حين يولد المرء تكون جملة من المحدِّدات قد رسمت معالم شخصيته، غير أنَّه في هذه السن المبكِّرة يتميَّز باستقلالية عالية وتحرُّرٍ فريد؛ ثم يكبُر الولد وتكبر معه "النمطية"، و"المألوف"، و"العادة"، و"التقليد"؛ وكلَّما توغَّل في "الدرس الرسمي" من خلال مدارس حكومية، وبرامج إعلامية وطنية، وخطابات محلية، ترسّخت تلك الصفات أكثر فأكثر، ولا ينجو من قيدها في الأخير إلاَّ النزر القليل. لكنَّ النجاة لا تعني التحرُّر بالضرورة، بل قد تعني تبنِّي الرأي والموقف النقيض، فإذا كان النمط هو "أ" مثلا، كان النقيض "- أ " (ناقص أ)؛ ومن ثمَّ فحتى مَن كانت هذه حاله كان كالسمك، لم يغادر مسبحه البتة، ذلك أنَّه يسبح ضدَّ التيار وفقط. وتحتدُّ النمطية في المجتمعات المحليَّة التقليدية، بينما تخِفُّ في المدن والتجمعات الكبرى، لكنها مع ذلك لا تذوب كلية، ذلك أنَّ لها طرقا مختلفة ووسائل متكاثرة تثبِّتها، منها: السياسة، والحزبية، والإعلام، والعلم، والاقتصاد، والسوق، والمصلحة... الخ. حتى إنَّ كثيرا من المجتمعات التي يبدو – ظاهريا – أنها متحرِّرة، هي في الحقيقة "قوالب جاهزة"، و"شخصيات اصطناعية"، و"أفراد على المقاس"؛ وليس أدلَّ على ذلك من المجتمع الأمريكي المفبرَك ثقافيا مِن قِبل جماعات الضغط المتحكِّمة، ومجموعات المصالح المسيِّرة للدواليب(1). إذا كان الفكر هو "فصل الأشياء، ومحنة الفصل"، أي أنه "قلق العلاقة" عند هيغل، فإنَّ الإنسان حين تفكُّره في العلاقات التي بينه وبين ذاته، وبينه وبين غيره، وبينه وبين موجِده، ومحيطه، وبيئته... يتحوَّل -من خلال هذا التفكُّر في العلاقات بمنهج وجدِّية- إلى مرحلة "القلق المعرفي"، التي لا يبلغها إلا القلَّة من الناس، والذين يلِجونها قلَّ منهم مَن ينجو منها بسلام. في هذا المستوى الرفيع من التفكير، غالبا ما يحدث الخلط بين "المعتقَد" و"العقيدة"، وكذا بين "العلم" و"شبه العلم"؛ فالمرء إذا وقَف على أرض صلبة من العقيدة، يقلق معرفيا ولا يتخلَّى عن عقيدته، وهو مع ذلك حريص على أن لا يقع في "المعتقد" (dogm)، وهو كذلك يجتهد أن يكون علميا، ويحذر من الوقوف في هشاشة اللاَّعلم، أو فيما يشبه العلم. بناء على هذه الحيثيات – وغيرِها – وُلدت "نظرية الوعاء الحضاري"، باعتبار أنَّ العلم في حقيقته يبدأ من المسائل وليس من المشاهدات، وأنَّ المسائل محمَّلة بالنظرية سلفا، وقد وفِّق كارل بوبر في قوله: "إنَّ عمل رجل العلم هو اقتراح النظريات، واختبارها" (انظر- منطق الكشف العلمي). فَها أنذا أقترح نظرية، وأسعى لاختبارها، مستعينًا بجملة من المعطيات، ضمن "نموذج الرشد"(2)، وبخاصة منها ما كان من علاقة حلزونية بين الفكر والفعل، وبين العلم والعمل. فما هي نظرية الوعاء الحضاري؟ تجيبنا العديد من الأحداث والوقائع، حين نلاحظها، من ذلك: *أنني التقيتُ بشاب في تركيا، وقد ألَّف كتابا في السيرة النبوية العطرة، مكوَّن من جزأين، وطَبع منه في السنَة الأولى مائة ألف نسخة، وفي السنة الثانية أربعمائة ألف نسخة. فسألت مَن حولي: هل لو طُبع نفسُ الكتاب، بنفس المحتوى، من عالِم ذائع الصيت، وبنفس المواصفات... في بيئة أخرى، وفي محيط آخر، وليكن هو "العالم العربي، مثلا"... هل سيلقى نفس الإقبال، وهل سيطبع بنفس الكميات؟ وهل يكمن الفرق فقط في جودة العمل –ولا ننكرها– أم في اعتبارات أخرى، فنية وحضارية؟ هنا أجد الجواب في "الوعاء الحضاري".
*باحث نشأ وترعرع في تخصُّص علميٍّ إنساني، غير أنه عوض أن ينصبَّ جهدُه في النتاج المعرفي، وفي "العلم العام"، وفي المسار البشري، ضمن خطِّه المكاني والزمني، أي "الآنَ" و"اليومَ"... عوض ذلك كلِّه، راح يعالج قضايا ومسائل علمية أملاها عليه محيطُه الضاغط... ذلك أنَّ هذه القضايا والمسائل مِن زمن غابر، غير زمانه؛ ومن بيئة أخرى، غير بيئته... ومِن سياق، وفي سياق آخر، غير السياق الذي خُلق فيه، وخلق له. ما الجواب إلاَّ في نظرية "الوعاء الحضاري".
*قطبُ الأيمة الشيخ اطفيش، موضوع ملتقانا هذا (3) (1)–رحمه الله– عالِم وُجِد ضمن بيئة جغرافية مغربية، داخل ساحة سياسية هي الجزائر المستعمَرة مِن فرنسا، وتحت إطار عرقي سابق هو انتماؤه البربري، ومذهب، وبلدة، وعشيرة، وعائلة... ليست في الحقيقة من اختياره.
لو حلَّلنا القُدرات العلمية لهذا العالِم لصنَّفناه في رتبة مرموقة بين عقول العالَم الإسلامي في القرن العشرين، غير أننا لو بحثنا عنه اليومَ في الدوائر العالمية، وقارناه بمحمد عبده –مثلا–، لوجدناه غائبا كلية عن الذكر، وعن الاعتبار... ولو طالعنا مؤلفاته لبهرنا بسعتها، لكنها ليست كلها في خطِّ الزمن الذي خلق فيه، وخلق له. أي أنها لم تعالج قضايا وإشكالات القرن العشرين، بروح ولغة ذلك العصر.
نقول إذن، إنَّ مجالات اهتمامات الرجل، ومبلغ أثره، ونسبة قرَّائه... كلُّ ذلك كان رهينة "وعائه الحضاري"، فلو كان من وعاء حضاري آخرَ لكان له شأن أكبر من هذا الشأن الذي نعرفه له اليوم.
مِن هنا نقول إنَّ الوعاء الحضاري هو كلُّ ما يؤثِّر في مسير الإنسان ومصيره –الدنيوي– أكيدا، والأخروي غالبا؛ فهو: جغرافيتُه، وتاريخُه، ومحيطُه، وبيئتُه، وخصائصُه الموروثة، وأحداثُ عصره، والمؤثرات في فكره، والمحرّكات لمشاعره... وهو –بلغة فن الرسم– الخلفيةُ التي يضع عليها الرسام لوحته، حجمُها، ونوعُها، وشكلُها... وهو الحال النفسية التي يكون عليها ذلك الرسام، والطبيعة التي تحيط به، والأفكار التي تعتلج في خاطره... كلُّ ذلك ليس هو الرسم نفسه، ولكنه محدِّد ومؤثِّر فيما سيصدر من أشكال وألوان ورسوم.
يُبرز مالك بن نبي –في مشكلة الأفكار– العلاقة بين الفرد ومؤثرات محيطه الاجتماعي، بكل أبعاده، فيقول: "وهكذا فالفرد يدفع ضريبة عن اندماجه الاجتماعيِّ إلى الطبيعة وإلى المجتمع. وكلَّما كان المجتمع مختلاًّ في نموِّه ارتفعت قيمة الضريبة"، وكأنَّ ابن نبي هنا يشير إلى الوعاء الحضاري، لكن دون أن يسمِّيه ويضبط حيثياته كلية.
فهل نقول إنَّ الوعاء الحضاري قدَر مقدور، أم هو من قبيل الاختيار؟ حسبُنا أن نعرف أنَّ المرء محاسَب –عند الله تعالى– عن الجانب الاختياري لا عن الجانب الاضطراري؛ فلا يَضير سيِّدَنا نوحا عليه السلام أنه بعدَ ألفِ سنة إلا خمسين عاما، "ما آمن معه إلا قليلٌ"؛ ذلك أنَّ ما يملكه هو الجهد، والفكر، والفعل... أمّا ما لا يملكه فهو "الوعاء الحضاري" المحيط به، والضاغط عليه... ومِن ثمَّ كان عند الله تعالى ناج، ومجازًى، ومبلِّغا لما أُمر به.
أمَّا مِن حيث الثمار الحضارية الزمنية فلا شكَّ أنَّ الوعاء الحضاري لسيدنا سليمان عليه السلام مثلا، قد مكَّنه من تسخير الجن والإنس والطير... ومِن بسط نبوته على الآفاق... وهو ما لم يتسنََّ لنوح عليه السلام، بسبب وعائه الحضاري المثبّط، حتى إنَّه أعلنها أخيرا: "ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دَيَّارا، إنك إن تذرهم يُضِلُّوا عبادك، ولا يلدوا إلاَّ فاجِرا كفّارا!" [سورة نوح: 26-27].
فنوح وسليمان عند الله تعالى سواء، كلاهما قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح لله، فنال رضوانه؛ أمَّا "الوعاء الحضاري" لنوح -عليه السلام- فهو دون الوعاء الحضاري لسليمان -عليه السلام- بأشواط؛ ولا يمكن أن نعزو ذلك للمواهب، أو للجهد، أو لأيّ أمر آخر.
الموضوع للنقاش، والنظرية للتطوير والصقل... ولقد كتبتُ فيها مقالاتٍ، جنبا إلى جنب مع نظرية "النسيج الحضاري"، أدعو الله أن ييسِّر إخراجهما في صورة لائقة مقبولة، تحت إطار نظري واسع هو "نموذج الرشد"؛ واللهَ نسأل أن ينفع بكل ذلك البلادَ والعبادَ، وأن يسخِّر لنا "وعاء حضاريا" محرِّكا لا مسكِّنا، ميسِّرا لا معسِّرا.
الوعاء الحضاري والظروف العامة للحضارة (مالك بن نبي): لم يأْلُ مالك بن نبي جُهدًا في توضيح العلاقة بين مكوِّنات الحضارة فيما بينها، باعتماد مَدْخليْن اثنين؛ هما في الحقيقة من ابتكاره وإبداعه، ويتمثلان في: *العوالم الثلاثة: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار" (مشكلة الأفكار) *عناصر الحضارة: الإنسان، والوقت، والتراب" (شروط النهضة).
ولو سألنا –جريا مع نسق محاضرتنا هذه– ابنَ نبي: هل العالِم -وهو في حالنا هذه قطب الأيمة- هو الذي يصنع الظروف العامَّة لحضارة ما، أم أنَّ العالِم هو نتاج هذه الظروف؟ هنا يصوغ ابن نبي قانونا صارما ليجيبنا، يستمدُّه من أصول الفيزياء والطبيعة، يقول فيه: إنَّ "جميع ضروب الخلق هذه، لا تقبل التصوُّر إلاَّ ضمن الشروط العامَّة لحضارة معيَّنة، وليس ضمن أبعاد عبقرية إنسان مفردٍ، ولا حتى بضع مئات من العباقرة" ثم يمثل لذلك بأوربا في عصر النهضة، ويقول: "فأمثال غاليليه، وليونارد دي فانشي، وميكال آنج، ودانتي، ومن لفَّ لفهم، ليسوا الذين صنعوا النهضة، ولكن شروط هذه الأخيرة هي التي صنعتهم" (القضايا الكبرى؛ ص43-44). أمَّا مثاله الحيُّ من التراث الإسلامي، أوان حضارته وازدهاره، فهو ابن سينا، الذي "لم يكن مجرَّد معطى مضمر ضمن أحد الصبغيات(chromosomes). والظروفُ العامة للمجتمع الإسلامي في عصره هي التي حقّقته بالصورة التي برز عليها إلى الوجود" (نفسه؛ ص45).
ثم يستند في حكمه هذا إلى المنطق البسيط الذي يقرِّر "أنَّ النتيجة لا تسبق سببها"، وقد استعار من الفلاّح الذي يعلم –بإدراكه السليم– أنَّ "المحراث لا يوضع أمام الثور"؛ ولم يقتصر ابن نبي على المنطق البسيط، ولا على بداهة الفلاّح، ولكنه استعان بعلم المناهج، وبعلم الاجتماع، واعتمد طريقة البرهان بالخلف(raisonnement par l'absurde) ليثبت أنَّ الظروف العامة للعالم الإسلامي، منذ عصر النهضة، ليست نتاج شخص أو أكثر، بل هي التي صنعت علماءها ورُوّادها بشكل من الأشكال؛ وإن لم يكن لينكر آثار أولئك الأشخاص في مجرى تلكم الحضارة. وغني عن البيان أنَّ ما أسماه ابن نبي بالظروف العامة للحضارة قريب في دلالته من مصطلح "الوعاء الحضاري"، محور هذه المداخلة، مع فروق فنية ليس المقام مقام بيانها.
وفي سياق آخر يستخلص ابن نبي حُكما بعد عرضه لأدلته، وهو "أنَّ الثقافة ليست ظاهرة صادرة عن المدرسة، ولكنها ظاهرة ناجمة عن البيئة" (القضايا الكبرى، ص77)، وهل البيئة سوى "الوعاء الحضاري" بكل أبعاده. لو ألقينا وابلا من الأسئلة، بناء على منطلقات مالك بن نبي، في شأن القطب اطفيش وعلاقته بوعائه الحضاري، في دوائره المنداحة: المحلية، والوطنية، والعالمية؛ لتولدت لدينا أرضية بحث خصب، مستقبلا، قد يشغل وقتا وحيزا كبيرا، لكننا نتركه لأوانه، ونُعْمل العقل في أمثلة من ذلك: ما هي الزاوية التي تفصل –أو تصل– بين القطب اطفيش العالِم وواقعه الاجتماعي الحضاري، المحلي أو الاستعماري أو الإسلامي العام؟
إذا جاز أن نقول عن ابن سينا: إنه "لم يكن مجرَّد معطى مضمر ضمن أحد الصبغيات(chromosomes). والظروفُ العامة للمجتمع الإسلامي في عصره هي التي حققته بالصورة التي برز عليها إلى الوجود"؛ إذا اعتبرنا هذا الحكم قانونا صارما؛ فما هي الظروف العامة التي صنعت القطب، وصاغته على الصورة التي كان عليها؟
ومعلوم أنَّ القطب اطفيش ليس وليد مدرسة نظامية، بل هو وليد تعليم لدى ثلة من أقاربه، وعلماء بلدته؛ ثم ارتقى إلى مستواه بفضل العصامية، والعمل الدؤوب، والجهاد المتواصل؛ بناء على هذا، ما هي الجهة الرسمية التي سطرت معالم القطب، والتي أعطته هذا التفوق؛ ما دامت الثقافة "ناجمة عن البيئة"؟ ثم، هل صنعت ذات البيئة علماء في قامة القطب؟ إذا كان الجواب بالنفي، فالسؤال: لمَ؟ وإذا كان بالإيجاب، فمن هم هؤلاء، وما الفروق بينهم وبين القطب؟ ولماذا لازمت الشهرة القطب على حساب غيره، باستثناء الشيخ بعده؟ كل هذه الأسئلة حَرِيَّة بالبحث، وليس لها جواب مصمت مغلق، بل هي من نوع الأسئلة الديناميكية المولّدة للفكر، والدافع للجدل العلمي الخصب.
الوعاء الحضاري، والعمق الاستراتيجي (داود أغلو) ألف وزير خارجية تركيا، المفكر الاستراتيجي ذائع الصيت، أحمد داود أوغلو، كتابا متميزا عنوانه "العمق الاستراتيجي"؛ ولقد أثبت فيه أنَّ ما نطلق عليه "بالوعاء الحضاري"، هو في الأساس من "المعطيات الثابتة" في استراتيجية أيِّ بلد، وحددها في: "الجغرافيا والتاريخ وعدد السكان والثقافة". وقال: "المعطيات الثابتة عبارة عن العناصر التي لا يمكن لإرادة الدولة أن تغيرها على المديين المتوسط والبعيد، ضمن المقاييس الموجودة"(ص35)؛ وبهذا تصبح "المعطيات المتغيرة" أو القشرة التي يسهل تغييرها، متمثلة في "الاقتصاد والتكنولوجيا والفكرة العسكرية"؛ ويعرّف هذه المعطيات بأنها "العناصر التي يمكن تفعيلها في المدى المتوسط والقريب، وهي العناصر التي تعكس مدى قدرة الدولة على استخدام القوى الكامنة فيها"(ص43).
وفي سياق منهجيٍّ آخر، أسَّس أوغلو نظريةً في البحث الاستراتيجي، يصدق أن تُعمََّم على مجالات البحث الأخرى، وذلك بإخضاع أيِّ بحث استراتيجي إلى خمسة مراحل، إذا تتبعها الباحث أمكن أن يهتدي إلى الحقيقة في عمقها، وإلا كان عملُه مجرَّد تخمين لا غير؛ وهذه المراحل هي: "الوصف، والتوضيح، والفهم، والتفسير، والتوجيه"؛ وفيما يخص موقع الباحث، أو ما يطلق عليه في علم الكوسمولوجية بالراصد، يقول أوغلو: "إنَّ التحليل الاستراتيجي الذي يتناول المجتمع كوحدة مستقلة، وهو يمر بفترة تطور ديناميكي، يمكن تشبيهه بحال الشخص الذي وضع نفسه في مجرى سريع الجريان والتدفق، وهو يراقب هذا النهر، وسرعة واتجاه تدفقه، وعلاقته بغيره من الأنهر. وبطبيعة الحال إذا ما تخيلت نفسك داخل هذا النهر، فستجد نفسك وأنت تراقبه من الداخل، تنساق مع تيار النهر من جهة، ويقع على عاتقك، من جهة أخرى، مسؤولية فهم خصائص تدفقه.."
ويواصل الباحث في بيان علاقة الباحث الراصد بالوعاء الحضاري محلَّ بحثه، إلى أن يقرر أنَّ "الاغتراب عن روح ومصير هذا النهر سيساهم في غياب المسؤولية الأخلاقية؛ أما الاستسلام لتيار النهر فسيعمل على تضييق مساحة المسؤولية العلمية" وبناء على هذا يقترح التوفيق بين المسؤوليتين، ويصوغ بذلك لبَّ نظريته بقوله: "إنَّ الباحث الذي لا يستطيع أن يوفق بين المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية العملية هذه –سواء كان مفكرا أو أكاديميا– يصعب عليه أن يحقق لشخصيته التماسك والانسجام، ويصعب عليه أن يحقق الانتماء الاجتماعي والثقافي، وأن يكون له دور مؤثر في تكوين الواقع العالمي" (ص15)
وفي سياق بحثنا هذا، يمكن أن نتخذ هذا النص منطلقا، ضمن نظرية الوعاء الحضاري، للسؤال عن قطب الأيمة بين "المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية العملية"؛ ونسأل: إلى أيِّ مدى تفاعل الشيخ اطفيش مع وعائه الحضاري؟، وإلى أيِّ مدى كان مراقبا له من خارج النهر؟ وهل كانت شخصيته العلمية متماسكة منسجمة؟ أم أنه عرف بعض الاضطراب، فيما يتمثل؟ وهل نصف القطب أنه منتم اجتماعيا وثقافيا إلى وعائه الحضاري في دوائره المنداحة: المحلية، والوطنية، والدولية؟ وهل كان صاحب دور في تكوين الواقع العالمي؟ أم أنه حضر في دائرة معينة وغاب عن أخرى؟
هذه الأسئلة قد لا تجد الجواب إلاَّ ضمن بحث أكاديمي، يستقصي ظروف العصر، وخصائص المجتمع، وأسباب الحركية والفعل في البيئة المحيطة بالقطب؛ ولا يكفي أن نستهل بعناوين فضفاضة من قبيل: "عصر القطب"، و"الاستعمار الفرنسي"... الخ. ذلك أنَّ هذه العناوين اختزالية، وتتناول ظاهرة العلاقة بين العالم ووعائه الحضاري في إطار ساكن جامد، بينما العلاقة في حقيقتها تتحدّد ضمن إطار متحرك ديناميكي.
القطب اطفيش، ونقاط التماسه مع وعائه الحضاري هل يُنتظر أن يفرش الناس الحريرَ للقطب اطفيش، ويستقبلوه بحفاوة، ويتقبلوا جميع مواقفه وأفكاره وإصلاحاته؟ إنَّ القانون العام، الذي خضع له الأنبياء، ويخضع له كل من سار على نهجهم إلى يوم الدين، هو أنَّ فعل الاحتكاك، وقوة المكابح، والرفض المبني على "إنا وجدنا آباءنا على أمَّة..." [الزخرف: 22]، كلُّ أولئك قَدَر مَقْدُور لكلِّ مُصلح، ولذا قال تعالى لنبيه الكريم: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون" [الذاريات: 52]. وأكّد جلّ من قائل -وهو العليم بطبيعة عباده- أنه "ياحسرة علي العباد مايأتيهم من رسول إلاَّ كانوا به يستهزءون" [يس: 30].
يقول وينتن مصطفى، الباحث المتخصص في فكر القطب: "تُعتبر الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية من أهمِّ المؤثرات على أفكار العلماء وآرائهم... ولم يشذَّ الشيخ اطفيش عن هذه الوضعية" (آراء القطب، ص17). وسنحاول أن نتعرض لهذا الاحتكاك في دوائره الثلاثة: المحلية، والوطنية، والإسلامية
أولا- وادي ميزاب، الدائرة الأصغر إذا ما استعرضنا العلاقة بين القطب والدوائر المنداحة لوعائه الحضاري، فإنَّ الدائرة الأولى هي "وادي ميزاب"، التي وإن كان لها بعض المميزات الاجتماعية والعمرانية والتنظيمية، إلاَّ أنها ليست بدعا من جسم العالم الإسلامي، فقد حملت ما حمل من أمراض وأعراض، يقول وينتن: "أماَّ الناحية الاجتماعية والفكرية، فإنَّ وادي ميزاب لم يخل من بعض الاضطرابات بين أهله، وإسراف في سفاسف الأمور، فبقي أهل العلم حتى القرن التاسع عشر الميلادي يعيشون على أنقاض ما خلفته عصور الانحطاط والتقليد والجمود" (آراء ص22)؛ ثم استدل الباحث بنص للقطب ورد في حاشية السؤالات، يصف فيه القطب هذه الحال، ويقول: "وإنما أطنبت في هذا المقام؛ لأحرِّك أذهانا ألِفَت الجمود، وأهيّج أفهاما طالما مال نيرانها إلى الخمود" (نفسه).
إن العمل على وصف قدرات القطب، وعرض نتاجه المعرفي، والتنويه بخصاله... كلُّ ذلك إذا كان منفصما عن حال بيئته، وعن مؤثرات مجتمعه، وعن النهر الذي يجرف اهتماماته، والحيرة التي تزلزل تفكيره...لا يجدي نفعا، وقد يحملنا إلى اعتبار القطب ظاهرة إعجازية، وأن لا مثيل لها، وأنه من عالم آخر غير عالم البشر؛ كما قد يؤدي إلى التقليل من جهاده واجتهاده، ومطالبته بما يفوق قدرات البشر؛ وهذا الخطأ في الفهم هو الذي حدا بالمشركين أن يطلبوا من الله إرسال "ملك رسول"، أو أن يكون النبي عليه السلام خرقا للمعتاد، فجاء الجواب الصريح الواضح: "قل سبحان ربي، هل كنت إلا بشرا رسولا"؟! [الإسراء: 93]، وإذا كان هذا صادقا في النبي الموحى إليه، فهو من باب أولى حقيقٌ على من دونه من المصلحين والعلماء.
وضمن هذا السياق نفهم ما ورد من أحكام في رسائله، يشتكي فيها هول قومه وعنادهم، ومن ذلك قوله في رسالة إلى عُمان، للإمام محمد بن عبد الله الخليلي: "وافاني سؤالك في حال اضطراب أهل البلد عليَّ، وعدم الانقياد للحقِّ، أعانني الله عليهم وعلى أهل الشرك" (شريفي، قراءة في مراسلات القطب؛ مجلة الحياة، عدد 15، ص254).
ولنا أن نسأل بناءً على نظرية "الوعاء الحضاري": لو افترضنا أنَّ القطب عاش في حضيرة من حواضر الإسلام، بغداد، أو القاهرة، أو فاس مثلا؛ فهل ستكون اهتماماته ذات الاهتمامات التي اشتغل بها؟ وهل ستتغير طبيعة مؤلفاته؟ وهل ستكون أكثر ارتباطا بالقضايا الحضارية للأمة الإسلامية قاطبة؟ أي، هل ستكون حركيته نهضة عالمية الصبغة، على شاكلة معاصريه جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897)، ومحمد عبده (1849-1905)؟ لا شكَّ أنَّ للوعاء الحضاري دور في هذا لا ينكره أحد؛ ولا أدلَّ على ذلك من "التعتيم" -المقصود أو غير المقصود- الذي يلحق علماء المغرب الإسلامي عموما، والجزائر بالخصوص، عبر تاريخها المعاصر؛ فقد تجد الواحد منهم عالما ومجددا في مجاله، إلا أنَّ القدَر يكتب لمن هو أدنى منه، وما ذلك إلا لكون الأول مغربيا والثاني مشرقيا.
ثانيا- الجزائر، الدائرة الأوسط القطب اطفيش "مواطن فرنسي"، هذا تعريف ونسبةٌ يصعب على العقل والقلب أن يستوعبهما؛ لكنها الحقيقة والواقع، وما كان عليه القطب في علاقته بوطنه المستعمَر، إذ إنَّ القطب شهد غزو فرنسا للجزائر، وعمره لا يتجاوز تسعة أعوام، فعاش طول حياته وهو لا ينعم بنعمة الاستقلال، وقد كان ذلك مؤثرا قويا في تحديد معالم شخصيته، وتوجيه مواقفه، حتى إنه كان دوما يمنِّ النفس بالجهاد، لكن الظروف القريبة والبعيدة، والتيار الجارف الغالب والملزم، كل ذلك منعه، حتى أنشد:
لولا ثلاث هن: تعليم جاهل وخدمة ربي، والجهاد لذي الكفر لما كنتُ أخشى الموت والموت لازم وإلا فما الحياة والمرء في قهر
والحقُّ أنَّ أثر الاستعمار على القطب كان شديدا، يقول وينتن: "وهذا الشعور يقتضي منه قيادة ثورة، لكن لم تتح له الظروف لذلك، فقام بمحاولة أولى وقمعها الاستعمار في مهدها لما دخل أرض وادي ميزاب، وبعدها رجع الشيخ إلى التأليف والتعليم" (آراء، ص37) وما أبلغ قول القطب مبرِّرا موقفه هذا: "أكبُّ على التأليف إذ لم أجد بنا غازيا يوما، ولا ما به أغزو" (التيسير، ج4، ص377).
وقد أرجع وينتن أسباب عدم القدرة على الغزو إلى ما هو في الحقيقة – لو حللناه – مكونات "للوعاء الحضاري"، في مستوياته الأولى: "الوضع الاجتماعي"، و"فقدان العدد والعدة"، و"البيئة الصحراوية"؛ بل وحال أهله وقومه الذين – مع الجهل – لا يقدرون على شيء، ولا يستجيبون للمعالي؛ ولذا راح يجتهد في التعليم، وإعداد أجيال مستقبلية لعلها تكون اللبنة لهذا الجهاد المبارك؛ فكان من تلاميذه: الشيخ أبو اليقظان إبراهيم، حامل لواء ثورة الإعلام؛ والشيخ أبو إسحاق اطفيش، صاحب لواء الجهاد في المشرق؛ وسليمان الباروني باشا، قائد ليبيا إلى الثورة على إيطاليا... وغيرهم كثير.
من هنا نستنج أنَّ على المصلح أن يعتبر المرحلة، وأنَّ لا يحصر الجهاد في صورة واحدة، فما يكون لائقا في ظروف معينة قد يكون تهورا في ظروف مختلفة، ومن أبلغ الفقه الوعيُ بمتطلبات العصر والظروف، أي إدراك حقيقة الوعاء الحضاري الذي يتحرك هذا العالم ضمنه.
ثالثا- العالَم الإسلامي، الدائرة الأوسع لم يكن العالم الإسلامي في عصر القطب أحسن حالا من الجزائر، وبخاصة أنَّ الخلافة العثمانية ضعفت، ثم تهاوت، ثم شارك في اغتيالها العديد من المسلمين، ونعوها، كأنهم يقيمون عرسا، أو يحتفلون بنصر؛ إلاَّ أن القطب، مع كونه معزولا عن العالم الخارجي عموما، لأسباب عديدة، منها إقامته الجبرية، ومنها موقع ميزاب الجغرافي، وغياب وسائل التواصل والاتصال... إلاَّ أنه حمل الهمّ، وتفاعل مع العالم الإسلامي بهَمٍّ واهتمام. ويمكن التمثيل لهذا التفاعل الإيجابي، في إطار الإمكان، تلك العلاقات التي ربطته بثلة من علماء عصره، وكذا العلاقة التي "كانت بينه وبين سلاطين عُمان وزنجبار... كما كانت للشيخ اطفيش اتصالات بالخلافة العثمانية أيام عبد الحميد الثاني" (وينتن، ص53).
أمَّا في مستوى الهمِّ والاتصال والتواصل، فإنَّ القطب لم يتوان، ولم يقصِّر في أي فرصة واتته، من ذلك الرحلتان الحجازيتان، وكذا المراسلة، والدعاء... غير أن مستوى الفعل المباشر رهينٌ بالوعاء الحضاري الذي يحيط بالعالم، فلو أنّه كان في – الباب العالي، أو في بغداد، مثلا – لكانت أفعاله ومواقفه وحركيته خلاف ما كانت عليه وهو في صحراء نائية في الجزائر المستعمَرة. ولذا ليس من الحكمة أن نعنّت القطب، ولا أن نطلب منه فوق طاقة البشر، أو نحاكمه إلى ظروف وأسباب غير الأسباب التي تحيط به؛ فهو إنسان، بشر، عاجز، عامل، مجتهد، مصيب أحيانا، ومخطئ أخرى... ويكفي أن ندرك أنَّ حساب الله تعالى لا يكون بناء على معيار ومقياس موحَّد، لكنه سيكون حسب ظروف المرء، وهذا معنى قوله سبحانه: "على المُوسع قدْرُه، وعلى المُقْتِر قدْرُه" [البقرة: 236]، والسعة والقتر لا يقتصران على المال فقط، بل يتجاوزان إلى كل الأسباب.
خاتمة: العالِم يحرّك الأمواج، ولا يصنع المحيط لسائل أن يسأل: ما هو دور العالم إذن، إذا كان رهينة وعائه الحضاري؟ الجواب هو أنَّ العالم "يحرِّك الأمواج"، ويحدث التغيير، ويشارك في الإصلاح أو الثورات، بكل مقاييسها، وقد يتحول جهده بعد أمد إلى "قطعة من طبيعة الوعاء الحضاري لأمته"؛ غير أنَّ العالِم لا يستطيع أن "يصنع المحيط"، ولا أن يقوم بانقلاب جذري، في ظروف زمنية قصيرة، لا تتجاوز عمره؛ وليس من العلم في شيء أن نربط تاريخ أمة على عالِم أو حدث أو طفرة، بل إنَّ هذا من الأخطاء التي ترتكب تكرارا في منهج التأريخ للفكر والتراث الإسلامي. من هنا نقول: "إنَّ العالِم يحرّك الأمواج، ولا يصنع المحيط"؛ وإنَّ القطب اطفيش علاَّمة فارقة في تاريخ أمته، وليس علامة –ولا ينبغي له أن يكون علامة– لتاريخ أمته ووعائه الحضاري. والله الموفق للصواب.