديد، ويعلم الجميع –حسب المتحدث- أنه مع تصاعد موجة ما يسمى بالربيع العربي، ومع سقوط بعض الأنظمة الحاكمة في بعض الدول العربية ظهر مؤشّر واضح على ضرورة أن تقي الأنظمة السياسية الأخرى المتبقية نفسها من نيران هذه الثورة، فأسرعت إلى البحث عن طرق لامتصاص الغضب الشعبي المحتمل، ليبرز حراك سياسي تجلى مثلا في فتح المجال لبعض الأحزاب السياسية، وفتح مجال الإعلام، وتغيير نمط الخطاب السياسي، وقد لاحظ الجميع كيف أنّ الخطاب السياسي الرسمي عندنا صار أكثر ليونة، وأكثر تأكيدا على ضرورة التغيير وفتح المجال للطاقات الشبانية لتعبر عن نفسها. ويعقب المتحدث على الأمر بتساؤله:"لكن هل يكفي هذا لنقنع أنفسنا أننا نعيش عصر التحولات الجذرية في مشهدنا السياسي؟ أقصد هل التغيير بهذه الطريقة الطارئة الارتجالية يمكن أن يمسّ بجوهر الأشياء؟..التغيير في اعتقادي ينبغي أن يمسّ هذه العلاقات، لا الواجهة السطحية للواقع، والدليل على ذلك، أنّنا لا نكاد نلمس أيّ تأثير واضح لهذا الحراك المجازي على الممارسة الثقافية عندنا". ويواصل بن علي فكرته قائلا:"أليس حريا بهذا الحراك السياسي أن يتجسد أيضا على صعيد الفعل الثقافي والخطاب الرمزي؟ لأنّنا نعاني من طلاق بثلاث بين السياسي والثقافي، ففي الغالب نجد المؤسسة الثقافية غارقة في عالمها الأثير، بعيدا عن هدير نهر السياسة، وكأنّ المثقف لا شأن له بسياسة البلد، لتتوقف وظيفته فقط في البحث عن الجمال في النشاط الإنساني..وحتى نتحرى الدقة أكثر، فهذه الظاهرة موجودة حتى في العالم الغربي حيث أنّ حرية الإنسان والديمقراطية مكفولتان، حيث سعت الإدارات السياسية في كثير من الدول الغربية إلى امتصاص المثقف واستدراجه ليكون كلبا أليفا ومطيعا يخدم سياسة النظام، وقد حدث أن مُنع المفكر الأمريكي الكبير نعوم تشومسكي من إلقاء كلمة ينتقد فيها السياسة الخارجية لأمريكا، والسبب أنّ الرجل لا يملك المؤهل للخوض في السياسة، لكن لا يعني هذا حدّ التماثل المطلق بين الحالتين". ومن جهة أخرى أضاف المتحدث:"نجد أن السياسي في الجزائر خلق لنفسه صورة نمطية تجرده تماما من قيم الشخصية المثقفة، فإذا عدنا إلى أصل الفعل السياسي فهو فعل ثقافي، لكن ضحالة الوعي السياسي عند سياسيينا جعلهم أقرب إلى الشخصيات التكنوقراطية التي تلهث خلف مصالحها ومصالح الحزب، ويكفي أن أحزابنا لا تؤسس خطاباتها على مرجعيات فكرية وفلسفية وأدبية، وكم هي متشابهة بالمناسبة، متقاربة في وعيها وخطابها وفي حروبها الداخلية، لقد عملت الأنظمة الريعية والقمعية للأسف وهذا ما سيذكره التاريخ إلى الأبد بشكل حثيث ومبرمج على إفراغ المثقف من الداخل وجعله مجرد كائن لغوي يقتات على أوهام التغيير الذي لا يصنعه إلاّ داخل نصوصه...فمن فجّر هذه الثورات العربية طبعا ليس المثقف وليس خطاب المثقفين، هل نحن أمام واقع جديد ينبئ بنهاية المثقف؟". عمار عبد الرحمن: "سياستنا مبنية على التهريج لا يعرف الفاعل على مستواها من الثقافة إلا الإسم" أشار عمار عبد الرحمن إلى التنافر الموجود بين الساحتين الثقافية والسياسية، واصفا إياها ب"إحدى عجائب الأمور التي تحدث ببلادنا"، فلا مجال منهما يكمّل الآخر، ويقول :"الثقافة في واد والسياسة في واد آخر، وعليه لا يمكننا الحديث عن تفاعل بين الساحتين بقدر ما نتحدث عن تنافرهما، وبطبيعة الحال شظايا كلّ قطاع تنعكس بالسلب على القطاع الآخر، مثال ذلك غياب التنسيق والتجانس بخصوص تنظيم فعاليات كل ساحة، فرجال السياسة لا يتفاعلون جدّيا مع الأحداث الثقافية والعكس صحيح، وعليه ندرك مدى اتساع الهوة بينهما". وضرب المتحدث مثالا عن الموضوع قال فيه:"لم تتفاعل الساحة السياسية الجزائرية بكل أطيافها مع "الجزائر عاصمة الثقافة العربية" وكذا الحال في المهرجانات التي تنظم بين الفينة والأخرى، ومن جهة أخرى لم نلمس ذات التفاعل عندما تكون هناك حركية سياسية، على غرار الانتخابات". وأكد عمار على أنه لم يعد هناك ما يربط الساحة الثقافية بالساحة السياسية حيث قال:"كلّ يغني على ليلاه، ولعلّ ما يزيد من قناعتي بهذه الفكرة هو غياب التفاعل لدرجة التغييب والتهميش، فالحراك السياسي الذي تشهده الساحة مؤخرا لم ولن يؤثّر في الجانب الثقافي، إضافة إلى أن الثقافة عندنا تحمل تعريفات لا تشبه المتعامل به في بقية الدول العربية وغير العربية، لأنّ الوزارة الوصية اعتمدت منذ عقدين كاملين على سياسة "الشطيح والرديح" فلم يعد هناك مكان للثقافة بل حلّت محلّه "السخافة" لدرجة أنّنا فقدنا الكثير من النجومية في السينما والفن، وفقدنا معهما الكثير من أصالتنا، بعد أن عاث أشباه الفنانين في الأرض فسادا، أما من اصطلح على تسميتهم بال"المثقفين" فذاك شأن آخر، وما عليكم سوى البحث في ماهية "صندوق الدعم للكتاب" وغيرها من البرامج الوهمية والخالية الوفاض". وواصل المتحدث بقوله:"بنفس المستوى تسير الأمور بالنسبة للجانب السياسي، فالحقيقة المرّة أنّ معظم السياسيين في البلاد لا يحملون من الثقافة سوى الاسم، فجلّهم لا يفقه معانيها ولا يعقل خباياها، ومنه لا يمكن الحديث عن تأثر الثقافة بما يحدث من حراك سياسي في البلاد، فسياسة البلاد بشكل عام مبنية على "التهريج" والصخب في عملية يائسة لإستغباء الشعب، والاعتقاد السائد لدي أنّ سياسة التهريج هذه طالت كلّ من أشباه المثقفين وأشباه السياسيين، والخاسر الأكبر هو حتما"الجزائر" دون سواها". يوسف شنيتي: "ما يحدث من بهرجة ثقافية اليوم ترجمة فعلية للخطاب السياسي" ومن جانبه نفى الاعلامي، يوسف شنيتي، ما يدعيه البعض من ان بلادنا تعيش حراكا سياسيا منذ سنوات، حيث قال:"هذا البلد لم يعش حراكا سياسيا منذ سنوات طويلة، إذ انه اتجه رويدا رويدا وبطريقة شبه مبرمجة إلى الغلق السياسي، الذي يعني فيما يعنيه إبعاد العناصر القوية في مشهد التحريك على المستوى الحزبي والمؤسساتي، وداخل بنية النظام ذاته، بأن يتمركز كل شيء في شخص". وأضاف المتحدث بقوله أن:"الشخصنة زادت ونمت وتضخمت بما يهدد آليات اتخاذ القرار وسرعة تنفيذه وقوته، فهل نسمي التسيير الأمني للسياسي والحزبي والمؤسساتي والإعلامي بأنه كفيل بفتح المجال أمام ما يسمى حراك؟ هل تجزئة المجزء على المستوى الحزبي وإفراغ التعددية من محتواها بإنشاء أحزاب مكروسوكوبية هو حراك؟ هل تتحول الأحزاب إلى لجان تأييد ومساندة لهذا الحراك؟ هل هيمنة التنفيذي على التشريعي حراك؟ المشهد مفتعل وبعيد عن إنتاج الآليات التي تسمح بترسيخ أنساق عملياتية وبنيوية في العمل السياسي، ما يضر بسمعة البلد ومستقبله وبالديمقراطية التي يبدو أن واجهتها ليست الجدية والتقاليد السياسية والتداول ويقيني أننا إذا وقفنا على صحة هذه الزاوية في النظر أو صدقها على الأقل نفهم لماذا لا ينعكس السياسي على الثقافي". واستطرد المتحدث بالقول:"مع أن الواجب أن ينعكس المشروع الثقافي الحضاري على المشروع السياسي ويثريه ويمنحه أبعادا أكثر قوة وانتشارا وإقناعا، ثم إن هناك مشكلة أخرى فما يضيق في السياسة يضيق في الثقافة، وكلما كانت الحريات والحقوق أكبر زاد هامش الإبداع والتعبير وصار أكثر بهاء وتأثيرا ورواجا، وما يحدث من تسليع وبهرجة للثقافة وغياب الخطاب النقدي والتراكم المعرفي والانتظام والجدية والرؤى المستقبلية ما هو إلا ترجمة صادقة عن الأمر نفسه فالخطاب السياسي خطاب أجوف خشبي يدعي كثيرا ويعد ولا يفي، أغلبه سطحي غير مقنع وآلياته تعطل إنجاب نخب سياسية جديدة لأن ما يحدث هو أن السياسة طريق سريع لكسب الريع دون نضال وهذه القيم مع الأسف بدأت تنتشر أيضا في القطاع الثقافي".