عندما أعلن النوفمبريون الأوائل استراتيجيتهم عبر البيان التاريخي، نداء أول نوفمبر، كانت الأولوية للحركة أي العمل المسلح·· كان البديل المطروح يتمثل في التعويض الجذري لنظام المطالبة الوطنية الذي كان متمثلا في السياسي كقائد وزعيم وممثل ومنظم بنظام جديد يقوم على السلطة المزدوجة للثوري المسلح·· لم تعد السياسة تنطلق من المؤسسة الحزبية لأن هذه الأخيرة كشفت عن حدودها التاريخية والموضوعية، وعن حدود الجيل الذي قادها وأدارها، بل أصبحت ذات انطلاق جديد يعتمد على ''منطق وقداسة المعركة'' والمعركة هنا هي الحرب والثورة المخربة للبنى السابقة والمنتجة للبنى الجديدة والرجال الجدد·· لقد وصف النوفمبريون بالتاريخيين، وهنا إشارة إلى ولادة تاريخ جديد مع حركتهم التاريخية التي اختارت العنف الثوري كمولد لمشروع عالم جديد·· تمكنت حركة النوفمبريين من أن تهز أسس النظام الكولونيالي، خاصة وأنها ربطت ميلادها بتاريخ رمزي، يشكل علامة فاصلة في المخيال الأوروبي·· إن الهجومات على المقرات الرسمية واستهداف المعمرين بقدر ما كانت تميل إلى التمردات الأولى بعد انهزام المقاومة الشعبية التي قادها الأمير عبد القادر والمقراني والحداد، إلا أنها كانت تكشف عن خطوط جديدة لملامح هوية الحركة التي أرادت منذ البداية الانخراط في مشروع الثورة الشاملة ضد الكولونيالية كنظام احتلال واستيطان وهيمنة ذات نزعة شمولية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا·· هل كانت حركة النوفمبريين مجرد تمرد مجموعة من المغامرين والمنشقين عن الحركة الوطنية التي كانت ممثلة في شخصية مصالي الحاج الطاغية وذات الحضور والكثافة الرمزيين؟! على أية حال، هذا ما أراد تبيانه مصالي الحاج وأنصاره، ولقد كافحوا إلى حد الاقتتال مع النوفمبريين وذلك في معركة الصراع على سلطة الشرعية والتمثيل، وانتهى الأمر بانتهاء أب الوطنية إلى خارج ''لعبة التاريخ'' وتلك هي المفارقة التي أحدثها الجيل الجديد من الوطنيين الراديكاليين في جسد الحركة الوطنية التاريخية·· خلال عامين تمكن النوفمبريون من أن يمنحوا حركتهم شرعية ناشئة كانت بفضل قوة السلاح، وسعى عبان رمضان مهندس مؤتمر الصومام لنقل هذه الحركة من دائرة منطق الإرادوية الثورية إلى دائرة النظام المؤسسة، وقد ترتب عن ذلك أول نزاع حقيقي داخل الحركة، تطور إلى صراع على القوة والسلطة، ولم يكن اغتيال عبان رمضان إلا نتيجة لهذا الصراع داخل هذه الحركة من حالة التجريب الثوري إلى وضع التأصيل، تأصيل نظام ''ثوري'' و''بيروقراطي''·· لقد انتهت الرومانسية الثورية إلى عتبة الآلة البيروقراطية، وهذا ما دفع بالتناقضات بين الأفراد والعصب والمجموعات لتصعد من الدهليز إلى السطح·· فالصراع بين قادة الداخل الميدانيين وقادة الخارج، وبين الناشطين السياسيين والعسكريين لم يعد طي الكتمان، بل أصبح يهدد مستقبل الثورة·· وضمن هذا المناخ برزت قوة ضغط واستقطاب راحت تحاول إملاء تأثيراتها على توجهات الثورة·· وقد تمثلت هذه القوى بشكل رئيسي في الحكومات الثلاث التالية، القاهرة، مراكش وتونس·· فبالنسبة للقاهرة، كان لجمال عبد الناصر الذي كان يطمح ليكون الزعيم الأوحد للعالم العربي استراتيجيته في توظيف الثورة لصالح تدعيم سلطته المعنوية والسياسية، وتقوية أوراقه التفاوضية مع الغرب·· ولقد لعب فتحي الديب، مدير الاستخبارات المصرية دورا فعالا في إدارة الصراع بين العصب والمجموعات داخل الآلة البيروقراطية للثورة الجزائرية، وكانت مصر تقيم الشخصيات القيادية على أساس الولاء بالدرجة الأولى، ويظهر ذلك جليا عندما يقدم فتحي الديب إلى جمال عبد الناصر تقريره التحليلي عن عدد من وزراء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية غداة تشكيلها في سبتمبر 1958، بحيث يصف فرحات عباس، وهو أول رئيس للحكومة المؤقتة بأنه ''سياسي لبق، ضعيف أمام العسكريين، انضم إلى جانب كريم بلقاسم بعد اغتياله لعبان، اتجاهه إقليمي بحت ومن أنصار قبول الحلول الوسط بعكس ما يحاول التظاهر به مكروه من المناضلين في الداخل والخارج ويتشككون في نواياه ويرون في تعيينه رئيسا للوزراء خطرا يهدد الثورة''، وفي نفس التقرير ينعت كريم بلقاسم ''بالقيايلي وذو الأفق المحدود··· ولا يتردد في التخلص من أية شخصية قوية تعترض طريقه للسيطرة على الثورة، ميوله تجاه مصر غير واضحة·· مكروه من قادة الجبهة الشرقية لعنصريته وعدم سلامة اتجاهاته··''، ويقول عن عبد الحفيظ بوصوف ''بأنه متلون الميول، يعمل في هدوء وتكتم لكشف منافسيه تمهيدا للإطاحة بهم والسيطرة على الثورة''، ويشير إلى عبد الحميد مهري على أنه ''وصولي، يعمل لصالحه الشخصي، إخلاصه مقصور على نفسه، لا يؤمن بالقومية العربية''، كما يصف عبد الله بن طوبال ''بالخامل والكسول وصاحب التفكير المحدود''· ونفس الضغوطات التي كانت تباشرها القاهرة، كانت تباشرها أيضا مراكش وتونس بورقيبة، وهذا ما ترك آثارها تبدو واضحة على مسار الصراعات داخل الجهاز الجديد، وهو الحكومة المؤقتة، الذي حاول من جهة أن يخرج العمل المسلح من ورطته وتفاقم تناقضاته خاصة بعد مجيء الجنرال ديغول إلى الحكم وتبني فرنسا استراتيجية جديدة، وذلك من أجل تطويق الثورة وإحداث الصدع داخلها، وهذا من خلال إثارة وتوسيع رقعة النزاعات والصراعات الداخلية بين القادة الميدانيين وبين القادة السياسيين الذين أصبحوا في نظر الأوائل ''متبرجزين، بيروقراطيين، وملوثين بالفساد''· يشير العقيد اعمران إلى الوضع السيء الذي وصلت إليه الثورة بقوله أن ''الثورة خطت خطوات جبارة في 1955 1956''، لكن ''منذ مؤتمر الصومام، لم تحصل هناك أية مبادرة··· اختفت الروح الثورية لدى الجميع، قادة وكوادر ومناضلين، ففسح المجال للتبرجز والبيروقراطية والوصولية··· استولى القرف والإحباط على الأفضل بيننا''، وكان رأيه أن تتشكل حكومة مؤقتة للخروج من هذا المأزق··· هل كان ذلك صحيحا أم كان مثل هذا الكلام يعكس الصراع بين الميدانيين وبين البيروقراطيين (السياسيين) الجدد على من يملك القوة، وبالتالي السلطة؟! إن أشكال مثل هذا الصراع بين الميدانيين وبين الجهاز الثوري البيروقراطي الذي حدث قبيل وأثناء تشكيل الحكومة المؤقتة، وما رافق هذا التشكيل من بروز أجهزة أخرى، خاصة الجهاز الأمني الذي أشرف عليه عبد الحفيظ بوصوف لم تنته بنهاية الصراع بين الأشخاص والمجموعات بل كانت بمثابة اللبنة التأسيسية التي سترسخ لثقافة الهيمنة والتسلط، ولثقافة إدارة الصراع وأحيانا محاولة حسم التناقضات عن طريق العنف أو استعمال القوة·· وقد حدث ذلك في التخلص من حكومة فرحات عباس لتحل محلها حكومة بن يوسف بن خدة، ونفس الأمر تكرر غداة الاستقلال عندما انفجر الصراع بين حكومة بن خدة وهيئة الأركان التي كان يرأسها العقيد هواري بومدين·· كما لم يخرج صراع الرئيس أحمد بن بلة ووزير دفاعه هواري بومدين عن هذه الدائرة··· إن ما يعرف بمؤامرة العموري، أو مؤامرة العقداء جاءت في ظل لعبة هذا الصراع على القوة والسلطة·· صراع بين الأشخاص، وبين القوى ذات سلطة النفوذ والاستقطاب·· وكانت التهم الموجهة للمتورطين في هذه القضية ''إقامة اتصالات بدوائر أجنبية''·· ولقد نفذت المحكمة الثورية التي ترأسها هواري بومدين أحكامها بالإعدام ضد المتهمين (وهم العقيدان العموري ونواورة والرائدان عواشرية ومصطفى الأكحل) وبرغم ما يمكن أن يثير ذلك من ألم، إلا أن التشديد على تحويل العقاب إلى نوع من المشهدية يشكل حاجة ماسة للبيروقراطية الثورية الناشئة لأن تتحول أجهزتها إلى قوة ردع من جهة وإعادة تشكيل للسلوكات والخطابات من جهة ثانية·· وكان بومدين الذي ترأس المحكمة، من بين الذين وضعوا الغنائم المترتبة عن صعود نفوذ البيروقراطية الجديدة في رصيدهم السلطوي والبيروقراطي السياسي الذي سيجعل منهم لاعبين الأكثر أهمية وخطورة في الأيام القادمة··