بقي إسم صالح في ذاكرتي، بينما نسيت أغلب الأساتذة الذين درّسونا في المتوسطة.. صالح أستاذ اللغة العربية المميز.. أحببناه جميعا، التلاميذ النجباء أو البلداء، الفتيات والفتيان ... أهم ميزة في صالح، أنه كان أستاذا حقيقيا، والأستاذ الحقيقي في عرفنا وفهمنا نحن تلاميذ نهاية الثمانينات، هو الأستاذ المتواضع، البشوش، الغير حازم، يصادق تلاميذه، غزير المعلومات، واسع الثقافة، باختصار أستاذ لا تكون حصته ثقيلة مملة! والعجيب والغير مفهوم، أنه كان يستسيغ كثيرا ممازحة رابح، أسوء التلاميذ في قسمنا، زعيم المشاغبين، فرابح وحميد، ومجيد وسعيد كانوا يستغلون طيبة الأستاذ لإثارة الفوضى والضجيج والتنقل بين المناضد... بل كانوا يمارسون أعمالا سيئة أخجل من فعلها أو ذكرها، تحت المناضد، وكان يعرف ذلك ولا يفعل شيئا، وإنما ينحني عند منضدة مجيد مثلا ويسأل مبتسما: ما هذا الشيء المضحك الذي يوجد تحت المنضدة؟ فيرتبك مجيد، ويتصبب العرق من جبينه.. وينفجر التلاميذ الأخرون ضاحكين، أما التلميذات فجد خجلات.. أما حصة المطالعة الموجهة، فلا تكون فيها دراسة وإنما نقاش حر، وكلام مختلط حول جميع المواضيع، والأستاذ صالح يُنصت فقط ولا يتدخل أو يعلق، وإنما يترك النقاش حرا بين التلاميذ ولا يتدخل إلا إذ سمع فحشا في الكلام أو عنفا في الرد.. وهو متيقن أن كل تلميذ يردد كلام والده، وما يتباهى التلاميذ بمعرفته قد سمعوه في البيت، أو عند البقال، أو في حلقات الشوارع.. وما أكثرها، فمدينتنا الصغيرة، رغم بعدها عن عاصمة الولاية، أو عن وهران والعاصمة، فإنها تتجاوب مع التغيّرات التي صارت واضحة للجميع، وأيقن الجميع أن الزمن تغير.. الأحزاب الإسلامية.. الدولة الإسلامية...خريف الغضب.. اللصوص.. ثورة 88، جبهة التحرير الوطني.. الدب الأحمر الذي سقط صريعا في أفغانستان .. هواري بومدين.. السودان... الحقيقة، أنني كنت أعتبر نفسي بليدا مقارنة بزملائي، وإن كنت متفوقا في الدراسة ، فأنا في البيت لا تهمني سوى أفلام الكرتون، ونادرا ما أجالس والدي، وإنما أهوى الجلوس مع أمي وجدتي والإستماع إلى حديثهما الشيق عن دنيا زمان الجميلة! حتى آساتذتنا انقسموا، كل فئة تمدح حزبا وتتعاطف معه، أغلب الأساتذة يمتدحون الحزب الإسلامي الجديد، إلا أستاذا التربية البدنية والفيزياء، فيقرظان الحزب الوطني، أما أستاذ اللغة الفرنسية الشاب فلا اهتمام له بالأحزاب سوى القيام بواجبه وتحفيزنا على النجاح.... كانت كل المتوسطة بأساتذتها وعمالها ومديرها وتلاميذها وطباخها وبوابها، منشغلة بغزو العراق للكويت، الذي افتتح به العرب التسعينات وودعوا الثمانينات.. الكل يتابع الأحداث باهتمام بالغ، عبر التلفزيون الوطني والجرائد، إنها الحرب التي ستعيد الأمور إلى نصابها! ولا حديث إلا عن البطل صدام حسين، وعن العراق الحضارة، وأقوى جيش عربي والثالث عالميا! والصواريخ المتقدمة.. وعن النساء الشجاعات.. والكل ينتقد رئيسنا لأنه لا يريد أن يدخل الحرب مع العراق مثلما فعل هواري بومدين، لما حارب مع المصريين! في ذلك الزمن كثير من العاطفة وقليل من العقل، لا أحد انتبه أن الزمن تغير كثيرا، وأن الستينيات والسبعينيات ليست هي نهاية الثمانينات والتسعينات، ليس في بلادنا، أو بلاد العرب وإنما في العالم بأكمله.. ربما لا أحد كان يعلم أن اقتصاد دولة صغيرة إسمها هولندا لا تظهر على الخريطة، يتفوق على اقتصاديات أكثر من عشرين دولة عربية..! كنا جميعا نتحدث عن الحرب، لكن لا أحد منا يفقه ما هي الحرب، أو يستطيع أن يعرف كيف تكون نتائجها، الحرب ليست عادلة، فبأي ذنب يحتل العراقالكويت وهي التي ساندته في حربه ضد ايران؟ أخطأ أمير الكويت فلماذا يتحمل الشعب الكويتي المسالم التبعات؟ وأخطأ صدام فلماذا يتحمل الشعب العراقي المسالم تبعات ذلك؟ بل لماذا يتحمل العرب تبعات عدم تفاهم بين العراقوالكويت؟ كلنا كنا متوهمين.. الحماس.. أوقعنا في خدعة، على الأقل نحن التلاميذ الذين وُلدوا بعد حرب الإستقلال، وبعد النكبة وبعد النكسة، وبعد حرب أكتوبر.. لم نكن نعرف المعنى الحقيقي للحرب، وإنما كنا نعتقد أن الحرب مثل حروب كتب التربية الإسلامية، حرب بين الكفار والمؤمنين، والله يؤيد بنصره المؤمنين.. إستعدنا في وعيينا خالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي وعمرو بن العاص وعبيدة بن الجراح والظاهر بيبرس.... وخصص الأستاذ صالح، حصصا متتالية للحديث عن حرب الخليج الثانية.. وطلب من كل تلميذ أن يعبر عن مأساة الحرب بما يتقنه من رسم أو شعر ومسرح أو غناء.. هناك من قال الشعر.. والبعض قرأ تحاليل قصها من الجرائد.. أنا رسمت خريطة للعراق، والعلم العراقي وفوقهما صاروخ.. ولما طلب من الأستاذ أن أشرح، قلت إن هذا هو العراق، وهذه هي الحرب، ولا أحد يعرف إلى أين تنتهى الحرب؟ إنتظر مني زملائي أن أقول كلاما حماسيا يرضيهم، لكني لم أكن أتقن مثل ذلك الكلام.. وآخر حصة كانت مميزة، لأن المتحدث فيها هو رابح المشاغب، تحدث بأسلوب أعجبنا جميعا، لكن ردود الأستاذ صالح كانت تضايقنا ربما لأننا لم نفهمها، فهمنا الكلمات وعجزنا عن المعنى... والعمل كان تفكيك إسم صدام حسين... بطرقة عجيبة... ص: صلاح د: دين ا: ايوبي م: منتظر معنى إسم صدام صلاح الدين الأيوبي المنتظر! وماذا فعل صلاح الدين الحقيقي يا رابح؟ حارب الكفار وحرر فلسطين الحبيبة... نعم، حارب الصليبيين... وهو عراقي مثل صدام... لا .... لم تكن هناك دولة إسمها العراق، وإنما صلاح الدين جاهد تحت راية الخلافة العباسية في بغداد.. صلاح الدين بطل العرب جميعا بما فيهم الكويتيون.. وماذا فعل حتى طرد الصليبيين الذين احتلوا فلسطين الحبيبة لمدة قاربت القرن؟ وحد مصر والشام.. وصدام يهدف إلى توحيد العراقوالكويت والسعودية... لكن صلاح الدين كان قويا ومحبوبا... وأيضا صدام حسين... يا أستاذ.. محبوب.. والعرب جميعا وراءه... صمت الأستاذ قليلا .... لا نستطيع أن نقارن أبدا بين الرجلين، صلاح الدين حارب لأجل أمته، وكانت عينه منذ أن كان شابا يافعا على القدس الشريف، بينما صدام أو غيره عينه على البترول.. حارب لأجل نفسه أو لأجل الأخرين.. الحماس لا ينفع يا أولادي.. تمنيت من أعماق قلبي لو لم يحارب صدام إيران ولا احتل الكويت.. أنا أستاذ، فرد من أفراد الشعوب العربية، لا حول ولا قوة لي، لا أتقن إلا الألم أو التضرع لله أن يخفف عن هذه الأمة.. الحرب مؤلمة لما تكون بين الإنسان وعدوه، فما بالكم لما تكون بين الأخ وأخاه؟ يا أولادي أنتم تتحمسون وتعتقدون أن العراق سينتصر.. يصمد نعم .. الأمريكان غول كبير ورهيب ، وبالأخص لما يجد ضحاياه متفرقين فيلتهمهم الواحد تلوى الآخر... قاطعته سميرة: لماذا تتحدث يا أستاذ عن الهزيمة ونحن لم نعرف المسلمين في التاريخ إلا منتصرين؟! لم يدري الأستاذ بماذا يجيب أو أجاب ونسيت ماذا قال.... وانتقلنا إلى الثانوية، لكن في الثانوية الحديث عن العراق وتدميره قل، وكثر الحديث عن الإعصار الذي بدأ يتهدد بلادنا... والكل كان يتسأل، هل هذا الإعصار له علاقة بالشرق الأوسط أم لا؟.. ولا أحد من السكان يملك الإجابة، تمنيت أن ألتقي أستاذي صالح وأسأله.... كانت كل المتوسطة بأساتذتها وعمالها ومديرها وتلاميذها وطباخها وبوابها، منشغلة بغزو العراق للكويت، الذي افتتح به العرب التسعينات وودعوا الثمانينات.. الكل يتابع الأحداث باهتمام بالغ، عبر التلفزيون الوطني والجرائد، إنها الحرب التي ستعيد الأمور إلى نصابها! ولا حديث إلا عن البطل صدام حسين، وعن العراق الحضارة، وأقوى جيش عربي والثالث عالميا! والصواريخ المتقدمة.. وعن النساء الشجاعات..