يستفيق الصبح باحتشام، فهو يدرك أنه ما من أحد يستعجله في الجانب الآخر من المدينة· بالنسبة لسكان الفضاءات المبهمة ليس كل ما يلمع ذهب، لذا يتطلب سحبهم من سباتهم أكثر من بزوغ نور الصبح· بالرغم من ذلك فإن ''أش'' فضل الانتظار للتأكد من غياب الشمس من الأفق للنهوض، واضعا بعناية حزمة تحت إبطه· - إلى أين تذهب؟ يسأله جونيور - كلبة بليس وضعت صغارا - وماذا في ذلك؟ - ماذا عن حسن السلوك، جونيور؟ يبعد جونيور الستار الذي يفترض أنه يقيه من الحشرات ليتمكن من إمعان النظر في الموسيقي· يبدو ''أش'' غاية في الأناقة، ارتدى السترة التي يخصصها عادة للمناسبات الهامة، وإن كانت رثة المظهر إلا أنها على الأقل نظيفة· كان يضع قميصا جديدا زينه بربطة عنق أقرب ما تكون لما يرتديه المهرجون· فقد كانت شديدة الحمرة تميل للون لسان الثور· كان يبدو أنيقا في السروال العسكري المنتفخ الجيوب وبزوج الحذاء، الذي اعتنى بتنظيفه بمياه البحر· كانت اللمسة الأخيرة في تلك الوردة من القماش المتربعة بفخر على صدر السترة· لم يكن جونيور متأكدا، لكن لوهلة بدا له أن صديقه قام بتنظيف وجهه· بل أكثر من ذلك قام بتصفيف كومة العش التي تتربع فوق رأسه، تلك الكومة من الشعر الهائج عادة· - تبدو مهندما - لا شيء يمنع من الاعتناء بالذات بين الحين والآخر· يجيب ''أش'' بتواضع لا يستوعب جونيور تماما ما يرمي إليه صديقه، ربما لكونه غير مهتم بذلك· يكتفي بالنظر حوله، يستوقفه سرب من الطيور الأكل للقاذورات، وهو في خضم معركة تقاسم غنيمة من الفضلات· يعود بعد برهة للحملقة في هندام الأعمى· - تعتزم البقاء طويلا رفقة بليس - أشك في ذلك فهو ميئوس منه - هل نذهب ناحية الجسر بعد ذلك؟ - سنرى ينهض جونيور وهو ينفض الغبار عنه - على كل حال لا يمكنني البقاء هنا وحيدا يتصارع بليس مع بوابة الحاوية التي تشكل منزله· حاوية، كانت لفظتها سفينة تجارية عقب غرقها· حدث ذلك قبل عقدين من الزمن· كان الجزء العلوي من جسمه النحيف عاريا يتصبب عرقا· ومع ذلك يصر على الاستمرار في سحق يديه على كومة من خردة الحديد، في غضون ذلك وغير بعيد عن المكان يتجه الرجلان نحو الكثبان الرملية للاستلقاء· - إنها لا تستجيب لي· يشتكي إبليس وهو يضاعف الجهد المبذول - ربما عليك الوضع القليل من الزيت - بماذا، لقد حدث نفس الشيء السنة الماضية، لقد تطلب الأمر مطرقة ورافع السيارات لإخضاعها - حتى الشيطان لا يمكنه المبيت فيها من شدة الحرارة، كل ما أحاول القيام به هو تهوية المكان في نهاية المطاف يستسلم بليس ويجلس قبالة الرجلين· كان ''أش'' في انتظار هذه الاستراحة· يقوم من مكانه بكثير من الوقار· يوجه كلامه لإبليس بنبرة من كانت حنجرته معقودة: - علمت من هارون أن كلبتك وضعت صغارا - وما الذي يعنيه في الأمر - أخبرني لمجرد الإخبار دون نية مسبقة يمعن بليس النظر في ''أش'' ورفيقه في محاولة لاستقراء نظرة ما توحي بالتواطؤ· لكن يبدو أنهما صادقان يبادر ''أش'' بالشكوى: - منذ ظهور الكلب الأصهب، لم تتوقف عن الوضع· زيادة على هذا فهي لم تكتف بوضع صغار صهب، بل وضعت صغارا سود، رماديين وحتى مختلطي البشرة· في بعض الأحيان عند حلول الظلام تجتمع الكلاب هنا وبالكاد لا أنضم إليهم في العويل· يهز ''أش'' رأسه متفهما الوضع ومتعاطفا يمرغ رجليه في الرمال يصل صوته متقطعا: - هل هي هنا؟ - أين تريدها أن تذهب؟ - هل يمكنني رؤيتها؟ - لماذا؟ يرد بليس حذرا - أحب صغار الكلاب يمعن بليس النظر في الموسيقي ومن ثمة في جونيور، يجد الأمر محيرا· أن يظهروا دون سابق إنذار والشروع في طرح أسئلة أمر يشغل باله· على كل حال لطالما شعر بالانزعاج من الزوار سواء قدموا عن سابق موعد أو لا، سواء كانوا جالبين لأخبار طيبة أم لا· بالنسبة إليه ليس هناك من زيارات مجاملة، دوما يتعلق الأمر بالتفتيش، الاعتداء أو التلصص· فإبليس شخص كتوم، يعيش على هامش الكل· ''أش''، الذي يكره الوحدة، ينظر إليه على أنه صعب المراس، شخص لا يمكن توقع رد فعله وناكر للجميل· في الواقع لا يمت بليس بصلة لكل تلك الصفات، وإنما رغبته في عدم التدخل في حياة الآخرين تكمن في رغبته في الحفاظ على حياته· يسهل التكهن في نظاراته المسترقة أنه طفح الويلات في حياة سابقة· في تلك الملامح المتداخلة، في التجاعيد وعلامات الألم، كلها تخبر قصص الخيبات التي تعرّض لها· - ماذا تقصد بأنك تحب صغار الكلاب؟ - بالضبط ما تعنيه العبارة أحب صغار الكلاب· - آه، ولماذا اليوم بالذات؟ - هذا لأن كلبتك وضعت صغارها بالأمس ونرغب في رؤيتهم اليوم· ليس في الأمر شيء آخر· يمكنني تأكيد ذلك، لن نسرقهم كما أننا لن نصيبهم بعين الحسود، في كل الأحوال لدي عين واحدة لا يمكنها الإبصار لما هو أبعد من أنفي· - هل أنا مضطر لتصديقكم؟ - لا لست مضطرا، هل ستدعونا نرى كلبتك نعم أم لا· أنت في منزلك يمكنك استقبالنا كما يمكنك طردنا· لك مطلق الحرية في قرارك· لن نضطرك لفعل شيء لا ترغب فيه· نريد فقط رؤية الكلاب لا أكثر ولا أقل· يتردد بليس قليلا قبل أن يؤشر لصهريج مكسور: - إنها هناك يهز ''أش'' رأسه في إشارة للشكر في إيحاء لرفعه قبعة وهمية، يستجمع توازنه ويتجاوز كومة من خردة الحديد· الكلبة هناك مستلقية في الظل وحولها صغارها كل منهم متمسك في ثدييها· ترفع الكلبة جانبا من رأسها ثم تنحني بنظرتها من جانب واحد· يطأطئ ''أش'' لمستواها بحنان بالغ· يداعب فرو واحد من صغار الكلاب الذي أقصي من طرف إخوته من الوجبة الجماعية· - عائلة جميلة· يطلق ''أش'' - تعتقد ذلك، يرد إبليس متمتما بحنق يقوم ''أش'' من انحنائه، يتمعن في الكلبة وصغارها وفي حركة نبيلة يمد الحزمة التي كانت بحوزته ل ''بليس''· - ماهذا؟ يسأل إبليس حذرا - أرجو ألا ينفجر في وجهي - افتحه يأخذ بليس الحزمة، يدخل يديه بكثير من الحيطة وكأنه خبير تفكيك القنابل، يستمد شيئا من الطمأنينة من النظر للموسيقى - سوط - لا بل حزام عنق للكلب، يرد عليه ''أش'' - حزام عنق للكلب، وما عساني أفعل بها؟ - إنها هدية كانت لكلبي رحمة الله عليه· أمنحها لك اليوم· يتفقد إبليس الهدية من كل الجوانب، تعابير وجهه المقتضبة لا تروق للموسيقى· - لست أفهم - أقول لك أنها هدية، يصرخ ''أش'' في وجهه غاضبا من تصرف إبليس· - آه يستخرج إبليس الهدية وفي حركة عنيفة يطققها في الهواء وكأنها سوط، في ظل حسرة الموسيقي· بعد ذلك ينظر لكلبته في حالة من الشك· - لن ترغب أبدا في وضع حزام حول عنقها، لديها عزة نفس تمنعها من ذلك لم يعد في إمكان ''أش'' تحمّل كل هذه الفضاضة، يغادر المكان ضاربا الأرض بقدميه حتى يتصاعد الغبار· يسارع جونيور للحاق به· - أحمق، غبي، أبله··· يصرخ الموسيقي وهو يبتعد· يقوم جونيور بضرب الرمال بقدميه هو الآخر من دون أن يعرف السبب الحقيقي وراء الغضب العارم الذي أصاب الموسيقي، يردد غاضبا: - أحمق، غبي، أبله ·· - أي ناكر للجميل هذا - أي ناكر للجميل - غير قادر حتى على كلمة شكرا - أن تنتظر من إبليس أن يقول شكرا، فهذا يتطلب أن تتحلى بصبر أيوب· ما الذي دهاك لمنحه الحزام، كان غاية في الجمال يرد ''أش'' بمرارة: - إنه السلوك الحسن، ثم يا جونيور لا أحد يلد عندنا ''أش'' محتار الشمس قاربت المغيب الكلي ولا شيء يحدث عادة في مثل هذا الوقت يمكن سماع الأصوات المتعالية ورؤية أخيلة تتمايل في حركات بطيئة وكأنها تؤدي أدوارا في مسرح الظل الصيني غير أنه السكون التام بالرغم من النظر من كل الجوانب لم يتمكن ''أش'' من رؤية أي حركة، وهو أمر لا يطمئن - هذا غير عادٍ - ما الذي يحدث؟ يرد جونيور - يبدو أن الرجال غادروا - ربما يستمتعون بقسط من القيلولة - ليس في مثل هذا الوقت يشد انتباه جنيور حركة فأرة احتلت مكانا على موقد البترول· يعدل من جلسته حتى يمعن النظر فيها، غير أنه سرعان ما تقفز هاربة، محدثة فوضى وراءها، فقد قلبت رأسا على عقب العلبة الحديدية القديمة التي تحولت إلى كوب يستعمله الموسيقي· يسير ''أش'' نحو الحاجز الصخري، يتسلق تلة رملية ويطيل النظر في أفق الرصيف، يبدو له المكان منطقة منكوبة - هذا غير طبيعي، يتمتم مع نفسه في قلق في الصبح تترك ماما، التي تفضل عادة التسكع منفردة، مكانها خلف كومة القاذروات، تاركة ميموزا رفيقها مكوما داخل عربته اليدوية· كثيرا ما تضطر ماما لسحب ميموزا السكير نحو الشاطئ لتزيل عنه تلك الرائحة النتنة التي تنبعث منه· كانت تمرغه في مياه البحر بقوة لطالما أشعرتها أنها في يوم ما سيكون ضحية غرق· بعد ذلك كانت تسحبه من عقبيه، لتتركه يجف تحت أشعة الشمس قبل أن تعود نهاية اليوم لأخذه· عدا هذه الحركية التي تخلقها ماما لم يكن الشاطئ ولا الرصيف يعرف حركة أخرى· كان ''أش'' يرغب في محادثة ماما لمعرفة السبب وراء هذا السكون، إلا أنه لم يرد مضايقتها· كانت ماما امرأة رائعة، لولا شكها المفرط، يكفي أن تسألها عن الوقت لتنظر إليك بعين الريبة· كان ''أش'' يلقبها بعلبة بوندورا، التي يفضل عدم فتحها خشية ما قد تطلقه· وعليه كان يفضل تفاديها· - ماذا لو خرجنا لاستنشاق الهواء، ''أش''، نمرغ أرجلنا في الرمال ونعرض وجوهنا للشمس· بادر جونيور - سيحل الظلام بعد قليل - وماذا في ذلك - هل أنت جاد، كيف تستمتع بالشمس في الظلام، جونيور - معك حق، ما أغباني، قالها جونيو وهو يضرب بكفه على جبهته - لست بالغبي جونيو، تنسى التفكير قبل الكلام فقط - صحيح، كيف يمكنك التفكير في ذات الثانية التي تفكر فيها· لم أفلح يوما في ذلك - ستتعلم مع مرور الوقت، هل يمكنك أن تكون مفيدا في عمل ما؟ - ذلك يتوقف على طبيعة العمل - ماذا لو ذهبت لتفقد الباشا - لن تنجح في استغفالي هذه المرة، يقولها ''أش'' وهو يحاول تمالك نفسه من الضحك - أنا أتحدث بجد، هناك أمورا مريبة تحدث في الرصيف لم يكن جونيور يرغب في أن يتم التحايل عليه مثلما جرت العادة، لطالما اعتبره الجميع ضحية سهلة· كان ''أش'' يقرأ في عيني صديقه الموسيقي شيئا من الصرامة، قام من مكانه على مضض مرتديا حذاءه قبل أن يتوجه للخارج· - ليس عدلا في كل مرة لا تنجح في إقناعي بالقيام بشيء ما تضطر لإجباري عليه· خرج متثاقل الخطى وهو مقتنع أن الموسيقي يستهزأ به، استمر في السير متجاوزا الحاجز الصخري، دون أن يصله صوت الموسيقي· عند بلوغه خيمة ماما غير بعيد عن كومة القاذورات، تذكر أنه لا يدرك سبب خروجه· ماما التي كانت تنظف رفيقها في مياه البحر، لمحت القادم فما كان منها إلا أن سارعت للعودة لخيمتها في إشارة منها إلى أنها لا تملك الاستعداد لمحادثة أيا كان· تاركة رفيقها ممددا بالقرب من الخيمة وكأنه كومة قش· تذكر جونيور أنه عليه بلوغ الرصيف لمعرفة ما الذي يدور هناك· عاد على عاقبيه محاولا مقاومة الرياح القوية· بمجرد بلوغه الشاطئ يشاهد كلوفيس فوق صخرة كبيرة يتأمل في هارون الأطرش وهو يصارع مياه البحر· عن بعد يبدو لأي كان إدراك مدى معاناته - ألا ترى أنه على وشك الغرق، صاح جونيور في حالة من الهلع كلوفيس الذي كان منحنيا على نفسه وكأنه وحش مستمتع بوليمته، رد عليه بقوله: - أنذرته بعدم الذهاب إلى هناك - ما الذي يفعله هناك؟ - قال إنه يرغب في الاصطياد، أخبرته أن العاصفة هوجاء ولا يمكنه مقاومتها لكنه لم يسمعني· كان هارون يحاول جاهدا بلوغ الشاطئ، غير أن مساعيه كانت تذهب سدى إذ سرعان ما تعيده الأمواج الهائجة للعمق· جلس ''أش'' إلى جانب كلوفيس لمشاهدة هارون وهو يلقى حتفه، وكأن الأمر كان مقضيا - هل تعتقد أنه لابد من إخراجه من هناك· يسأل جونيور - لدي رهبة المياه، يرد كلوفيس - أنا كذلك، هل مر وقت طويل على وجوده في هذه الحال - منذ فترة لا بأس بها· يعلم جيدا أنه لا يمكنه التغلب على البحر، بدلا من الاستسلام يصر على محاولة النجاة - أرجو ألا يطول الوضع، لا أنوي قضاء الليل بطوله هنا - أعتقد أنه لا بد من طلب المساعدة - لن يقبل بذلك وعلى كل حال فإن الجميع غادر للبحث عن بيبو - ما الذي حدث لبيبو - عاد للمدينة - المدينة ليست مكانا لنا - يعتقد الباشا أن مكروها ما أصاب بيبو، ذهب الجميع للبحث عليه· لم يتبق سوى نقوس في الرصيف· يظن أنه لابد من بقاء أحد لحماية المكان استمر الإثنان في مشاهدة هارون الذي لم يعد يقوى حتى على المقاومة· - لماذا لا يكف عن ارتكاب الحماقات، يقول جونيور وهو يفكر في هارون يكتفي كلوفيس بالاستماع وهو يعدل من جلسته، لقد قرر الصمت لغاية نهاية معاناة هارون· لحظة مهمة تستحق الصمت، فهارون سيغيب للأبد في عباب البحر