وصلته رسالة من وحيده الذي لم يكن يعلم عنه شيئا لأكثر من خمس سنوات خلت ، التقفها وقلبه يتفتق شوقا ، وفض غلافها بصعوبة وراح يلتهم أسطرها بعينه الغائمتين - أبى الحبيب : كنت قد قررت ألا أحادثك أو ألتقيك أبدا ، ولا أخفي عنك الآن أني سعيت لئلا يتعرف علي أحد في حياتي أو بعد موتي ، فقد أحرقت كل وثائقي ، وعمدت إلى تشويه وجهي والتحقت بالجبل ، علني أفلح في الاختفاء من حياتك ، ولكن طيف أمي لا يبرح يأتيني هذه الأيام الأخيرة ،نعم يا أبي، إنها تأتيني داعية إياي أن أعود إليك، ولا أخفي عنك أني استغربت منها ذلك ! ··· تدعوني أن أعود إليك بعد كل ما فعلت وفعلت ، تدعوني أن أعود في هذا الوقت بالذات، وقد أصبحت بعيدا عن الموت الذي طلبته ، تدعوني وأنا مطالب بالكشف عن هويتي للجميع، تدعوني أن أعود إليك وسأفعل ذلك، ولكن قبل ذلك دعني أحدثك عن الشوكة التي نخرت القلب ورسمت الطريق طويلا بيننا وتركتنا على طرفيه: تذكر يا أبي أن أمي رحمها الله كانت تفخر بأنها أنجبتني شبيها لك تماما ، كانت تقول بأنك عطستني من أنفك ، وكم كنت سعيدا لكوني ابنك وأشبهك إلى الحد الذي تعلم ، لم يكن لدي من الأهل سواكما وكم كنت غنيا بكما ، ملأتما علي الدنيا ، وغمرتماني بحبكما ، ولكم كانت سعادتي عظيمة وأنا أراكما تتبادلان الحب والإخلاص ، ولكنك انقلبت ولم تف بعهدك لأمي ونسيتني ونسيت أمي ، ومسحت صورتها من البيت ، أمي التي ماتت بسببك ، أمي المسكينة المريضة بالقلب سقطت ميتة عندما سقطت مغشيا عليك بسبب انخفاض نسبة السكر في دمك ، ظانة أنك مت ، وعندما عدت إلى وعيك ما استطاع خبر وفاتها أن يقتلك ، أو يعيدك إلى غيبوبتك ، أو يظهر الأسى على وجهك، بل دفعك إلى الزواج بعد شهر من وفاتها ، ودفعك إلى عدم الوقوف إلى جانبي أنا العائد من المعتقل، المطارد من الشرطة ، المدفوع إلى تغيير مسار حياته· إنني يا أبى ما كنت أستطيع البقاء معك وحضورك القوي في حياتي، يستحيل إلى غياب عقيم ونفس أمي يتلاشى من البيت ومن كل شيء تطوله يدك أو يد زوجتك، لقد خفت يا أبي أن تطول يدك أو يدها، وتمسح صورة أمي وذكراها من قلبي وذاكرتي ··· لأجل هذا هجرتك، والتحقت بالجبل آملا قطع كل يد تشبه يد زوجتك أو يدك الجديدة · وليلة خرجت ، كانت الدنيا سوداء وثقيلة ، بحجم الهم الرابض فوق تلال القلب الجريح ، وغادر طيفك القديم قلبي مع الغروب، وبدأت السماء تفقد زرقتها، ورغم أنها كانت بعيدة منذ الأزل، إلا أنها ساعتها كانت تبتعد وتبتعد حتى غابت ، ولم يعد لوجودها أثر، لم أكن أظن أن لها شيئا من الحب في قلبي ، ولكنني شعرت وهي تغيب عن ناظري أني أفقد أمي للتو وإلى الأبد ····· وسرت وحيدا ليس لدي ما يؤنسني في تلك الظلمة الهائلة، سوى نباح الكلاب المسعورة ، وحشرجة الأوراق اليابسة الساقطة على أثلام الأرض المسقية ، وصفير الرياح من حول الأغصان العارية الحزينة ، وقطرات الجليد الحادة المنسابة في هدوء وثقة، والجبل والصدى وفتحت قلبي لهؤلاء جميعا ، فأحسست بما يشبه صوت خطوات وئيدة تنساب نحوي، وشيئا من الهيولى يفتح ذراعيه ويحضنني ، وفرحت حينها لأني استطعت أن أكسب حبيبا، بعد أن غادرت الحبيبة عالمنا ولم تعد ذلك الحبيب الذي كنت يا أبي ! ووصلت إلى الجبل ، وانضممت بسهولة إلى صفوف المنشقين، وباشرت التدريب والأعمال الشاقة ، والحراسة ، والانصياع للأوامر، والاستماع إلى الفتاوى المحرضة على القتل والتدمير والحرق· وليلة، وجدتني قبالة نفسي التي كنتها منذ زمن، ورنت وصايا أمي في أذني كالجلجلة : يا ولدي ··· كن طيبا قدر ما تستطع ، وازرع الطيبة حيثما حللت ، واعلم أن الدنيا أكثر إشراقا مما هي عليه لولا الفساد ، وإياك إياك أن تضيف شيئا إلى شقاء وبؤس العالم··· يا ولدي ، كن شفوقا ورقيقا ولا تخجل · وأفقت ساعتها من غفوتي ، وانزاحت غشاوة الحقد عن عيني، وكيلا أضيف شيئا إلى شقاء وبؤس العالم ، ألقيت بصخرة عظيمة على ساقي اليمنى ، فكسرتها في موضعين ، وسلمت من الموت ومن قتل الأبرياء والمذنبين على حد السواء ، وما خرجت من المعسكر بعدها ، فبعد أن التأمت جراحي ولم تعد رجلي قادرة على حملي بالشكل المعتاد ، اشتغلت في ترتيب المكان وطهي الطعام · إنني - يا أبي - لم ولن أغضب الرب ولا أمي ولا ضميري، وسأعود إليك ، مشوه الوجه ، مكسور الرجل والجناح ، وأرجو أن أ جدك تنتظرني بمقر الهلال الأحمر بالعاصمة ، وحاول أن تتعرف علي بنفسك ، فقد أقسمت ألا أكشف لك عن نفسي ، حتى وإن عدت بدوني ، وأخيرا ، أرجو أن تكون وجهي الذي أقابل به الناس ، ورجلي التي أمشي بها ، وجناحي الذي أحلق به ، كما كنت في حياة أمي · ولدك : سعيد أحمد الجميل ·'' ورفع رأسه حين انتهى من قراءتها ، وحمد الله كثيرا ، وسجد له ، ثم نهض ، وأخبر زوجته أنه خارج ولعله يغيب لعدة أيام ، وخرج مسرعا ، تاركا البيت وراءه مليئا بأسئلتها الحادة ، والكثيرة · وفي صباح اليوم الموالي ، وصل إلى مقر الهلال الأحمر بالعاصمة ، وأدخل إلى العائدين العشرين فوجدهم مشوهي الوجوه ، مكسوري السيقان ، معدومي الهوية ، قليلي الكلام ، وحاول التعرف على ولده ، ولم يستطع ، رفع صوته مناديا:/ سعيد أحمد الجميل·· سعيد أحمد الجميل···أين أنت ؟! فف ولكن أحدا لم يجبه · وبعد فترة صمت رهيب ، بدأوا يتقدمون إليه واحدا تلو الآخر، وكان كل من يصل إليه يقول له : / لعلني أنا سعيد أحمد هذا ··· لعلني ولدك ··· ألست أنا ؟ !! / ثم ينصرف عنه باكيا، وعندما تملكه اليأس في عدم العثور على ولده ، وفي رمشة عين، وقفت أم ولده أمامه، وقالت له: /إياك أن تعود بدون ولدك ··· أقربهم منك الآن هو ذاك / ثم اختفت، ودون أدنى تفكير ارتمى في حضن أقرب العائدين منه ، وهو يقول له باكيا : /إنك ولدي ···أنت ولدي / ولم يخب ظنه ، فقد أشرقت عيون ولده بالدموع وهو يقول له: / نعم يا أبي ، أنا ولدك/، وعادا معا إلى البيت القديم ، مثقلين بالجراح القديمة، والأمل المتجدد ·