قرأت في عدد من الصحف الوطنية غياب المثقف عن المسار السياسي و ما يجري في هذا البلد ، و انصبّ اللوم على الفئة المثقفة حتى من بعض من ينتمون إلى الحقل الثقافي ؛ و قبل أن يلام المثقف عن غيابه أو عدم اكتراثه بما يجري حوله علينا أن نتساءل أولا عن سبب هذا الغياب ، و أنا لا أسميه غيابا و لكنني أسمّيه تغييبا ؛ فلو وجد المثقف في مسئولية من يقيم له وزنا أو يتخذه عمْقا فكريا يستمد منه الرأي و المشورة ، لشارك بما يملك من رأي حصيف و من عمل جاد ، فالمثقف إذا أبعد عن الساحة حلّ محلّه من لا يملك ثقافة و معرفة. و نحن عندما نعود إلى دور المثقف في الغرب أو في الشرق فإننا نجد أنه كان المُنظًّّر لتطوّر هذه الشعوب و رقيها ، و صاحب الحظوة لديها ، و لنأخذ أمثلة على ذلك و ليكن مثالنا الأوّل : روسيا ، ففي روسيا برزت ملامح التطور الاجتماعي انعكاسا لما قدمه المثقفون أمثال مكسيم غوركي و دويسيوفسكي و ثولستوي و غيرهم ، أمّا مثالنا الثاني فهو الانقلاب الاجتماعي للشعب الفرنسي و كان المؤشر له هو المثقفون فولتير و موليير و جون جاك روسو و غيرهم فالتحولات الاجتماعية نظّر لها العلماء و لم تأت من فراغ . و قبل ذلك كان العلماء و المثقفون وراء الحضارة العربية التي بلغت أوجها في العصر العباسي . و لهذا فلا نستغرب إن كان أجر الأستاذ الجامعي في أمريكا و في كثير من الدول المتقدمة يفوق أجر وزير؛ لأنهم يقيمون وزْنا لمن ينبغي أن يقام له وزن. إنّ المثقف حين يعلم بأنّه غير مرحّب به في بلادنا و أنّه آخر اهتمامات السّلطات العليا ، و أنّه من هوامش الأشياء يعزل نفسه عن معترك الحياة لأنّ لديه بقية من كرامة عليه أن يحافظ عليها. فهو لا يستجدي قربا من المسؤولين، و من ثم يأتي غياب المثقف. هناك من يعتبر الثقافة في بلادنا ترفا أو فلكلورا، و لكن الثقافة سلوك و تحضّر اجتماعي. و ممارسة مبنية على اليقين لا على المغامرة و المقامرة . و المشكل أن المثقف الحقيقي لا أدعياء الثقافة لا شأن له حتى في منظور القطاع الثقافي ؛ فالقطاع الديني قريب جدّا من المنتمين إلى هذا القطاع ؛ فالوزير على صلة دائمة بموظفيه و التابعين له ، من أئمة و معلمي قرآن و ما إلى ذلك ، و مثل ذلك المديرون على مستوى الولايات ، و القطاع التربوي على صلة بالمنتمين إلى القطاع من أساتذة و معلمين و ما إلى ذلك. أما عندما تأتي إلى الحقل الثقافي فإنك تجد المسؤول على جميع المستويات لا يقترب هو من المثقفين و إنما ينتظر منهم أن يقتربوا هم منه، و قد سمعت عن بعض المسؤولين يقول الباب مفتوح أمام الجميع، و استغرب من عبارة الباب مفتوح، فكل الإدارات والمؤسسات تفتح أبوابها. و هناك مقوله كثيرا ما تتكرر عندنا "تقريب الإدارة من المواطن" و هذا العنوان جميل؛ و لكن هل حقا قد اقتربت الإدارة من المواطن. إذا كان يراد بها الهياكل فالهياكل منتشرة في كل مكان و الحمد لله. أمّا إذا كان يقصد بها الخدمات فلا زالت بعيدة من المواطن. أعود إلى موضوع غياب المثقف أو تغييبه، و بغياب المثقف تغيب الثقافة، فقد لاحظت كيف أن ما يدور في الاجتماعات العامة على مستوى الإدارة أو الهيئات المنتخبة لا تخرج جداول أعمالهم عن الشؤون الاجتماعية و الاقتصادية و التسيير و ما إلى ذلك، و لو رجع أحدنا إلى الجلسات لما وجد للثقافة حضورا إلاّ من حيث بناء الهياكل و التجهيزات والتسيير العام، فللرياضة حظوظ أعظم من الثقافة عشرات المرات و للحصاد و الدرس أهميته في البرنامج السنوي و لا تكاد تسمع في الجلسات عن الثقافة إلاّ لماما. و رحم الله الأديب الدكتور طه حسين حين اشتدّ استغرابه كيف تقيم السلطات الدنيا و تقعدها عندما يضعف المحصول الزراعي و لا تقام هذه الدنيا في ضعف المحصول الثقافي و العلمي. (*) الأستاذ يحيى مسعودي : أديب و شّاعر و كاتب