نأتي الآن إلى الموهبة وعلاقتها بالوظيفة فنجد أنها حالة مختلفة تماما عن المهارة، فهي تنبثق من فطرة رهيبة على الحضور، تتسلح بمعطيات وقواعد أخرى، وترتبط أيضا بحالة فنية وذوقية رهيبة يتمتع بها الموظف، بحيث تظهر معالمها منذ طفولته، وتطفو على مظاهرها كثير من الملامح النادرة في قوالب مختلفة تدل على ثبوتها وتوفرها، فإذا أضيفت لها المعارف والتدريبات، أي ما قصدناه سابقا من حضور فعلي بما يتوفر من مهارات ولواحق تقنية وفنية ونفسية، فإن الحالة هنا تنفتح على فضاء من العطاء، وهذا هو النموذج الذي قد لا يكتفي بقيادة طائرة مثلا، بل نجده يفكر في تصميم طائرة أكثر تطورا، ويمكن أن يحدث هذا قبل أن يتناول أية مهارة من جهة معينة، وعادة ما نسمي هذه الظاهرة بالمعجزة، لأنها ظاهرة استطاعت أن تحقق ذلك دون الاعتماد على قدرات الآخرين، إذ لا يمكن أن يحدث هذا إلا بوجود هذه البذرة التي اتفقنا - اصطلاحا – حولها على أنها موهبة مضافة إلى شكلية الحضور، إنها حالة كونية تعجز القوانين تحديد نسبة وجودها من شخص إلى آخر إلاّ بقوة الحضور واختلاف ونصاعة البصمة التي يتركها الموظف، لذلك نلاحظ الدول المتقدمة تلاحق هذه المواهب في العالم، فتلجأ إلى اختطافها بمختلف الإغراءات والمحفزات لغرض تفجير ما تقصده من قوة كامنة لصالحها. وهذه أهم خاصية حضارية تبحث عنها هذه الدول للانطلاق إلى فضاء التجديد والاختراع والابتكار، وهكذا تضحك عن الحضور العاجز إلاّ عن استنفاذ الحيز الزمني المقدر بشهر، ثم يتقاضى الموظف بهذا الحضور السيئ راتبا ماديا، وهكذا يبدأ مرة أخرى في تدوير الزمن فيجد نفسه قد تقاضى راتب ستين سنة دون بصمة تُذكر. إذن نحن أمام ظاهرة لا تستطيع إثبات قدرتها على الإضافة، إلاّ ما نلتمسه من تحسينات فيما يتعلق بالصيانة وهي بالأصل تقليد لمهارات أخرى، هذه الحالة التي تزعج غالبا صاحب الموهبة، لأنه ليس في دائرته استعداد للتّقليد على قدر ما هو منطلق نحو الاختراع والتجديد، فلا يتطلع إلى ما طرحه الآخرون إلاّ من باب الرغبة في التفوق على سبيل المقارنة، لأنه لا يحب أن يظهر مجرد منجذب نحو حالة مكررة ومقلّد لها، وقد يرى أنها غير ناجعة من البداية بحكم التفوق الفكري لديه وتقدم نباهته بخصوصها، وهذا هو المعنى العملي الدقيق لكلمة حضور، وليس مجرد ما تشير إليه الشاهدة من تخصص غائب صاحبه عن إثبات حضوره حضاريا، تقابلها ظاهرة الحضور بالمهارة المكتسبة بالنمط التلقيني، الوضع الذي تنفق عليه الدولة أموالا طائلة لتكوين مهارات معزولة عن روح المنافسة وعارية مما أشرنا إليه من موهبة، لذلك نجد هذا النموذج لا ينتبه إلى ما يحدث حوله، ولا يتطلع إلى تطور الأحداث داخل وخارج محيطه، ويكتفي بدوره الذي حددته له مدة التكوين، ليظل ما يقوم به نشاطا أعجف لأن صاحبه يقف موقف الحافظ المكرر المقلد، هذا إذا اتفقنا أن النفس البشرية في توق مستمر إلى الجديد والمُلفت والنادر، وأن الحياة بكل وظائفها في تجدد دؤوب كما يعتقد ويؤمن صاحب الموهبة، ولا يستطيع أحد أن يراوغها أو يعبث بمسارها، نتحدث عن موهوب يتوفر على ذوق سليم وفطرة طبيعية للبحث عن الجمال واللذة والفائدة، عقل نشط مستمر لا يكل من طرح الأسئلة، عن نابغة تنفر من المألوف والعادي والمكرس والمتكرر، لأنه مرتبط بعدة تفاصيل بعيدة وخارجة عن نطاق النظرية السائدة، إلا ما يحتاج منها كخبرة سابقة فيما يعني الاطمئنان على سلوكه كمختلِف، وعن مساره كباحث ومجدد ومُطوّر، ولا نتحدث عن مخلوق يعتبر استناده على الغير - غشًّا وتقليدا – ذكاء، أو عن مهووس بالشهادات الكارتونية فلا يهمه إلاّ أن يراها متراكمة على مكتبه لغرض التباهي والعنجهية ليقول أنه متفوق وكفى. لا يستطيع أن يقنعني أحدٌ بأن الحالة لا علاقة لها بالغيب، وبمن يشاء الله أن يودع في روحه من الروائع، ومَن يقرر في ملكوته أن يسخّره لتنوير البشرية وإسعادها، الحكاية تشبه بنموذجها المصغّر الطفل عندما يخرج من بيته بلعبة جديدة، خصوصا إذا كان قد صنعها بنفسه، الأكيد ستبدو مثيرة مهما كانت بدائيتها، فيدفع أترابه إلى ترك ألعابهم لأنهم رأوها أقل أهمية مما جاء به هذا الطفل، هكذا نجد لمسات الموهوب بهذه القدرة تشبه لمسات الأنبياء والرسل، تلتمس ذلك في قوة انجذاب الإنسانية نحو ما أبدعه من عمل، يعني عندما يريد الله أن يمرر حكمة فيما دون الوحي كالاختراع والابتكار اختار لها من يصممها على أرض الواقع، واجتبى لها من يجسدها منجزا يحيّر العالم ويُعجزه، فإن كانت حكمة أدبية مسموعة أو مقروءة اختار لها شاعرا أو روائيا أو ممثلا أو مغن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن من الشعر لحكمة" صحيح البخاري، إذ يمكن لنا الإجهاد بالقول: إن من الفنون لحكمة، لأن الشعر لم يعد الظاهرة الوحيدة للتعبير مقارنة بما سبق.. وقد يُسخّر الله لها مجنونا فيدس في لاوعيه هذه الحكمة فيظل ينشدها في الشوارع، ليظل الناس يستفيدون منها، بدليل المقولة القائلة "خذوا الحكمة من أفواه المجانين"، فنجد أنفسنا مجبرين على التلقي ولا نستطيع أن نناقش شؤون الله في خلقه، وفي العرف يصفون الفنان المقتدر بالمجنون على غرار قيس بن الملوح "مجنون ليلى"، ودافينشي الذي حيّر العالم، وعالم الفيزياء الذي توفي حديثا ستيفن هوكينغ، لاحظوا أن الله حريص على استمرار الكون بهذا الحضور الفعلي الذي نلمح إليه، وأحيانا لا يكون للإنسان دخلٌ في هذا المشيئة، فلا يكون إلا قالبا لاحتواء هذه القدرة، ويجتبي بها الله ذوي القلوب الطيبة المحبة للإنسانية الميالة إلى إسعاد البشرية، وكل ذلك يتضمن معني الرسالة على ضرورة استمرار الحياة. استخلاصا من كل ذلك يبدو الإنسان في تواجده المقدس مجرد عارف بالأشياء في مرحلة ما قبل الوظيفة ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة/ 31، وهذا ما نقصده بعلم الإحاطة بالنظريات، وامتلاك القدرة على تطبيقها بحكم الحاجة الملحة التي تقتضيها أمانة الاستخلاف في الأرض، دون ذلك يكون الإنسان ظلوما جهولا، وبذلك نجد أنفسنا نمارس أكذوبة حضور في نموذجها الكوني الأكبر. المختلف عن حياة الأنعام أن المؤمن بهذه الوظيفة المقدسة بالمعنى المشار إليه يُبدع بموجب نص هذه النظرية، ولا يعتبر ما تلقاه من معارف وتجارب إلاّ دليلا ليعرف ما الذي يريد أن يطرحه هو كمبتكر موهوب حتى يجنب نفسه التناص والتقليد، فهو يعرف بأن المعارف ليست هي الهدف، بل هي مجرد وسيلة مكملة لتغذية الظاهرة التي وجد نفسه مخلوقا لها وبها، ولا يستطيع أحد أن ينفي بأن الإنسان الحجري هو الذي أسس لهذه الحضارة التي نحن ننعم تحت ظلها، مع أنه لم يجد أمامه لا نظرية ولا تجربة ولا حتى مهارة سابقة تُذكر، لكن عندما نحيد عما أراده منّا الله عز وجل، فإننا نجد أن النظرية المادية الوضعية تمارس علينا ظاهرة التبعية في قالبها العملي الرنّان، فنظل نقتات ممّن سنّها وجعلها خطا مستقيما لنصل منصاعين إلى ما قرره هو من نتائج، كما نفعل بالدجاجة حينما نضع أمامها حبيبات القمح لنوقعها في المصيدة، أردت أن أقول أن الشعوب الواعية هي التي تنتبه إلى فخ النظرية السائدة، وتفسح الفضاء أمام المواهب والنوابغ والمفكرين وتشجعهم على الانطلاق. - الوظيفة وأكذوبة الحضور...(الجزء الأول) - الوظيفة وأكذوبة الحضور...(الجزء الثاني)